فتح الرحمن في تفسير القرآن لتعيلب - تعيلب  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ شَهَٰدَةُ بَيۡنِكُمۡ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ حِينَ ٱلۡوَصِيَّةِ ٱثۡنَانِ ذَوَا عَدۡلٖ مِّنكُمۡ أَوۡ ءَاخَرَانِ مِنۡ غَيۡرِكُمۡ إِنۡ أَنتُمۡ ضَرَبۡتُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَأَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةُ ٱلۡمَوۡتِۚ تَحۡبِسُونَهُمَا مِنۢ بَعۡدِ ٱلصَّلَوٰةِ فَيُقۡسِمَانِ بِٱللَّهِ إِنِ ٱرۡتَبۡتُمۡ لَا نَشۡتَرِي بِهِۦ ثَمَنٗا وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰ وَلَا نَكۡتُمُ شَهَٰدَةَ ٱللَّهِ إِنَّآ إِذٗا لَّمِنَ ٱلۡأٓثِمِينَ} (106)

يأيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين( 106 )

روى البخاري ( {[1907]} )عن ابن عباس قال : كان تميم الداري وعدي بن بداء يختلفان إلى مكة ، فخرج معهما فتى من بني سهم فتوفي بأرض ليس بها مسلم ، فأوصى إليهما ؛ فدفعا تركته إلى أهله وحبسا جاما ( {[1908]} ) من فضة مخوصا ( {[1909]} ) بالذهب ، فاستحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما كتمتما ولا اطلعتما " ثم وجد الجام بمكة ، فقالوا : اشتريناه من عدي وتميم ، فجاء رجلان من ورثة السهمي فحلفا أن هذا الجام للسهمي ، ولشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا ؛ قال : فأخذوا الجام ؛ وفيهم نزلت هذه الآية ؛ { يأيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم } شرع الله تعالى للمؤمنين أن يوصوا عند ظهور أمارات الموت ، ويشهد على الوصية شاهدان من الأقارب ، أو أجنبيان إن وقع الموت في السفر ؛ { شهادة بينكم } أي شهادة ما بينكم { اثنان ذوا عدل منكم } أي أن يشهد اثنان عدلان قريبان ؛ فعن الحسن والزهري- وعليه جمهور الفقهاء- أن { منكم } أي من أقاربكم ، و { من غيركم } أي من الأجانب ؛ وعن ابن عباس ، وأبي موسى الأشعري ، وسعيد بن جبير ، وغيرهم أن { منكم } أي من أهل ملتكم ، و { من غيركم } أي من كافر كان يهوديا أو نصرانيا أو مجوسيا أو عابد وثن ؛ - ورد : ( شهد ) في كتاب الله تعالى بأنواع مختلفة : منها قوله تعالى : ( . . واستشهدوا شهيدين من رجالكم . . ) ( {[1910]} ) ، قيل : معناه : أحضروا ؛ ومنها : ( شهد ) بمعنى قضى أي أعلم ؛ قاله أبو عبيدة ؛ كقوله تعالى : ( شهد الله أنه لا إله إلا هو . . ) ( {[1911]} ) ؛ ومنها ( شهد ) بمعنى أقر ، كقوله تعلى : ( . . والملائكة يشهدون . . ) ( {[1912]} ) ؛ ومنها ( شهد ) بمعنى الحكم ؛ قال الله تعالى : ( . . وشهد شاهد من أهلها . . ) ( {[1913]} ) ؛ ومنها ( شهد ) بمعنى حلف ؛ كما في اللعان ؛ و( شهد ) بمعنى وصى ؛ كقوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا شهادة بينكم . . } وقيل : معناها هنا الحضور للوصية- ( {[1914]} ) { إذا حضر أحدكم الموت } أي : إذا قارب المجيء ، كما في قوله تعالى : { يأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم . . } أي إذا أردتم القيام إلى الصلاة وقربت إقامتها ، وكقوله سبحانه : ( فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان . . ) ( {[1915]} ) ؛ أي إذا قاربتم القراءة ؛ { حين وصية } بدل من { إذا حضر } فوقتهما واحد وهما متلازمان ؛ قال أبو علي : { شهادة } رفع بالابتداء ، والخبر في قوله { اثنان } التقدير : شهادة بينكم في وصاياكم شهادة اثنين ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ؛ كما قال تعالى : ( . . وأزواجه أمهاتهم . . ) ( {[1916]} ) أي : مثل أمهاتهم ؛ { ذوا عدل منكم } أي صاحبا عدالة منكم معاشر المسلمين ، { أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت } فإن ضربتم في الأرض أي سافرتم فحضر أحدكم الموت ولم يجد مسلمين يشهدان على وصيته قبل موته فشرع الله تعالى له أن يشهد على وصيته اثنين ممن حضره من الكفار ، { تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله إن ارتبتم لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله } فإن أشهد الموصي كافرين- إذ كان حين حضرته الوفاة وعزم على الوصية مسافرا ولم يجد مؤمنَيْن- وشك الموصَى لهما ، فنستحلفهما فيحلفان ، قائلين : ما كذبنا ، وما خنا ولا بدلنا وقد شهدنا بالحق وما بدلنا : ولا نشتري بقسمنا عوضا نأخذه ، أو ندفعه إلى أحد ، نحصله لغيرنا أو لأنفسنا ، ولو كان الذي نقسم له ذا قربى منا ، ولا نبيع حظنا من الله تعالى بهذا العرض ؛ أو يقولان في شهادتهما ما في هذا المعنى ؛ و { من بعد الصلاة } قد يكون المراد بها من بعد صلاة العصر ، إذ صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إذ لاعنَ بين العجلانين لاعن بينهما بعد صلاة العصر- ومعلوم أن المطلق يحمل على المقيد- ؛ ويستشهد لهذا بما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث : " من حلف على يمين كاذبة بعد العصر لقي الله وهو عليه غضبان " ؛ { إنا إذا لمن الآثمين } يقولان ما في معنى : نحن إذا كتمنا شهادة الحق وقعنا في إثم وذنب وكذا إن حرفناها وغيرناها ؛ وأضاف الشهادة إلى مولانا سبحانه في قوله : { ولا نكتم شهادة الله } تشريفا للكلمة الحق وإعظاما لشأنها .


[1907]:من علماء السنة من قال: هذا من مروياته في التاريخ.
[1908]:جاما: إناء.
[1909]:مخوصا: عليه صفائح الذهب مثل خوص النخيل.
[1910]:سورة البقرة. من الآية 282.
[1911]:سورة آل عمران. من الآية 18.
[1912]:سورة النساء. من الآية 166.
[1913]:سورة يوسف. من الآية 26.
[1914]:ما بين العارضتين من الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي.
[1915]:سورة النحل. من الآية 98.
[1916]:سورة الأحزاب. من الآية 6.