فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ شَهَٰدَةُ بَيۡنِكُمۡ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ حِينَ ٱلۡوَصِيَّةِ ٱثۡنَانِ ذَوَا عَدۡلٖ مِّنكُمۡ أَوۡ ءَاخَرَانِ مِنۡ غَيۡرِكُمۡ إِنۡ أَنتُمۡ ضَرَبۡتُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَأَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةُ ٱلۡمَوۡتِۚ تَحۡبِسُونَهُمَا مِنۢ بَعۡدِ ٱلصَّلَوٰةِ فَيُقۡسِمَانِ بِٱللَّهِ إِنِ ٱرۡتَبۡتُمۡ لَا نَشۡتَرِي بِهِۦ ثَمَنٗا وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰ وَلَا نَكۡتُمُ شَهَٰدَةَ ٱللَّهِ إِنَّآ إِذٗا لَّمِنَ ٱلۡأٓثِمِينَ} (106)

قال مكيّ : هذه الآيات الثلاث عند أهل المعاني من أشكل ما في القرآن إعراباً ومعنى وحكماً . قال ابن عطية : هذا كلام من لم يقع له النتاج في تفسيرها ، وذلك بين من كتابه رحمه الله ، يعني من كتاب مكي . قال القرطبي : ما ذكره مكي ذكره أبو جعفر النحاس قبله أيضاً . قال السعد في حاشيته على الكشاف : واتفقوا على أنها أصعب ما في القرآن إعراباً ونظماً وحكماً . قوله : { شهادة بَيْنِكُمْ } أضاف الشهادة إلى البين توسعاً لأنها جارية بينهم ؛ وقيل أصله شهادة ما بينكم فحذفت «ما » ، وأضيفت إلى الظرف كقوله تعالى : { بَلْ مَكْرُ الليل والنهار } ومنه قول الشاعر :

تصافح من لاقيت لي ذا عداوة *** صفايا وعني بين عينيك منزوي

أراد ما بين عينيك ، ومثله قول الآخر :

ويوماً شهدناه سليماً وعامراً *** . . .

أي : شهدنا فيه ، ومنه قوله تعالى : { هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ } قيل : والشهادة هنا بمعنى الوصية ؛ وقيل بمعنى الحضور للوصية . وقال ابن جرير الطبري : هي هنا بمعنى اليمين ، فيكون المعنى : يمين ما بينكم أن يحلف اثنان ، واستدل على ما قاله بأنه لا يعلم لله حكماً يجب فيه على الشاهد يمين . واختار هذا القول القفال ، وضعف ذلك ابن عطية ، واختار أن الشهادة هنا هي الشهادة التي تؤدى من الشهود . قوله : { إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت } ظرف للشهادة ، والمراد إذا حضرت علاماته ، لأن من مات لا يمكنه الإشهاد ، وتقديم المفعول للاهتمام ولكمال تمكن الفاعل عند النفس . وقوله : { حِينَ الوصية } ظرف لحضر أو للموت ، أو بدل من الظرف الأوّل .

وقوله : { اثنان } خبر شهادة على تقدير محذوف ، أي شهادة اثنين أو فاعل للشهادة على أن خبرها محذوف ، أي فيما فرض عليكم شهادة بينكم اثنان على تقدير أن يشهد اثنان ، ذكر الوجهين أبو عليّ الفارسي . قوله : { ذَوَا عَدْلٍ مّنْكُمْ } صفة للاثنان وكذا منكم أي كائنان منكم ، أي من أقاربكم { أَوْ آخَرَان } معطوف على { اثنان } ، و { مِنْ غَيْرِكُمْ } صفة له ، أي كائنان من الأجانب ؛ وقيل : إن الضمير في { منكُمْ } للمسلمين ، وفي { غَيْرِكُمْ } للكفار وهو الأنسب لسياق الآية ، وبه قال أبو موسى الأشعري ، وعبد الله بن عباس وغيرهما ، فيكون في الآية دليل على جواز شهادة أهل الذمة على المسلمين في السفر ، في خصوص الوصايا كما يفيده النظم القرآني ، ويشهد له السبب للنزول وسيأتي ، فإذا لم يكن مع الموصي من يشهد على وصيته من المسلمين فليشهد رجلان من أهل الكفر ، فإذا قدما وأدّيا الشهادة على وصيته حلفا بعد الصلاة أنهما ما كذبا ولا بدّلا ، وأن ما شهدا به حق ، فيحكم حينئذ بشهادتهما { فَإِنْ عُثِرَ } بعد ذلك { على أَنَّهُمَا } كذبا أو خانا حلف رجلان من أولياء الموصي وغرم الشاهدان الكافران ما ظهر عليهما من خيانة أو نحوها ، هذا معنى الآية عند من تقدم ذكره ، وبه قال سعيد بن المسيب ويحيى بن يعمر ، وسعيد بن جبير ، وأبو مجلز ، والنخعي وشريح ، وعبيدة السلماني ، وابن سيرين ، ومجاهد ، وقتادة ، والسديّ ، والثوري ، وأبو عبيد ، وأحمد بن حنبل .

وذهب إلى الأول : أعني تفسير ضمير { منكُمْ } بالقرابة أو العشيرة ، وتفسير { مِنْ غَيْرِكُمْ } بالأجانب الزهري والحسن وعكرمة . وذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وغيرهم من الفقهاء أن الآية منسوخة ، واحتجوا بقوله : { مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهداء } وقوله : { وَأَشْهِدُواْ ذَوِي عَدْلٍ منْكُمْ } والكفار ليسوا بمرضيين ولا عدول ، وخالفهم الجمهور فقالوا : الآية محكمة ، وهو الحق لعدم وجود دليل صحيح يدل على النسخ . وأما قوله تعالى : { مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهداء } وقوله : { وَأَشْهِدُواْ ذَوِى عَدْلٍ مّنْكُمْ } فهما عامان في الأشخاص والأزمان والأحوال ، وهذه الآية خاصة بحالة الضرب في الأرض وبالوصية وبحالة عدم الشهود المسلمين ، ولا تعارض بين عامّ وخاص .

قوله : { إِنْ أَنتُمْ } هو فاعل فعل محذوف يفسره ضربتم ، أو مبتدأ وما بعده خبره ، والأوّل : مذهب الجمهور من النحاة ، والثاني : مذهب الأخفش والكوفيين ، والضرب في الأرض هو السفر . وقوله : { فَأَصَابَتْكُم مُصِيبَةُ الموت } معطوف على ما قبله وجوابه محذوف ؛ أي إن ضربتم في الأرض فنزل بكم الموت ، وأردتم الوصية ، ولم تجدوا شهوداً عليها مسلمين ، ثم ذهبا إلى ورثتكم بوصيتكم وبما تركتم فارتابوا في أمرهما وادّعوا عليها خيانة ، فالحكم أن تحبسوهما ، ويجوز أن يكون استئنافاً لجواب سؤال مقدّر ، كأنهم قالوا : فكيف نصنع إن ارتبنا في الشهادة ؟ فقال : تحبسونهما من بعد الصلاة إن ارتبتم في شهادتهما . وخص بعد الصلاة ، أي صلاة العصر ، قاله الأكثر لكونه الوقت الذي يغضب الله على من حلف فيه فاجراً كما في الحديث الصحيح . وقيل لكونه وقت اجتماع الناس وقعود الحكام للحكومة وقيل صلاة الظهر . وقيل : أيّ صلاة كانت . قال أبو عليّ الفارسي : { تَحْبِسُونَهُمَا } صفة لآخران ، واعترض بين الصفة والموصوف بقوله : { إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرض } ، والمراد بالحبس : توقيف الشاهدين في ذلك الوقت لتحليفهما ، وفيه دليل على جواز الحبس بالمعنى العام ، وعلى جواز التغليظ على الحالف بالزمان والمكان ونحوهما .

قوله : { فَيُقْسِمَانِ بالله } معطوف على { تَحْبِسُونَهُمَا } أي : يقسم بالله الشاهدان على الوصية أو الوصيان .

وقد استدلّ بذلك ابن أبي ليلى على تحليف الشاهدين مطلقاً إذا حصلت الريبة في شهادتهما ، وفيه نظر ؛ لأن تحليف الشاهدين هنا إنما هو لوقوع الدعوى عليهما بالخيانة أو نحوها . قوله : { إِنِ ارتبتم } جواب هذا الشرط محذوف دلّ عليه ما تقدّم كما سبق . قوله : { لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً } جواب القسم ، والضمير في { بِهِ } راجع إلى الله تعالى .

والمعنى : لا نبيع حظنا من الله تعالى بهذا العرض النزر ، فنحلف به كاذبين لأجل المال الذي ادّعيتموه علينا . وقيل يعود إلى القسم : أي لا نستبدل بصحة القسم بالله عرضاً من أعراض الدنيا . وقيل يعود إلى الشهادة ، وإنما ذكر الضمير لأنها بمعنى القول ، أي لا نستبدل بشهادتنا ثمناً . قال الكوفيون : المعنى ذا ثمن ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه وهذا مبنيّ على أن العروض لا تسمى ثمناً ، وعند الأكثر أنها تسمى ثمناً ، كما تسمى مبيعاً .

قوله : { وَلَوْ كَانَ ذَا قربى } أي ولو كان المقسم له ، أو المشهود له قريباً فإنا نؤثر الحق والصدق ، ولا نؤثر العرض الدنيوي ، ولا القرابة ، وجواب " لو " محذوف لدلالة ما قبله عليه ، أي ولو كان ذا قربى ، لا نشتري به ثمناً . قوله : { وَلاَ نَكْتُمُ شهادة الله } معطوف على { لاَ نَشْتَرِي } داخل معه في حكم القسم ، وأضاف الشهادة إلى الله سبحانه لكونه الآمر بإقامتها والناهي عن كتمها .

/خ108