التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ شَهَٰدَةُ بَيۡنِكُمۡ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ حِينَ ٱلۡوَصِيَّةِ ٱثۡنَانِ ذَوَا عَدۡلٖ مِّنكُمۡ أَوۡ ءَاخَرَانِ مِنۡ غَيۡرِكُمۡ إِنۡ أَنتُمۡ ضَرَبۡتُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَأَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةُ ٱلۡمَوۡتِۚ تَحۡبِسُونَهُمَا مِنۢ بَعۡدِ ٱلصَّلَوٰةِ فَيُقۡسِمَانِ بِٱللَّهِ إِنِ ٱرۡتَبۡتُمۡ لَا نَشۡتَرِي بِهِۦ ثَمَنٗا وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰ وَلَا نَكۡتُمُ شَهَٰدَةَ ٱللَّهِ إِنَّآ إِذٗا لَّمِنَ ٱلۡأٓثِمِينَ} (106)

قوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةُ المَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلَواتِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الأَثِمِينَ ( 106 ) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ( 107 ) ذلك أَدْنَى أَن يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ } .

روي عن ابن عباس في سبب نزول هذه الآية قال : خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء وكانا نصرانيين فمات السهمي وكان مسلماً بأرض ليس بها مسلم فلما قدما بتركته فقدوا جاما( {[1097]} ) من فضة مخوصاً بالذهب . فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم . ووجدوا الجام بمكة . فقيل : اشتريناه من تميم وعدي فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وأن الجام لصاحبهم . وفيهم نزلت { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } الآية( {[1098]} ) .

قوله : { شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ حِينَ الوَصِيَّةِ اثْنَانِ } شهادة ، مبتدأ ، وخبره اثنان . والتقدير : شهادة بينكم شهادة اثنين( {[1099]} ) وشهادة بينكم أصلها : شهادة ما بينكم ، فحذف ما وأضيفت إلى الظرف . وتأتي الشهادة على عدة معانٍ منها : العلم والحلف والحضور( {[1100]} ) وكذا الوصية . والمختار أن الشهادة هنا المؤداة من الشهود .

وقوله : { إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ } إذا في موضع نصب ظرف للشهادة والمراد إذا قارب الحضور ؛ لأن الميت لا يمكنه الإشهاد . وحين الوصية بدل من الظرف " إذا " وقوله : { اثْنَانِ } أي فيما فرض عليكم أن يشهد { اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ } فيكون المعنى : ليشهد بينكم إذا حضر أحدكم الموت وقت الوصية ، شاهدان اثنان عدلان ذوا عقل ورشد منكم ، أي من المسلمين على وصية الموصي المحتضر .

هذا إذا اعتبرنا صفة الاثنين وماهيتهما على أنهما شاهدان يشهدان على وصية الموصي وقيل : هما وصيان . والأول المختار .

قوله : { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } معطوف على { اثْنَانِ } . أي شاهدان عدلان آخران من غير المسلمين من أهل الكتاب . وقيل : من غير الأقربين ، أي الأباعد . والأول الراجح ؛ لأن الخطاب موجه لأهل الإيمان وهم المسلمون وليس لذوي القرابة . فإذا لم يكن مع الموصي عند احتضاره من يشهد على وصيته من المسلمين فليشهد له رجلان من غير المسلمين من أهل الكتاب .

والإشكال هنا في شهادة غير المسلمين على المسلمين ، بعد أن تبين وجوب الشهادة من اثنين عدلين من المسلمين على وصية الموصي الذي تحضره الوفاة ، وذلك في الحضر . أما في السفر وهو الضرب في الأرض ولم يكن مع الموصي حينئذٍ أحد من المسلمين فعليه أن يشهد شاهدين ممن حضره من أهل الكفر . فإذا أديا الشهادة على وصيته حلفا بعد الصلاة أنهما لم يكذبا ولم يبدلا ولم يكتما وأن ما شهدا به حق ، فيحكم بشهادتهما .

على أن تحليفهما هو مقتضى قوله : { إِنِ ارْتَبْتُمْ } أي شككتم في شهادتهما واتهمتموهما . وإن استبان بعد ذلك أنهما كذبا وخانا في شهادتهما حلف رجلان آخران من أولياء الموصي في السفر وغرم الشاهدان الكاذبان . وهذا قول كثير من أهل العلم من السلف والخلف . وعلى هذا قالوا : شهادة أهل الذمة على المسلمين جائزة في السفر فقط إذا لم يكن ثمة مسلمون . فقد نزلت هذه الآية وليس من مسلم إلا في المدينة ، وكانوا يسافرون بالتجارة ومعهم بعض أهل الكتاب وعبدة الأوثان .

وقيل عن قوله : { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } إنه منسوخ . وهو قول الحنفية والمالكية والشافعية وغيرهم من الفقهاء . والمختار جواز الشهادة من أهل الذمة على المسلمين في الوصية في السفر خاصة . وذلك للضرورة إذا لم يكن ثمة مسلم ، ومع وجود مسلم لا يجوز . ويقوي ذلك قول ابن عباس عن سورة المائدة : إنه لا منسوخ فيها .

قوله : { إِنْ أَنْتًمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةُ المَوْتِ } الضرب في الأرض معناه السفر . أي إنكم إن سافرتم ثم دهمكم في السفر داهم الموت ولم يكن معكم أحد منكم فاستشهدوا على الوصية اثنين من غيركم . فيستدل من الآية على اشتراط السفر لجواز الاستشهاد بغير المسلمين إن لم يكن عند الموصي أحد من المسلمين . وإذا ذهب الاثنان الشاهدان إلى ورثة المتوفى الموصي فاتهموهما وارتابوا في أمرهما ، وقفوهما لتحليفهما .

قوله : { تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلَوَاتِ } تحبسونهما ، جملة فعلية في محل رفع صفة { آخَرَانٍ }( {[1101]} ) والمراد بحبسهما توقيفهما –أي الشاهدين- من أجل أن يحلفا بعد الصلاة . وقيل : المقصود بها صلاة الظهر . وقيل : الصلاة مطلقاً . وقيل : صلاة العصر . وهو قول المفسرين . وذلك من باب التغليظ على الشاهد المستحلف بالزمان عند مظنة التهمة ، لما في حرمة الزمان من تأثير في نفس الحالف فيحترز عن الكذب .

قوله : { فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ } يقسمان معطوف على { تَحْبِسُونَهُمَا } وإن أرتبتم ، اعتراض بين القسم والمقسم عليه . أي إن شككتم في أمر الشاهدين أو الوصيين في قول واتهمتموهما فحلفوهما .

قوله : { لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ } أي لا نشتري بقسمنا عوضاً نأخذه بدلاً مما أوصى به الميت . ولا نستبدل بصحة القسم بالله عرض الدنيا الفانية فلا نحلف كاذبين ولا نبذل ما أوصى به إلى أحد ولو كان الذي نقسم له ذا قربى منا . ولا نكتم ما أعلمنا الله به من الشهادة . ولئن فعلنا شيئاً من ذلك كتحريف الشهادة أو تبديلها أو تغييرها أو كتمها بالكلية { إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الأَثِمِينَ } .


[1097]:- الجام: إناء من فضة. وجمعه أجؤم وأجوام وجامات انظر القاموس المحيط ج4 ص93.
[1098]:- أسباب النزول للنيسابوري ص 142.
[1099]:- البيان لابن الأنباري ج1 ص308.
[1100]:- القاموس المحيط ج1 ص316.
[1101]:- البيان لابن الأنباري ج1 ص308.