قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم } ، سبب نزول هذه الآية : ما روي أن تميم بن أوس الداري ، وعدي بن زيد ، قد خرجا من المدينة للتجارة إلى أرض الشام ، وهما نصرانيان ، ومعهما بديل -مولى عمرو بن العاص- وكان مسلما ، فلما قدموا الشام مرض بديل ، فكتب كتابا فيه جميع ما معه من المتاع ، وألقاه في جوالقه ، ولم يخبر صاحبيه بذلك ، فلما اشتد وجعه أوصى إلى تميم وعدي ، وأمرهما أي يدفعا متاعه إذا رجعا إلى أهله ، ومات بديل ، ففتشا متاعه ، وأخذا منه إناء من فضة منقوشا بالذهب فيه ثلاثمائة مثقال فضة ، فغيباه ، ثم قضيا حاجتهما ، فانصرفا إلى المدينة ، فدفعا المتاع إلى أهل البيت ، ففتشوا وأصابوا الصحيفة فيها تسمية ما كان معه ، فجاؤوا تميما وعديا فقالوا : هل باع صاحبنا شيئا من متاعه ؟ قالا : لا ، قالوا : فهل اتجر تجارة ؟ قالا : لا ، قالوا : هل طال مرضه فأنفق على نفسه ؟ قالا : لا ، فقالوا : إنا وجدنا في متاعه صحيفة فيها تسمية ما كان معه ، وإنا قد فقدنا منها إناء من فضة مموها بالذهب ، فيه ثلاثمائة مثقال فضة ، قالا : ما ندري ، إنما أوصى لنا بشيء فأمرنا أن ندفعه إليكم فدفعناه ، وما لنا علم بالإناء ، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأصرا على الإنكار ، وحلفا ، فأنزل الله عز وجل هذه الآية { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان } أي : ليشهد اثنان ، لفظه خبر ، ومعناه أمر ، قيل : إن معناه : أن الشهادة فيما بينكم على الوصية عند الموت اثنان ، واختلفوا في هذين الاثنين ، فقال قوم : هما الشاهدان اللذان يشهدان على وصية الموصي . وقال آخرون : هما الوصيان ، لأن الآية نزلت فيهما ، ولأنه قال : { تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان } ، ولا يلزم الشاهد يمين ، وجعل الوصي اثنين تأكيدا ، فعلى هذا تكون الشهادة بمعنى الحضور ، كقولك : شهدت وصية فلان ، بمعنى حضرت ، قال الله تعالى : { وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } [ النور :2 ] ، يريد الحضور .
قوله تعالى : { ذوا عدل } أي : أمانة وعقل .
قوله تعالى : { منكم } ، أي : من أهل دينكم يا معشر المؤمنين .
قوله تعالى : { أو آخران من غيركم } ، أي : من غير دينكم وملتكم ، في قول أكثر المفسرين ، قاله ابن عباس ، وأبو موسى الأشعري ، وهو قول سعيد بن المسيب ، وإبراهيم النخعي ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد ، وعبيدة ، ثم أختلف هؤلاء في حكم الآية فقال النخعي وجماعة : هي منسوخة ، وكانت شهادة أهل الذمة مقبولة في الابتداء ، ثم نسخت . وذهب قوم إلى أنها ثابتة ، وقالوا : إذا لم نجد مسلمين فنشهد كافرين . قال شريح : من كان بأرض غربة ولم يجد مسلما يشهده على وصيته فأشهد كافرين على أي دين كانا ، من دين أهل الكتاب أو عبدة الأوثان ، فشهادتهم جائزة ، ولا يجوز شهادة كافر على مسلم إلا على وصية في سفر . وعن الشعبي أن رجلا من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا ولم يجد مسلما يشهده على وصيته ، فأشهد رجلين من أهل الكتاب ، فقدما الكوفة بتركته ، وأتيا الأشعري فأخبراه بتركته ووصيته ، فقال الأشعري : هذا أمر لم يكن بعد الذي كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فأحلفهما ، وأمضى شهادتهما . وقال آخرون : قوله { ذوا عدل منكم } أي : من حي الموصي ، { أو آخران من غيركم } أي من غير حيكم ، وعشيرتكم ، وهو قول الحسن ، والزهري ، وعكرمة . وقالوا : لا تجوز شهادة كافرين في شيء من الأحكام .
قوله تعالى : { إن أنتم ضربتم } ، أي سرتم وسافرتم .
قوله تعالى : { في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت } ، فأوصيتم إليهما . ودفعتم إليهما مالكم ، فاتهمهما بعض الورثة ، وادعوا عليهما خيانة ، فاحكم فيه أن { تحبسونهما } ، أي : تستوقفونهما .
قوله تعالى : { من بعد الصلاة } ، أي : بعد الصلاة ، و { من } صلة يريد : بعد صلاة العصر ، هذا قول الشعبي ، والنخعي ، وسعيد بن جبير ، وقتادة ، وعامة المفسرين ، لأن جميع أهل الأديان يعظمون ذلك الوقت ، ويجتنبون فيه الحلف الكاذب ، وقال الحسن : أراد من بعد صلاة الظهر . وقال السدي : من بعد صلاة أهل دينهما ، وملتهما ، لأنهما لا يباليان بصلاة العصر .
قوله تعالى : { فيقسمان } ، يحلفان .
قوله تعالى : { بالله إن ارتبتم } ، أي : شككتم ، ووقعت لكم الريبة في قول الشاهدين وصدقهما ، أي : في قول اللذين ليسا من أهل ملتكم ، فإن كانا مسلمين فلا يمين عليهما .
قوله تعالى : { لا نشتري به ثمنا } ، أي : لا نحلف بالله كاذبين على عوض نأخذه ، أو مال نذهب به ، أو حق نجحده .
قوله تعالى : { ولو كان ذا قربى } ، ولو كان المشهود له ذا قرابة منا .
قوله تعالى : { ولا نكتم شهادة الله } أضاف الشهادة إلى الله لأنه أمر بإقامتها ، ونهى عن كتمانها ، وقرأ يعقوب { شهادة } بتنوين { الله } ممدود ، وجعل الاستفهام عوضا عن حرف القسم ، ويروى عن أبي جعفر { شهادة } ، منونة { الله } بقطع الألف ، وكسر الهاء ، من غير استفهام على ابتداء اليمين ، أي : والله .
قوله تعالى : { إنا إذا لمن الآثمين } ، أي إن كتمناها كنا من الآثمين ، فلما نزلت هذه الآية صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر ، ودعا تميما وعديا فاستحلفهما عند المنبر بالله الذي لا إله إلا هو أنهما لم يختانا شيئا مما دفع إليهما ، فحلفا على ذلك ، وخلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبيلهما . ثم ظهر الإناء واختلفوا في كيفية ظهوره ، فروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهم أنه وجد بمكة ، فقالوا : إنا اشتريناه من تميم وعدي ، وقال آخرون : لما طالت المدة أظهروه ، فبلغ ذلك بني سهم فأتوهما في ذلك ، فقالا : إنا كنا قد اشتريناه منه ، فقالوا : ألم تزعما أن صاحبنا لم يبع شيئا من متاعه ؟ قالا : لم يكن عندنا بيّنة فكرهنا أن نقر لكم به فكتمناه لذلك ، فرفعوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأنزل الله عز وجل { فإن عثر على أنهما استحق إثما . . . } .
{ 106 - 108 } { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ * فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ * ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ }
يخبر تعالى خبرا متضمنا للأمر بإشهاد اثنين على الوصية ، إذا حضر الإنسان مقدماتُ الموت وعلائمه . فينبغي له أن يكتب وصيته ، ويشهد عليها اثنين ذوي عدل ممن تعتبر شهادتهما .
{ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } أي : من غير أهل دينكم ، من اليهود أو النصارى أو غيرهم ، وذلك عند الحاجة والضرورة وعدم غيرهما من المسلمين .
{ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ } أي : سافرتم فيها { فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ } أي : فأشهدوهما ، ولم يأمر بشهادتهما إلا لأن قولهما في تلك الحال مقبول ، ويؤكد عليهما ، بأن يحبسا { مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ } التي يعظمونها .
{ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ } أنهما صدقا ، وما غيرا ولا بدلا ، هذا { إِنِ ارْتَبْتُمْ } في شهادتهما ، فإن صدقتموهما ، فلا حاجة إلى القسم بذلك .
ويقولان : { لَا نَشْتَرِي بِهِ } أي : بأيماننا { ثَمَنًا } بأن نكذب فيها ، لأجل عرض من الدنيا . { وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } فلا نراعيه لأجل قربه منا { وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ } بل نؤديها على ما سمعناها { إِنَّا إِذًا } أي : إن كتمناها { لَمِنَ الْآثِمِينَ }
والآن يجيء الحكم الأخير من الأحكام الشرعية التي تتضمنها السورة ، في بيان بعض أحكام المعاملات في المجتمع المسلم ، وهو الخاص بتشريع الإشهاد على الوصية في حالة الضرب في الأرض ، والبعد عن المجتمع والضمانات التي تقيمها الشريعة ليصل الحق إلى أهله .
( يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت - حين الوصية - اثنان ذوا عدل منكم ، أو آخران من غيركم ، إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت ، تحبسونهما من بعد الصلاة ، فيقسمان بالله - إن ارتبتم - لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ، ولا نكتم شهادة الله ، إنا إذا لمن الآثمين . فإن عثر على أنهما استحقا إثما فالآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم . . الأوليان . . فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما ، وما اعتدينا ، إنا إذن لمن الظالمين . ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها ، أو يخافوا أن ترد إيمان بعد أيمانهم ؛ واتقوا الله واسمعوا ، والله لا يهدي القوم الفاسقين ) . .
وبيان هذا الحكم الذي تضمنته الآيات الثلاث : أن على من يحس بدنو أجله ، ويريد أن يوصي لأهله بما يحضره من المال ، أن يستحضر شاهدين عدلين من المسلمين إن كان في الحضر ، ويسلمهما ما يريد أن يسلمه لأهله غير الحاضرين . فأما إذا كان ضاربا في الأرض ، ولم يجد مسلمين يشهدهما ويسلمهما ما معه ، فيجوز أن يكون الشاهدان من غير المسلمين .
فإن ارتاب المسلمون - أو ارتاب أهل الميت - في صدق ما يبلغه الشاهدان وفي أمانتهما في أداء ما استحفظا عليه ، فإنهم يوقفونهما بعد أدائهما للصلاة - حسب عقيدتهما - ليحلفا بالله ، أنهما لا يتوخيان بالحلف مصلحة لهما ولا لأحد آخر ، ولو كان ذا قربى ، ولا يكتمان شيئا مما استحفظا عليه . . وإلا كانا من الآثمين . . وبذلك تنفذ شهادتهما .
القول في تأويل قوله تعالى : { يِا أَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَأَصَابَتْكُم مّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىَ وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللّهِ إِنّآ إِذَاً لّمِنَ الاثِمِينَ } . .
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ " يقول : ليشهد بينكم إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الوَصِيّةِ يقول : وقت الوصية ، اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ يقول : ذوا رشد وعقل وحِجا من المسلمين . كما :
حدثنا محمد بن بشار ، وعبيد الله بن يوسف الجبيري ، قالا : حدثنا مؤمل بن إسماعيل ، قال : حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، في قوله : " وأشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ " قال : ذوا عقل .
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله : ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ فقال بعضهم : عني به : من أهل ملتكم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، قال : شاهدان ذوا عدل منكم من المسلمين .
حدثنا عمروان بن موسى القزّاز ، قال : حدثنا عبد الوارث بن سعيد ، قال : حدثنا إسحاق بن سويد ، عن يحيى بن يعمر ، في قوله : " اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ من المسلمين " .
حدثنا ابن بشار وابن المثنى ، قالا : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، في قوله : " اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ " قال : اثنان من أهل دينكم .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن أشعث ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، قال : سألته ، عن قول الله تعالى : اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ قال : من الملة .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، بمثله ، إلا أنه قال فيه : من أهل الملة .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، قال : سألت عبيدة عن هذه الاية : " اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ " قال : من أهل الملة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن ابن عون ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حسين ، عن زائدة ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، قال : سألت عبيدة ، فذكر مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن مهدي ، عن حماد ، عن ابن أبي نجيح ، وقال : حدثنا مالك بن إسماعيل ، عن حماد بن زيد ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ " قال : ذوا عدل من أهل الإسلام .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : " ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ " قال : من المسلمين .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كان سعيد بن المسيب يقول : اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ : أي من أهل الإسلام .
وقال آخرون : عني بذلك : ذوا عدل من حيّ الموصي ، وذلك قول رُوِي عن عكرمة وعبيدة وعدّة غيرهما .
واختلفوا في صفة الاثنين اللذين ذكرهما الله في هذه الاَية ما هي ، وما هما ؟ فقال بعضهم : هما شاهدان يشهدان على وصية الموصي . وقال آخرون : هما وصيان .
وتأويل الذين زعموا أنهما شاهدان ، قوله : شَهادَةُ بَيْنِكُمْ ليشهد شاهدان ذوا عدل منكم على وصيتكم . وتأويل الذين قالوا : هما وصيان لا شاهدان ، قوله : شَهادَةُ بَيْنِكُمْ بمعنى الحضور والشهود لما يوصيهما به المريض ، من قولك : شهدت وصية فلان ، بمعنى حضرته .
وأولى التأويلين بقوله : اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ تأويل من تأوّله بمعنى : أنهما من أهل الملة دون من تأوّله أنهما من حيّ الموصي .
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالاية ، لأن الله تعالى عم المؤمنين بخطابهم بذلك في قوله : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الوَصِيّةِ اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ " فغير جائز أن يُصرف ما عمه الله تعالى إلى الخصوص إلا بحجة يجب التسليم لها . وإذ كان ذلك كذلك ، فالواجب أن يكون العائد من ذكرهم على العموم ، كما كان ذكرهم ابتداء على العموم .
وأَوْلَى المعنيين بقوله : شَهادَةُ بَيْنِكُمْ اليمين ، لا الشهادة التي يقوم بها من عنده شهادة لغيره لمن هي عنده على من هي عليه عند الحكام لأنّا لا نعلم لله تعالى حكما يجب فيه على الشاهد اليمين ، فيكون جائزا صرف الشهادة في هذا الموضع إلى الشهادة التي يقوم بها بعض الناس عند الحكام والأئمة . وفي حكم الاية في هذه اليمين على ذوي العدل ، وعلى من قام مقامهم في اليمين بقوله : " تَحْبِسُوَنهُما مِنْ بَعْدِ الصّلاةِ فَيُقْسمِانِ باللّهِ " أوضح الدليل على صحة ما قلنا في ذلك من أن الشهادة فيه الأيمان دون الشهادة التي يقضي بها للمشهود له على المشهود عليه ، وفساد ما خالفه .
فإن قال قائل : فهل وجدت في حكم الله تعالى يمينا تجب على المدّعي فتوجه قولك في الشهادة في هذا الموضع إلى الصحة ؟ فإن قلت : لا ، تبين فساد تأويلك ذلك على ما تأوّلت ، لأنه يجب على هذا التأويل أن يكون المقسمان في قوله : " فإنْ عُثرَا على أنّهُما اسْتَحَقّا إثْما فآخَرَانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الّذِينَ اسْتَحَقّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ باللّهِ لشَهادَتُنا أحَقّ مِنْ شَهادَتِهِما " هما المدعيين . وإن قلت بلى ، قيل لك : وفي أيّ حكم الله تعالى وجدت ذلك ؟ قيل : وجدنا ذلك في أكثر المعاني ، وذلك في حكم الرجل يدّعي قِبَل رجل مالاً ، فيقرّ به المدّعي عليه قبله ذلك ويدعي قضاءه ، فيكون القول قول ربّ الدين ، والرجل يعترف في يد الرجل السلعة ، فيزعم المعترَفة في يده أنه اشتراها من المدّعي أو أن المدّعي وهبها له ، وما أشبه ذلك مما يكثر إحصاؤه . وعلى هذا الوجه أوجب الله تعالى في هذا الموضع اليمين على المدّعيين اللذين عثرا على الجانيين فيما جنيا فيه .
واختلف أهل العربية في الرافع قوله : " شَهادَةُ بَيْنِكُمْ " ، وقوله : اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ . فقال بعض نحويي البصرة : معنى قوله : شَهادَةُ بَيْنِكُمْ شهادة اثنين ذوي عدل ، ثم ألقيت الشهادة وأقيم الاثنان مقامها ، فارتفعا بما كانت الشهادة به مرتفعة لو جعلت في الكلام . قال : وذلك في حذف ما حذف منه وإقامة ما أقيم مقام المحذوف ، نظير قوله : وَاسأَلِ القَرْيَةَ وإنما يريد : واسأل أهل القرية ، وانتصبت القرية بانتصاب الأهل وقامت مقامه ، ثم عطف قوله : «أو آخران » على «الاثنين » .
وقال بعض نحويي الكوفة : رفع الاثنين بالشهادة : أي ليشهدكم اثنان من المسلمين ، أو آخران من غيركم . وقال آخر منهم : رفعت الشهادة ب «إذا حضر » . وقال : إنما رفعت بذلك لأنه قال : «إذا حضر » ، فجعلها شهادة محذوفة مستأنفة ، ليست بالشهادة التي قد رفعت لكلّ الخلق ، لأنه قال تعالى ذكره : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " ، وهذه شهادة لا تقع إلا في هذا الحال ، وليست مما ثبت .
وأولى هذه الأقوال في ذلك عندي بالصواب ، قول من قال : الشهادة مرفوعة بقوله : إذَا حَضَرَ لأن قوله : إذا حَضَرَ بمعنى : عند حضور أحدكم الموت ، والاثنان مرفوع بالمعنى المتوهم ، وهو أن يشهد اثنان ، فاكتفي من قيل أن يشهد بما قد جري من ذكر الشهادة في قوله : شَهادَةُ بَيْنِكُمْ .
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب ، لأن الشهادة مصدر في هذا الموضع ، والاثنان اسم ، والاسم لا يكون مصدرا ، غير أن العرب قد تضع الأسماء مواضع الأفعال . فالأمر وإن كان كذلك ، فصرف كل ذلك إلى أصحّ وجوهه ما وجدنا إليه سبيلاً أولى بنا من صرفه إلى أضعفها .
القول في تأويل قوله تعالى : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " .
يقول تعالى ذكره للمؤمنين : ليشهد بينكم إذا حضر أحدكم الموت عدلان من المسلمين ، أو آخران من غير المسلمين .
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل قوله : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " فقال بعضهم : معناه : أو آخران من غير أهل ملتكم نحو الذي قلنا فيه .
حدثنا حميد بن مسعدة ، وبشر بن معاذ ، قالا : حدثنا يزيد بن زريع ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " من أهل الكتاب .
حدثنا محمد بن بشار ، ومحمد بن المثنى ، قالا : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، قال : سمعت قتادة يحدّث ، عن سعيد بن المسيب : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " : من أهل الكتاب .
حدثني أبو حفص الجبيري عبيد الله بن يوسف ، قال : حدثنا مؤمل بن إسماعيل ، قال : حدثنا شعبة ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، مثله .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد ، مثله .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم وسليمان التيّمي ، عن سعيد بن المسيب ، أنهما قالا في قوله : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " قالا : من غير أهل ملتكم .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا مغيرة ، قال : ثني من سمع سعيد بن جبير ، يقول ، مثل ذلك .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا التيمي ، عن أبي مجلز ، قال : من غير أهل ملتكم .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال : إن كان قربه أحد من المسلمين أشهدهم ، وإلا أشهد رجلين من المشركين .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا قتيبة ، قال : حدثنا هشيم ، عن المغيرة ، عن إبراهيم ، وسعيد بن جبير ، في قوله : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " قالا : من غير أهل ملتكم .
حدثنا عمرو ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " قال : من أهل الكتاب .
حدثنا عمرو ، قال : حدثنا محمد بن سواء ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، مثله .
حدثنا هناد ، قال : حدثنا وكيع ، وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن شعبة ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، مثله .
حدثنا عمران بن موسى ، قال : حدثنا عبد الوارث بن سعيد ، قال : حدثنا إسحاق بن سويد ، عن يحيى بن يعمر ، في قوله : " اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ " من المسلمين ، فإن لم تجدوا من المسلمين ، فمن غير المسلمين .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن عامر ، عن شريح ، في هذه الاية : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الوَصِيّةِ اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُم " قال : إذا كان الرجل بأرض غربة ولم يجد مسلما يشهده على وصيته ، فأشهد يهوديّا أو نصرانيا أو مجوسيا ، فشهادتهم جائزة . فإن جاء رجلان مسلمان فشهدا بخلاف شهادتهما ، أجيزت شهادة المسلمين ، وأبطلت شهادة الاخَرَيْن .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا الأعمش ، عن إبراهيم ، عن شريح : أنه كان لا يجيز شهادة اليهود والنصارى على مسلم إلا في الوصية ، ولا يجيز شهادتهما على الوصية إلا إذا كانوا في سفر .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا أبو معاوية ووكيع ، قالا : حدثنا الأعمش ، عن إبراهيم ، عن شريح ، قال : لا تجوز شهادة اليهود والنصارى إلا في سفر ، ولا تجوز في سفر إلا في وصية .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، عن شريح ، نحوه .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا محمد بن عبد الله بن الزبير الأسدي ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور عن إبراهيم ، قال : كتب هشام بن هبيرة لمسلمة عن شهادة المشركين على المسلمين ، فكتب : لا تجوز شهادة المشركين على المسلمين إلا في وصية ، ولا يجوز في وصية إلا أن يكون الرجل مسافرا .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن أشهب ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، قال : سألته عن قول الله تعالى : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " قال : من غير الملة .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، بمثله .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن علية ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، قال : سألت عبيدة ، عن ذلك فقال : من غير أهل الملة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جرير ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، قال : من غير أهل الصلاة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، قال : من غير أهل دينكم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حسين ، عن زائدة ، عن هشام ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، قال : من غير أهل الملة .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا أبو حرّة ، عن محمد بن سيرين ، عن عبيدة : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " قال : من غير أهل ملتكم .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن عثمان ، قال : حدثنا هشام بن محمد ، قال : سألت سعيد بن جبير عن قول الله : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " قال : من غير أهل ملتكم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا مالك بن إسماعيل ، عن حماد بن زيد ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا حماد بن زيد ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : من غير أهل ملتكم .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " قال : من غير أهل الإسلام .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، قال : قال أبو إسحاق : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " قال : من اليهود والنصارى . قال : قال شريح : لا تجوز شهادة اليهوديّ والنصرانيّ إلا في وصية ، ولا تجوز في وصية إلا في سفر .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا زكريا ، عن الشعبي : أن رجلاً من المسلمين حضرته الوفاة بدَقُوقَا ، ولم يجد أحدا من المسلمين يشهده على وصيته ، فأشهد رجلين من أهل الكتاب . فقدما الكوفة ، فأتيا الأشعري فأخبراه ، وقدما بتركته ووصيته ، فقال الأشعري : هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . فأحلفهما ، وأمضى شهادتهما .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا شعبة ، عن مغيرة الأزرق ، عن الشعبيّ : أن أبا موسى قضى بها بَدقُوقا .
حدثنا عمرو ، قال : حدثنا عثمان بن الهيثم ، قال : حدثنا عوف ، عن محمد ، أنه كان يقول في قوله : " اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " شاهدان من المسلمين وغير المسلمين .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " : من غير أهل الإسلام .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن سعد ، قال : أخبرنا أبو حفص ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : من غير أهل الإسلام .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني عبد الله بن عياش ، قال : قال زيد بن أسلم في هذه الاية : " شَهادَةُ بَيْنِكُمْ . . . " الاية كلها . قال : كان ذلك في رجل تُوُفّيَ وليس عنده أحد من أهل الإسلام ، وذلك في أوّل الإسلام والأرض حرب والناس كفار ، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالمدينة ، وكان الناس يتوارثون بالوصية ، ثم نُسخت الوصية وفُرضت الفرائض ، وعمل المسلمون بها .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : أو آخران من غير حَيّكم وعشيرتكم .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا عثمان بن الهيثم بن الجَهْم ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن ، في قوله : " اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " قال : شاهدان من قومكم ومن غير قومكم .
حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا صالح بن أبي الأخضر ، عن الزهريّ ، قال : مضت السنة أن لا تجوز شهادة كافر في حضر ولا سفر ، إنما هي في المسلمين .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : كان الحسن يقول : " اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ " أي من عشيرته " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " قال : من غير عشيرته .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن ثابت بن زيد ، عن عاصم ، عن عكرمة : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " قال : من غير أهل حيكم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن مهديّ ، عن ثابت بن زيد ، عن عاصم ، عن عكرمة : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " قال : من غير حيكم .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا ثابت بن زيد ، عن عاصم الأحول ، عن عكرمة في قول الله تعالى : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " قال : من غير أهل حيه يعني من المسلمين .
حدثني الحرث بن محمد ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا مبارك ، عن الحسن : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " قال : من غير عشيرتك ، ومن غير قومك كلهم من المسلمين .
حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن أيوب ، عن ابن سيرين ، عن عبيدة ، قوله : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " قال : مسلمين من غير حيكم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني الليث ، قال : ثني عقيل ، قال : سألت ابن شهاب عن قول الله تعالى : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ . . . إلى قوله : وَاللّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفاسِقِينَ " قلت : أرأيت الاثنين اللذين ذكر الله من غير أهل المرء الموصي أهما من المسلمين أم هما من أهل الكتاب ؟ وأرأيت الاخرين اللذين يقومان مقامهما ، أتراهما من غير أهل المرء الموصي ؟ أم هما من غير المسلمين ؟ قال ابن شهاب : لم نسمع في هذه الاية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن أئمة العامة سنة أذكرها ، وقد كنا نتذاكرها أناسا من علمائنا أحيانا ، فلا يذكرون فيها سنة معلومة ولا قضاء من إمام عادل ، ولكنه يختلف فيها رأيهم . وكان أعجبهم فيها رأيا إلينا الذين كانوا يقولون : هي فيما بين أهل الميراث من المسلمين ، يشهد بعضهم الميت الذي يرثونه ويغيب عنه بعضهم ، ويشهد من شهده على ما أوصى به لذوي القربى فيخبرون من غاب عنه منهم بما حضروا من وصية ، فإن سلموا جازت وصيته ، وإن ارتابوا أن يكونوا بدّلوا قول الميت وآثروا بالوصية من أرادوا ممن لم يوص لهم الميت بشيء حلف اللذان يشهدان على ذلك بعد الصلاة وهي صلاة المسلمين ، فيقسمان بالله : إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ، ولا نكتم شهادة الله ، إنا إذا لمن الاثمين ، فإذا أقسما على ذلك جازت شهادتهما وأيمانهما ما لم يعثر على أنهما استحقا إثما في شيء من ذلك ، فإن عثر قام آخران مقامهما من أهل الميراث من الخصم الذين ينكرون ما شهد به عليه الأوّلان المستحلفان أوّل مرّة ، فيقسمان بالله : لشهادتنا على تكذيبكما أو إبطال ما شهدتما به وما اعتدينا ، إنا إذن لمن الظالمين ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها ، أو يخافوا أن تردّ أيمان بعد أيمانهم . . . الاية .
وأولى التأويلين في ذلك عندنا بالصواب تأويل من تأوّله : أو آخران من غير أهل الإسلام وذلك أن الله تعالى عرّف عباده المؤمنين عند الوصية شهادة اثنين من عدول المؤمنين أو اثنين من غير المؤمنين ، ولا وجه لأن يقال في الكلام صفة شهادة مؤمنين منكم أو رجلين من غير عشيرتكم ، وإنما يقال : صفة شهادة رجلين من عشيرتكم أو من غير عشيرتكم ، أو رجلين من المؤمنين أو من غير المؤمنين . فإذ كان لا وجه لذلك في الكلام ، فغير جائز صرف مغلق كلام الله تعالى إلا إلى أحسن وجوهه . وقد دللنا قبل على أن قوله تعالى : " ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ " إنما هو من أهل دينكم وملتكم بما فيه كفاية لمن وفق لفهمه . وإذا صحّ ذلك بما دللنا عليه ، فمعلوم أن معنى قوله : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " إنما هو : أو آخران من غير أهل دينكم وملتكم . وإذ كان ذلك كذلك ، فسواء كان الاخران اللذان من غير أهل ديننا يهوديين كانا أو نصرانيين أو مجوسيين أو عابدي وثن أو على أيّ دين كانا ، لأن الله تعالى لم يخصص آخرين من أهل ملة بعينها دون ملة بعد ألاّ يكونا من ( غير ) أهل الإسلام .
القول في تأويل قوله تعالى : " إنْ أنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَأصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ المَوْتِ " .
يقول تعالى ذكره للمؤمنين : صفة شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت وقت الوصية ، أن يشهد اثنان ذوا عدل منكم أيها المؤمنون أو رجلان آخران من غير أهل ملتكم ، إن أنتم سافرتم ذاهبين وراجعين في الأرض . وقد بينا فيما مضى السبب الذي من أجله قيل للمسافر الضارب في الأرض . " فَأصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ المَوْتِ " يقول : فنزل بكم الموت . ووجه أكثر التأويل هذا الموضع إلى معنى التعقيب دون التخيير وقالوا : معناه : شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم ، إن وجدا ، فإن لم يوجدا فآخران من غيركم ، وإنما فعل ذلك من فعله ، لأنه وجه معنى الشهادة في قوله : شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إلى معنى الشهادة التي توجب للقوم قيام صاحبها عند الحاكم ، أو يبطلها .
حدثنا عمران بن موسى القزّاز ، قال : حدثنا عبد الوارث بن سعيد ، قال : حدثنا إسحاق بن سويد ، عن يحيى بن يعمر ، في قوله : " ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ " من المسلمين ، فإن لم تجدوا من المسلمين فمن غير المسلمين .
حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى ، قالا : حدثنا ابن أبي عدي ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب في قوله : " اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " قال : اثنان من أهل دينكم ، أو آخران من غيركم من أهل الكتاب إذا كان ببلاد لا يجد غيرهم .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن عامر ، عن شريح في هذه الاية : " شَهادَةُ بَيْنِكُمْ . . . إلى قوله : أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " قال : إذا كان الرجل بأرض غربة ولم يجد مسلما يشهده على وصيته ، فأشهد يهوديا أو نصرانيا أو مجوسيا ، فشهادتهم جائزة .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الوَصِيّةِ اثْنانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ " قال : هذا في الحضر ، أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ في السفر ، إنْ أنْتُمْ ضَرَبْتَمْ فِي الأرْضِ فَأصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ المَوْتِ هذا في الرجل يدركه الموت في سفره وليس بحضرته أحد من المسلمين ، فيدعو رجلين من اليهود والنصارى والمجوس ، فيوصي إليهما .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم ، وسعيد بن جبير ، أنهما قالا في هذه الاية : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ . . . " الاية ، قال : إذا حضر الرجلَ الوفاة في سفر ، فيشهد رجلين من المسلمين ، فإن لم يجد رجلين من المسلمين فرجلين من أهل الكتاب .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ . . . إلى قوله : ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ " فهذا لمن مات وعنده المسلمون ، فأمره الله أن يشهد على وصيته عدلين من المسلمين . ثم قال : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ إنْ أنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَأصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ المَوْتِ " فهذا لمن مات وليس عنده أحد من المسلمين ، فأمره الله تعالى بشهادة رجلين من غير المسلمين .
ووَجّه ذلك آخرون إلى معنى التخيير ، وقالوا : إنما عني بالشهادة في هذا الموضع الأيمان على الوصية التي أوصى إليهما وائتمان الميت إياهما على ما ائتمنهما عليه من مال ليؤدّياه إلى ورثته بعد وفاته إن ارتيب بهما . قالوا : وقد يأمن الرجل على ماله من رآه موضعا للأمانة ، من مؤمن وكافر ، في السفر والحضر . وقد ذكرنا الرواية عن بعض من قال هذا القول فيما مضى ، وسنذكر بقيته إن شاء الله تعالى بعد .
القول في تأويل قوله تعالى : " تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصّلاةِ فَيُقْسِمانِ باللّهِ إنِ ارْتَبْتُمْ لانَشْتَرِي بِهِ ثَمَنا وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبَى " .
يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله : شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت ، إن شهد اثنان ذوا عدل منكم ، أو كان أوصى إليهما ، أو آخران من غيركم ، إن كنتم في سفر فحضرتكم المنية فأوصيتم إليهما ودفعتم إليهما ما كان معكم من مال وتركة لورثتكم ، فإذا أنتم أوصيتم إليهما ودفعتم إليهما ما كان معكم من مال فأصابتكم مصيبة الموت ، فأدّيا إلى ورثتكم ما ائتمنتموها وادّعوا عليهما خيانة خاناها مما ائتمنا عليه ، فإن الحكم فيهما حينئذ أن تحبسوهما ، يقول : تستوقفونهما بعد الصلاة . وفي الكلام محذوف اجتزئ بدلالة ما ظهر منه على ما حذف ، وهو : فأصابتكم مصيبة الموت وقد أسندتم وصيتكم إليهما ودفعتم إليهما ما كان معكم من مال ، فإنكم تحبسونهما من بعد الصلاة . " فَيُقْسِمَانِ بالله إنِ ارْتَبْتُمْ " يقول : يحلفان بالله إن اتهمتموهما بخيانة فيما ائتمنا عليه من تغيير وصية أوصى إليهما بها ، أو تبديلها . والارتياب : هو الاتهام . " لانَشْتَري به ثَمَنا " يقول : يحلفان بالله لانشتري بأيماننا بالله ثمنا ، يقول : لا نحلف كاذبين على عوض نأخذه عليه وعلى مال نذهب به أو لحقّ نجحده لهؤلاء القوم الذين أوصى إلينا وإليهم وصيتهم . والهاء في قوله «بِهِ » من ذكر الله ، والمعني به الحلف والقَسَم ولكنه لما كان قد جرى قبل ذلك ذكر القسم به ، فيعرف من معنى الكلام ، واكتفي به من إعادة ذكر القسم والحلف . " وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبَى " يقول : يقسمان بالله لا نطلب بإقسامنا بالله عوضا فنكذب فيها لأحد ، ولو كان الذي نقسم به له ذا قرابة منا .
وبنحو الذي قلنا في ذلك رُوِي الخبر عن ابن عباس . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ إنْ أنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَأصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ المَوْتِ " فهذا لمن مات وليس عنده أحد من المسلمين ، فأمره الله بشهادة رجلين من غير المسلمين ، فإن ارتيب في شهادتهما استحلفا بعد الصلاة بالله : لم نشتر بشهادتنا ثمنا قليلاً .
وقوله : " تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصّلاةِ " من صلاة الاخرين . ومعنى الكلام : أو آخران من غيركم تحبسونهما من بعد الصلاة إن ارتبتم بهما ، فيقسمان بالله لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربَى .
واختلفوا في الصلاة التي ذكرها الله تعالى في هذه الاية فقال : تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصّلاةِ فقال بعضهم : هي صلاة العصر .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا زكريا ، عن الشعبي : أن رجلاً من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا ، فلم يجد أحدا من المسلمين يشهده على وصيته ، فأشهد رجلين من أهل الكتاب . قال : فقدما الكوفة ، فأتيا الأشعريّ فأخبراه ، وقدما بتركته ووصيته ، فقال الأشعري : هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال : فأحلفهما بعد العصر باالله : ما خانا ولا كذبا ولا بدّلا ولا كتما ولا غيّرا ، وإنها لوصية الرجل وتركته . قال : فأمضى شهادتهما .
حدثنا ابن بشار وعمرو بن عليّ ، قالا : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ " قال : إذا كان الرجل بأرض الشرك فأوصى إلى رجلين من أهل الكتاب ، فإنهما يحلفان بعد العصر .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، بمثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنكُمْ . . . إلى : فَأصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ المَوْتِ " فهذا رجل مات بغربة من الأرض وترك تركته وأوصى بوصيته وشهد على وصيته رجلان ، فإن ارتيب في شهادتهما استحلفا بعد العصر . وكان يقال عندها تصير الأيمان .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني هشيم ، قال : أخبرنا مغيرة ، عن إبراهيم وسعيد بن جبير ، أنهما قالا في هذه الاية : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ " قالا : إذا حضر الرجل الوفاة في سفر ، فليشهد رجلين من المسلمين ، فإن لم يجد فرجلين من أهل الكتاب ، فإذا قدما بتركته ، فإن صدّقهما الورثة قبل قولهما ، وإن اتهموهما أحلفا بعد صلاة العصر : بالله ما كذبنا ، ولا كتمنا ، ولا خُنّا ، ولا غَيّرنا .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا يحيى بن القطان ، قال : حدثنا زكريا ، قال : حدثنا عامر : أن رجلاً توفي بدقوقا ، فلم يجد من يشهده على وصيته إلاّ رجلين نصرانيين من أهلها ، فأحلفهما أبو موسى دبر صلاة العصر في مسجد الكوفة : بالله ما كتما ولا غَيّرا ، وإن هذه الوصية . فأجازها .
وقال آخرون : بل يستحلفان بعد صلاة أهل دينهما وملتهما .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : " يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ . . . إلى قوله : ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ " قال : هذا في الوصية عند الموت يوصي ويشهد رجلين من المسلمين على ماله وعليه ، قال : هذا في الحضر : " أوْ آخَرَانِ مِنْ غيرِكُمْ في السفر إنْ أنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَأصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ المَوْتِ " هذا الرجل يدركه الموت في سفره وليس بحضرته أحد من المسلمين ، فيدعو رجلين من اليهود والنصارى والمجوس ، فيوصي إليهما ويدفع إليهما ميراثه ، فيقبلان به ، فإن رضي أهل الميت الوصية وعرفوا مال صاحبهم تركوا الرجلين ، وإن ارتابوا رفعوهما إلى السلطان ، فذلك قوله : " تَحْبِسُونَهُما منْ بَعْدِ الصّلاةِ . . . إن ارْتَبْتُمْ " . قال عبد الله بن عباس : كأني أنظر إلى العِلْجين حين انتهى بهما إلى أبي موسى الأشعري في داره ، ففتح الصحيفة فأنكر أهل الميت وخوّنوهما ، فأراد أبو موسى أن يستحلفهما بعد العصر ، فقلت له : إنهما لا يباليان صلاة العصر ، ولكن استحلفهما بعد صلاتهما في دينهما ، فيوقف الرجلان بعد صلاتهما في دينهما ، ويحلفان بالله لا نشتري ثمنا قليلاً ولو كان ذا قربى ، ولا نكتم شهادة الله ، إنا إذن لمن الاثمين ، أن صاحبهم لبهذا أوصى ، وإن هذه لتركته . فيقول لهما الإمام قبل أن يحلفا : إنكما إن كنتما كتمتما أو خنتما فضحتكما في قومكما ، ولم تجز لكما شهادة وعاقبتكما فإذا قال لهما ذلك ، فإن ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها .
وأولى القولين في ذلك بالصواب عندنا ، قول من قال : تحبسونهما من بعد صلاة العصر لأن الله تعالى عرّف الصلاة في هذا الموضع بإدخال الألف واللام فيها ، ولا تدخلهما العرب إلاّ في معروف ، إما في جنس ، أو في واحد معهود معروف عند المتخاطبين . فإذا كان كذلك ، وكانت الصلاة في هذا الموضع مجمعا على أنه لم يعن بها جميع الصلوات ، لم يجز أن يكون مرادا بها صلاة المستحلف من اليهود والنصارى ، لأن لهم صلوات ليست واحدة ، فيكون معلوما أنها المعنية بذلك . فإذ كان ذلك كذلك ، صحّ أنها صلاة بعينها من صلوات المسلمين . وإذ كان ذلك كذلك ، وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم صحيحا عنه أنه إذ لاعن بين العجلانيين لاعن بينهما بعد العصر دون غيرها من الصلوات ، كان معلوما أن التي عنيت بقوله : " تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصّلاةِ " هي الصلاة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخيرها لاستحلاف من أراد تغليظ اليمين عليه . هذا مع ما عند أهل الكفر بالله من تعظيم ذلك الوقت ، وذلك لقربه من غروب الشمس . وكان ابن زيد يقول في قوله : " لا نَشْتَري به ثَمَنا " ما :
حدثني به يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : " لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنا " قال : نأخذ به رشوة .
القول في تأويل قوله تعالى : " وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللّهِ إنّا إذًا لَمِنَ الاثِمِينَ " .
اختلفت القراءة في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء الأمصار : وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللّهِ بإضافة الشهادة إلى الله ، وخفض اسم الله تعالى يعني : لا نكتم شهادة الله عندنا . وذكر عن الشعبيّ أنه كان يقرؤه كالذي :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أسامة ، عن ابن عون ، عن عامر ، أنه كان يقرأ : " وَلا نَكْتُمُ شَهادَةً آللّهِ ، إنّا إذًا لَمِنَ الاثِمِينَ " بقطع الألف وخفض اسم الله . هكذا حدثنا به ابن وكيع .
وكأن الشعبيّ وجه معنى الكلام إلى أنهما يقسمان بالله لا نشتري به ثمنا ولا نكتم شهادة عندنا ، ثم ابتدأ يمينا باستفهام بالله أنهما إن اشتريا بأيمانهما ثمنا أو كتما شهادته عندهما لمن الاثمين . وقد رُوِي عن الشعبيّ في قراءة ذلك رواية تخالف هذه الرواية ، وذلك ما :
حدثني أحمد بن يوسف الثعلبي ، قال : حدثنا القاسم بن سلام ، قال : حدثنا عباد بن عباد ، عن ابن عون ، عن الشعبيّ ، أنه قرأ : " وَلا نَكْتُمُ شَهادَةً اللّهِ إنّا إذا لَمِنَ الاثِمِينَ " . قال أحمد ، قال أبو عبيد : تنوّن شهادة ، ويخفض «الله » على الاتصال . قال : وقد رواها بعضهم بقطع الألف على الاستفهام .
وحفظي أنا لقراءة الشعبيّ بترك الاستفهام . وقرأها بعضهم : «وَلا نَكْتُمُ شَهادَةً اللّهِ » بتنوين الشهادة ونصب اسم «الله » ، بمعنى : ولا نكتم الله شهادة عندنا .
وأولى القراءات في ذلك عندنا بالصواب ، قراءة من قرأ : " وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللّهِ " بإضافة الشهادة إلى اسم «الله » وخفض اسم «الله » ، لأنها القراءة المستفيضة في قراءة الأمصار التي لا يتناكر صحتها الأمة . وكان ابن زيد يقول في معنى ذلك : ولا نكتم شهادة الله وإن كان صاحبها بعيدا .
{ يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم } أي فيما أمرتم شهادة بينكم ، والمراد بالشهادة الإشهاد في الوصية وإضافتها إلى الظرف على الاتساع وقرئ { شهادة } بالنصب والتنوين على ليقم . { إذا حضر أحدكم الموت } إذا شارفه وظهرت أماراته وهو ظرف للشهادة . { حين الوصية } بدل منه وفي إبداله تنبيه على أن الوصية مما ينبغي أن لا يتهاون فيه أو ظرف حضر . { اثنان } فاعل شهادة ويجوز أن يكون خبرها على حذف المضاف . { ذوا عدل منكم } أي من أقاربكم أو من المسلمين وهما صفتان لاثنان . { أو آخران من غيركم } عطف على اثنان ، ومن فسر الغير بأهل الذمة جعله منسوخا فإن شهادته على المسلم لا تسمع إجماعا . { إن أنتم ضربتم في الأرض } أي سافرتم فيها . { فأصابتكم مصيبة الموت } أي قاربتم الأجل . { تحبسونهما } تقفونهما وتصبرونهما صفة لآخران والشرط بجوابه المحذوف المدلول عليه بقوله أو آخران من غيركم اعتراض ، فائدته الدلالة على أنه ينبغي أن يشهد اثنان منكم فإن تعذر كما في السفر فمن غيركم ، أو استئناف كأنه قيل كيف نعمل إن ارتبنا بالشاهدين فقال تحبسونهما . { من بعد الصلاة } صلاة العصر ، لأنه وقت اجتماع الناس وتصادم ملائكة الليل وملائكة النهار . وقيل أي صلاة كانت . { فيقسمان بالله إن ارتبتم } إن ارتاب الوارث منكم . { لا نشتري به ثمنا } مقسم عليه ، وإن ارتبتم اعتراض يفيد اختصاص القسم بحال الارتياب . والمعنى لا نستبدل بالقسم أو بالله عرضا من الدنيا أي لا نحلف بالله كاذبا لطمع . { ولو كان ذا قربى } ولو كان المقسم له قريبا منا ، وجوابه أيضا محذوف أي لا نشتري . { ولا نكتم شهادة الله } أي الشهادة التي أمرنا الله بإقامتها ، وعن الشعبي أنه وقف على شهادة ثم ابتدأ الله بالمد على حذف حرف القسم وتعويض حرف الاستفهام منه ، وروي عنه بغيره كقولهم الله لأفعلن . { إنا إذا لمن الآثمين } أي إن كتمنا . وقرئ لملاثمين بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام وإدغام النون فيها .