الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ شَهَٰدَةُ بَيۡنِكُمۡ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ حِينَ ٱلۡوَصِيَّةِ ٱثۡنَانِ ذَوَا عَدۡلٖ مِّنكُمۡ أَوۡ ءَاخَرَانِ مِنۡ غَيۡرِكُمۡ إِنۡ أَنتُمۡ ضَرَبۡتُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَأَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةُ ٱلۡمَوۡتِۚ تَحۡبِسُونَهُمَا مِنۢ بَعۡدِ ٱلصَّلَوٰةِ فَيُقۡسِمَانِ بِٱللَّهِ إِنِ ٱرۡتَبۡتُمۡ لَا نَشۡتَرِي بِهِۦ ثَمَنٗا وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰ وَلَا نَكۡتُمُ شَهَٰدَةَ ٱللَّهِ إِنَّآ إِذٗا لَّمِنَ ٱلۡأٓثِمِينَ} (106)

قوله تعالى : { يا أيها الذين ءَامَنُواْ شهادة بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت حِينَ الوصية اثنان . . . } [ المائدة :106 ] إلى قوله : { يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل } [ المائدة : 109 ] .

قال مكِّيٌّ : هذه الآياتُ عند أهْل المعانِي مِنْ أشكل ما في القرآن إعراباً ، ومعنًى ، وحُكْماً .

قال( ع ) : وهذا كلام من لم يقع له الثَّلَجُ في تفسيرها ، وذلك بيِّن من كتابه ، وباللَّه نستعين .

لا نَعْلَمُ خلافاً أن سبب هذه الآيةِ أنَّ تميماً الدَّارِيَّ وعَدِيَّ بْن بَدَّاء ، وكانا نصرانيَّيْنِ ، سافرا إلى المدينةِ ، يريدانِ الشامَ ، لتجارتهما ، وقَدِمَ المدينة أيضاً ابْنُ أَبِي مَارِية مولى عَمْرِو بنِ العاصِ ، يريد الشامَ تاجِراً ، قال الفخْر : وكان مُسْلماً ، فخرَجُوا رفاقة ، فمرض ابنُ أبي مارية في الطريقِ ، وأوصى إلى تميمٍ ، وعديٍّ ، أنْ يؤدِّيَا رَحْلَهُ إلى أوليائه من بني سَهْم ، وروى ابْنُ عباس عن تميمٍ الداريِّ ، أنه قال : بَرِئَ النَّاسُ من هذه الآيةِ غيري ، وغَيْرَ عَدِيِّ بْنِ بَدَّاء ، وذكر القصَّة ، إلا أنه قال : وكان معه جَامُ فِضَّةٍ ، يريد به المُلْكَ ، فأخذتُهُ أَنَا وعديٌّ ، فبْعنَاه بألفٍ ، وقَسَّمنا ثمنه ، فلما أسلَمْتُ بعد قُدُومِ رسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم المدينةَ ، تَأَثَّمْتُ من ذلك ، فأتيْتُ أهْلَهُ ، فأخبرتهم الخبر ، وأدَّيْتُ خمسمائة ، فوثَبُوا إلى عَدِيٍّ فأتوا به رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، وحلَفَ عمْرُو بن العاصِ ، ورجُلٌ آخر معه ، ونُزِعَتْ من عَدِيٍّ خَمْسُمِائَةٍ .

قال( ع ) : واختلفتِ ألفاظ هذه القصَّة ، وما ذكرتُهُ هو عمود الأمْر ، ولم تصحَّ لعديٍّ صُحْبة فيما عَلِمْتُ ، ولا ثبت إسلامه ، وقد صنَّفه في الصحابة بعْضُ المتأخِّرين ، ولا وجه عندي لذكْره في الصَّحابة ، وأما معنى الآية مِنْ أولها إلى آخرها ، فهو أن اللَّه سبحانه أخبر المؤمنين أنَّ حكمه في الشهادةِ عَلَى المُوصِي ، إذا حضره الموتُ : أنْ تكونَ شهادة عَدْلَيْنِ ، فإن كان في سَفَرٍ ، وهو الضَّرْب في الأرض ، ولم يكن معه من المؤمنين أحدٌ ، فليُشْهِدْ شاهدَيْنِ ، ممن حَضَرَهُ مِنْ أهْل الكُفْر ، فإذا قدما ، وأَدَّيا الشهادةَ على وصيَّته ، حَلَفَا بعد الصَّلاة ، أنهما ما كَذَبَا ، ولا بَدَّلاَ ، وأنَّ ما شهدْنَا به حقٌّ ، ما كتمنا فيه شهادةَ اللَّه ، وحُكِمَ بشهادتهما ، فإن عُثِرَ بعد ذلك على أنهما كَذَبَا ، أو خَانَا ، أو نَحْوِ هذا ممَّا هو إثْم ، حَلَفَ رُجلانِ مِنْ أولياء المُوصِي في السفر ، وغُرِّمَ الشاهدانِ ما ظَهَرَ علَيْهما ، هذا معنى الآيةِ على مذهب أبي موسَى الأشعريِّ ، وابن عبَّاس ، وسعيدِ بْنِ المسيَّب ، ويحيى بن يَعْمَرَ ، وابنِ جُبَيْر ، وأبي مِجْلَزٍ ، وإبراهيم ، وشُرَيْحٍ ، وعَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ ، وابن سِيرِينَ ، ومجاهدٍ ، وغَيْرِهم ، قالوا : ومعنى قوله : { مِّنكُمْ } ، أي : مِنَ المؤمنين ، ومعنى : { مِنْ غَيْرِكُمْ } ، أي : من الكافرين .

قال بعضهم : وذلك أن الآية نزلَتْ ، ولا مؤمن إلا بالمدينة ، وكانوا يسافرون في التِّجارة مع أنواع الكَفَرة ، واختلفتْ هذه الجماعةُ المذْكُورة ، فمذهبُ أبي مُوسَى الأشعريِّ وغيره ، أن الآية مُحْكَمَةٌ ، ومذهب جماعة منهم ، أنها منسوخةٌ ، بقوله : { وَأَشْهِدُواْ ذَوِيْ عَدْلٍ مِّنْكُمْ }[ الطلاق : 2 ] وبما عليه إجماعُ جمهور النَّاس ، أن شهادة الكُفَّار لا تجوزُ .

قال( ع ) : ولنرجع الآنَ إلى الإعراب ، ولنقصِدِ القَوْل المفيدَ ، لأن الناس خَلَطُوا في تفسير هذه الآية تخليطاً شديداً ، وذِكْرُ ذلك ، والرَّدُّ عليه يطولُ ، وفي تَبْيِينِ الحَقِّ الذي تتلَقَّاه الأذهانُ بالقَبُول مَقْنَعٌ ، واللَّه المستعان .

فقوله تعالى : { شهادة بَيْنِكُمْ }[ المائدة :106 ] هي الشهادةُ التي تُحْفَظُ لتؤدى ، ورفعها بالابتداء ، والخَبَرُ في قوله : { اثنان } ، وقوله تعالى : { إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت } معناه : إذا قارب الحضُورَ ، والعاملُ في «إذا » المصدرُ الذي هو «شهادة » ، وهذا على أنْ تجعل «إذا » بمنزلة «حِينَ » ، لا تحتاج إلى جوابٍ ، ولك أن تجعل «إذا » في هذه الآية المحتاجةَ إلى الجوابِ ، لكن استغني عن جوابها بما تقدَّم في قوله : { شهادة بَيْنِكُمْ } ، إذ المعنى : إذا حَضَر أحدَكُمُ المَوْتُ ، فينبغي أن يُشْهِدَ ، وقوله : { حِينَ الوصية } ظرْفُ زمانٍ ، والعاملُ فيه { حَضَرَ } ، وإنْ شِئْتَ ، جعلته بَدَلاً مِنْ «إذا » ، وقوله : { ذَوَا عَدْلٍ } صفة لقوله : { اثنان } ، و{ مِّنكُمْ } : صفةٌ أيضاً بعد صفةٍ ، وقوله : { مِنْ غَيْرِكُمْ } : صفةٌ { لآخَرَانِ } أيضا ، واعترض بَيْن الموصوفِ والصفةِ بقوله : { إِنْ أَنتُمْ } ، إلى { الموت } ، وأفاد الاِعتراضُ أنَّ العدول إلى آخرَيْنِ من غَيْر الملَّة ، إنما يكونُ مع ضَرُورة السَّفَر ، وحلولِ الموتِ فيه ، واستغني عن جواب «إنْ » ، لِمَا تقدَّم من قوله : { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } ، وقال جمهورٌ مِن العلماء : الصلاةُ هنا صلاةُ العَصْر ، وقال ابنُ عباس : إنما هي صلاة الذِّمِّيِّين ، وأما العصر ، فلا حُرْمَة لها عنْدَهما ، والفاءُ في قوله : { فَيُقْسِمَانِ } : عاطفةٌ جملةً على جملةٍ ، لأن المعنى تَمَّ في قوله : { مِنْ بَعْدِ الصلاة } ، وقوله : { إِنِ ارتبتم } شرطٌ لا يتَّجه تحليفُ الشاهدَيْن إلا به ، والضميرُ في قول الحالِفَيْن : { لاَ نَشْتَرِي بِهِ } عائدٌ على القَسَمِ ، أو على اسم اللَّهِ ، وقوله : { لاَ نَشْتَرِي } جوابٌ يقتضيه قوله : { فَيُقْسِمَانِ بالله } ، لأن «أقسم » ونحوه يتلقى بما تتلقى به الإيْمَانُ ، وقوله : { ثَمَناً } ، أي : ذا ثَمَنٍ ، وخُصَّ ذو القربى بالذِّكْر ، لأن العرب أمْيَلُ النَّاس إلى قراباتهم ، واستسهالهم في جنب نفعهم ما لا يُسْتَسْهَل ، وقوله : { وَلاَ نَكْتُمُ شهادة الله } ، أضاف الشهادةَ إلَيْه تعالى مِنْ حيث هو الآمِرُ بإقامتها ، الناهِي عن كتمانها ، وروي عن الشِّعْبِيِّ وغيره : ( شَهَادَةً ) بالتنوين ، ( اللَّه ) بقطع الألف دون مَدٍّ ، وخفضِ الهاءِ ، وقال أيضاً : يقف على الهاء مِن : ( شهادة ) بالسكون ، ثم يقطع الألفَ المكتوبَةِ منْ غير مَدٍّ ، كما تقدَّم ، ورُوِيَ عنه كان يقرأ : ( آللَّهِ ) بمد ألفِ الاستفهامِ في الوجْهَيْن ، أعني : بسكون الهاء من «شهادة » ، وتحريكها منوَّنةً منصوبةً ، ورُوِيَتْ هذه التي هي تَنْوينُ ( شهادة ) ، ومدُّ ألف الاستفهام بَعْدُ عن عَلِيِّ بن أبي طالب ، قال أبو الفَتْح : إنما تُسَكَّن هاء «شهادة » في الوقْف عليها .