الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ شَهَٰدَةُ بَيۡنِكُمۡ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ حِينَ ٱلۡوَصِيَّةِ ٱثۡنَانِ ذَوَا عَدۡلٖ مِّنكُمۡ أَوۡ ءَاخَرَانِ مِنۡ غَيۡرِكُمۡ إِنۡ أَنتُمۡ ضَرَبۡتُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَأَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةُ ٱلۡمَوۡتِۚ تَحۡبِسُونَهُمَا مِنۢ بَعۡدِ ٱلصَّلَوٰةِ فَيُقۡسِمَانِ بِٱللَّهِ إِنِ ٱرۡتَبۡتُمۡ لَا نَشۡتَرِي بِهِۦ ثَمَنٗا وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰ وَلَا نَكۡتُمُ شَهَٰدَةَ ٱللَّهِ إِنَّآ إِذٗا لَّمِنَ ٱلۡأٓثِمِينَ} (106)

{ يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } الآية

نزلت في ثلاثة نفر خرجوا تجاراً من المدينة إلى الشام ، عدي بن فدي ، وتميم بن أوس الداري وهما نصرانيان وبديل مولى عمرو بن العاص السهمي وكان مسلماً مهاجراً واختلفوا في كنية أبيه .

فقال الكلبي : بديل بن أبي مازنة . وقال قتادة وابن سيرين وعكرمة : هو ابن أبي مارية ، ومحمد بن إسحاق بن يسار وابن أبي مريم ، فلما قدموا إلى الشام مرض بديل وكتب كتاباً فيه جميع ما معه وطرحها في متاعه ولم يخبر صاحبه بذلك ، فلما اشتد وجعه أوصى إلى تميم وعدي وأمرهما أن يدفعا متاعه إذا رجعا إلى أهله ، ومات بديل ففتشا متاعه فأخذا منه إناء من فضة منقوشاً بالذهب فيه ثلثمائة مثقال فضة مموّهة بالذهب فغيباه ، ثم قضيا حاجتهما وانصرفا ، وقدما المدينة فدفعا المتاع إلى أهل الميت ، ففتشوا [ فوجدوا ] الصحيفة فيها تسمية ما كان معه ، وما فيها الإناء فجاءوا تميماً وعدياً ، فقالوا : هل باع صاحبنا شيئاً من متاعه ؟ قالا : لا ، قالوا : فهل خسر تجارة ؟ قالا : لا ، قالوا : فهل طال مرضه فأنفق على نفسه ؟ قالا : لا . قالوا : فإنا وجدنا في متاعه صحيفة فيها تسمية ما معه وإنا فقدنا فيها إناء من فضة مموّهة بالذهب فها ثلاثمائة مثقال فضة . قالا : لا ندري إنما أوصى إلينا بشيء وأمرنا أن ندفعه إليكم ودفعناه وما لنا إلاّ من حكم ، فرفعوها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل اللّه تعالى { يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ } .

قال أهل الكوفة : معناه ليشهد اثنان لفظ الآية خبر ومعناها أمر . قال أهل البصرة : معناه شهادة بينكم شهادة اثنين ، فألقيت الشهادة وأقيمت الاثنان مقامهما كقوله : { وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ } [ يوسف : 82 ] أي أهل القرية ، ما ( بقي ) أهل وأقام القرية مقامه فنصبها .

وقال بعضهم : معناه شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت أن يشهد اثنان { ذَوَا عَدْلٍ } أمانة وعقل ، { مِّنْكُمْ } يا معشر المؤمنين من أهل دينكم وملتكم .

قاله جميع المفسرين إلاّ عكرمة وعبيد فإنهما قالا : معناه من حيّ الموصي .

واختلفوا في صفة الاثنين ، فقال قوم : هما الشاهدان اللذان يشهدان على وصية الموصي .

وقال آخرون : هما الوصيان أراد الله تأكيد الأمر فجعل الوصي اثنين دليل هذا التأويل أنه عقَّبه بقوله : { تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ } ولا يلزم الشاهد يمين ، ولأن الآية نزلت في الوصيين ، وعلى هذا القول تكون الشهادة بمعنى الحضور ، كقولك : شهدت فلان أي حضرت ، قال اللّه تعالى : { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ } [ البقرة : 133 ] الآية ، فقال : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ } [ النور : 2 ] .

{ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } ملّتكم وهو قول ابن المسيب والنخعي وابن جبير ومجاهد وعبيدة ويحيى بن يعمر وأبي محجن ، قالوا : إذا لم يجد مسلمين فليشهد كافرين .

قال شريح إذا كان الرجل بأرض غربة فلم يجد مسلماً يشهده على وصيته فليشهد يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً أو عابد وثن وأيّ كافر كان فشهادته جائزة ولا يجوز شهادة الكافرين على المسلمين إلاّ في سفرة ولا يجوز في سفر إلاّ في وصية فإن جاء رجلان مسلمان وشهدا بخلاف شهادتهما أجيزت شهادة المسلمين فأبطلت شهادة الكافرين .

وعن الشعبي : إن رجلاً من المسلمين حضرته الوفاة فأوصى ، ولم يجد أحداً من المسلمين يشهده على وصيته ، فقال الأشعري : هذا أمر لم يكن بعد ، الذي كان في عهد رسول اللّه فأحلفهما وأمضى شهادتهما .

قال آخرون : معناه من غير حيكم وعشيرتكم . وهذا قول الحسن والزهري وعكرمة قالوا : لا يجوز شهادة كافر في سفر ولا حضر .

{ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ } سرتم وسافرتم في الأرض { فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ } فأوصيتم إليهما ودفعتم مالكم إليهما فلم [ يأمنان الارتياب بحق ] الورثة فاتهموهما في ذلك فادّعوا عليهما خيانة ، فإن الحكم حينئذ أن تحبسونهما ، أي تستوقفونهما { مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ } وقال ابن عباس : هذا من صلة قوله { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } من الكفار فأما إذا كانا مسلمين ، فلا يمين عليهما ، واختلفوا في هذه الصلاة ما هي .

فقال النخعي والشعبي وابن جبير وقتادة : من بعد صلاة العصر . وقال السدي : من بعد صلاة أهل دينهما وملتهما لأنهما لا يباليان صلاة العصر { فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ } فيحلفان { إِنِ ارْتَبْتُمْ } شككتم { لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً } يقول لا نحلف باللّه كاذبين على عرض نأخذ عليه [ لو أن يكن يذهب إليه في ويجحده ] { وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى } ولو كان الذي يقسم له به ذا قربى ذا قرابة معنا { وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ } قرأ الشعبي لا نكتم شهادة اللّه بالتنوين ، اللّه بخفض الهاء على الإتصال أراد اللّه على القسم .

وروي عن أبي جعفر ( شهادة الله ) بقطع الألف وكسر أولها على معنى ولا نكتم شهادة ، ثم ابتدأ يميناً فقال : اللّه أي واللّه [ . . . . . . . . . . ] [ يعقب ] بتنوين الشهادة ، ( اللّه ) بالألف واللام وكسر الهاء وجعل الاستفهام حرفاً من حروف القسم ، فروي عن بعضهم شهادة منونة ، اللّه بنصب الهاء يعني ولا نكتم شهادة اللّه أما إن فعلنا ذلك { إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ الآَثِمِينَ } فلما نزلت الآية على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم صلاة العصر ودعا بعدي وتميم ، فاستحلفا عند المنبر باللّه الذي لا إله إلاّ هو أنهما لم يخونا شيئاً مما دفع إليهما فحلف على ذلك وخلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سبيلهما حين حلفا فكتما الإناء ما شاء اللّه أن يكتما ثمّ ظهر واختلفوا في كيفية ظهور الإناء .

فروى ابن جبير عن ابن عباس إن الإناء وجد بمكة فقالوا : اشتريناه من عدي وتميم .

قال الآخرون : لما طالت المدة أظهر الإناء ، وبلغ ذلك بني تميم فأتوهما في ذلك . فقالا : إنا كنّا قد اشترينا منهم هذا ، وقالوا : ألم تزعما بأن صاحبنا لم يبع شيئاً من متاعه ؟ قالا : لم يكن عندنا ثمنه فكرهنا أن نقر لكم به [ فكتمناكموه ] لذلك فرفعوهما لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأنزل اللّه{ فَإِنْ عُثِرَ } .