قوله : { يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت{[18451]} } الآية [ 108-110 ] .
وهذه الآية{[18452]} – عند أهل المعاني – من أشكل ما في القرآن إعرابا{[18453]} ! ومعنى وحكما{[18454]} .
فقوله : { شهادة } رفع{[18455]} بالابتداء ، و{ اثنان } الخبر ، والتقدير : فيه شهادة اثنين{[18456]} ، ثم حذف المضاف{[18457]} وأقام المضاف إليه{[18458]} مقامه{[18459]} .
وقيل : التقدير : عدد شهادة بينكم اثنان ، ثم حذف ، و( ما ) محذوفة مع ( بينكم ) ، تقديره : ما بينكم ، و[ ( ما ) المحذوفة ]{[18460]} إشارة إلى التنازع والتشاجر{[18461]} .
وقيل : { اثنان } رفع بفعلهما ، والتقدير : ليكن منكم أن يشهد اثنان{[18462]} .
وقيل : { إذا حضر } خبر{[18463]} الشهادة{[18464]} : لأنها مستأنفة{[18465]} ليست واقعة لكل الخلق ، و{ اثنان } – على هذا – رفع{[18466]} بفعلهما{[18467]} ، تقديره أن يشهد اثنان ، ودل على ذلك { شهادة } المتقدم ذكرها{[18468]} .
قوله : { فآخران يقومان }{[18469]} .
{ آخران } : ارتفعا بفعل مضمر ، و{ يقومان{[18470]} } نعت ، و{ الأوابين } بدل من { آخران } أو من المُضمر في { يقومان }{[18471]} .
روى اسحاق الأزرق{[18472]} عن أبي بكر عن عاصم ( شهادةٌ ) بالتنوين ، ( بينكم ) بالنصب ، وهي مروية عن الأعرج{[18473]} .
ورُوي عن أبي عبد الرحمن المقريُ{[18474]} { شهادة }{[18475]} بالنصب والتنوين على : ( ليشهد اثنان شهادةً ) ، فهو مصدر{[18476]} .
( و{[18477]} ) روى عبد الله بن مسلم{[18478]} { ولا نكتم{[18479]} شهادة الله } بالنصب فيهما وتنوين ( شهادة ) على{[18480]} معنى : لا نكتم{[18481]} الله شهادةً{[18482]} . وقيل تقديره : ولا نكتم شهادة والله{[18483]} ، فلما حذفت الواو تعدى الفعل [ إلى ]{[18484]} المُقسم{[18485]} به فنصب{[18486]} .
وقرأ الشعْبي ( شهادةً ) بالتنوين ، ( الله ) بالخفض على القسم{[18487]} ، أعمل الحرف وهو محذوف{[18488]} ، وقد أجازه سيبويه ، ومنع ذلك غيره{[18489]} .
وقرأ أبو عبد الرحمن { ولا نكتم شهادة الله{[18490]} } بالمد{[18491]} ، جعل{[18492]} ألف الاستفهام عوضاً من{[18493]} حرف القسم ، فخفض{[18494]} بها كالحرف{[18495]} .
وقرأ ابن محيصن{[18496]} : [ ( إنا إذاً لملاثمين ) ]{[18497]} أدغم{[18498]} النون في اللام ، وهو بعيد في العربية ، وهو مثل ( عاد [ لوُلَى ]{[18499]} في قراءة نافع ، وإنما بعد{[18500]} ، لأن اللام حكمها السكون ، والحركة التي عليها إنما هي للهمزة{[18501]} ، والمدغم{[18502]} لا يدغم أبدا إلا في متحرك أصلي ، وليست اللام بأصلية الحركة{[18503]} .
ومعنى الآية : يا أيها الذين آمنوا ليشهد{[18504]} بينكم – إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية – اثنان ذوا عدل منكم ، ( أي من المسلمين{[18505]} وقيل : من أهل الموصي{[18506]} . والأول أكثر .
قال الحسن{[18507]} : { اثنان ذوا{[18508]} عدل منكم }{[18509]} أي : من العشيرة ، لأن العشيرة أعلم بالرجل وماله وولده ، وأجدر{[18510]} ألا{[18511]} ينسوا ما يشهدون عليه ، فإن لم يكن من / العشيرة أحد ، فآخران من غير العشيرة{[18512]} ، فإن شهدا – وهما عدلان – مضت شهادتهما ، وإن ارتيب{[18513]} في شهادتهما حبسا بعد صلاة العصر فيقسمان بالله { لا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله } ، فتمضي شهادتهما إذا حلفا ، وإنما استُحلفا ، لأنهما وصيان شاهدان ، فإن اطلع – بعد ذلك – أنهما شهدا بزور ، حلف وليان{[18514]} من الورثة ، واستحقا ما حلفا عليه ، وهو معنى قوله : { فإن عثر على أنهما استحقا إثما } أي : ( حلفا ) زورا ، { فآخران يقومان مقامهما } أي : مقام الشاهدَيْن ، { فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما } أي : لَيمَينُنا أحق من يمينهما ، { ذلك أدنى أن ياتوا بالشهادة على وجهها }{[18515]} ، أي : يأتي الشاهدان بالشهادة على حقها ، ولا يغيّرانها{[18516]} ، وهذا منسوخ عند أكثر العلماء{[18517]} . وقال الحسن : يحلف الشهود ، وليس بمنسوخ{[18518]} .
ومن قال : إن معنى { ذوا{[18519]} عدل منكم } من المسلمين{[18520]} ، ( قال : أو{[18521]} ) من غيركم من غير المسلمين لتصح{[18522]} المحاذاة{[18523]} ، لأن نقيض المسلم الكافر{[18524]} . ومن قال : معنى : { ذوا عدل منكم } من قبيلتكم أو من عشيرتكم أو من أهليكم ، قال : معنى ( [ من ]{[18525]} غيركم ) : من غير قبيلتكم أو من غير عشيرتكم أو [ من ]{[18526]} ( غير ){[18527]} أهليكم{[18528]} ، فهو كله ( في المسلمين{[18529]} ) لتصح المحاذاة{[18530]} في الطرفين{[18531]} ، ثم يقع الاختلاف في النسخ على ما ذكرنا وما نذكر{[18532]} على اختلاف هذه{[18533]} المعاني{[18534]} .
والشهادة ( هنا ){[18535]} بمعنى الإشهاد على الوصية{[18536]} ، فالاثنان يشهدان{[18537]} على الوصية .
وقيل : الشهادة هنا بمعنى الحضور ، أي : ليشهد اثنان ، أي : ليحضر اثنان حين الوصية ، فهما وصيان لا شاهدان{[18538]} ، واستدل الطبري{[18539]} على أنه غير الشهادة التي تؤدي للمشهود{[18540]} له ، أن قال : إنا لا نعلم لله حكما يجب فيه على الشاهد اليمين ، فيكون جائزا أن يصرف الشهادة{[18541]} في هذا ، وتكون هي التي يقام بها عند الحاكم{[18542]} للمشهود له ، ( و ){[18543]} في حكم اله باليمين على ذوي العدل [ أو ]{[18544]} على من قام مقامهما باليمين – يقول : { تحبسونهما من بعد الصلاة فيقسمان بالله } – أوُضَحُ{[18545]} دليل على أنه ليس يراد به الشهادة التي يقضي بها للمشهود له{[18546]} .
وقوله : { أو آخران من غيركم } قال ابن المسيب : معناه : من غيركم ، أي : من أهل الكتاب{[18547]} .
وقال ابن جبير : أي : من غير أهل ملتكم{[18548]} . وقال الحسن : معناه : شاهدان من قومكم أو من غير قومكم{[18549]} . وقيل : معناه : من غير حيّكم{[18550]} .
قوله : { إن أنتم ضربتم في الأرض } أي : سافرتم ذاهبين{[18551]} وراجعين ، فنزل بكم{[18552]} الموت{[18553]} .
وقوله : { تحبسونهما من بعد الصلاة } هذا خطاب للمؤمنين ، والمعنى : إذا{[18554]} ضربتم في الأرض ، فأصابتكم مصيبة الموت ، فأوصيتم إلى اثنين عدلين ، وفي الكلام حذف واختصار ، تقديره : ودفعتم إليهما ما معكم من مال ثم متم ، وذهبا{[18555]} إلى ورثتكم بالتركة ، فارتابوا{[18556]} في أمرهما واتهموهما ( وادعوا ){[18557]} عليهما خيانة ، فإن الحكم في ذلك أن [ تحبسوهما ]{[18558]} ، أي : تتوثقوا{[18559]} منهما بعد الصلاة ، وفي الكلام حذف أيضا وهو ما ذكرنا ، فيقسمان بالله لا نشتري بأيماننا ثمنا ، ( أي ){[18560]} لا نحلف{[18561]} كاذبين على عرض{[18562]} نأخذه{[18563]} من حق هؤلاء الورثة ، { ولو كان ذا قربى } يقسمان{[18564]} / بالله لا نشتري بأيماننا ثمنا قليلا ولو كان الذي{[18565]} نقسم له به ذا قرابة{[18566]} منا{[18567]} .
قال ابن عباس : إنما هذا لمن حضره الموت في سفر ولم يجد مسلمين ، فأمره الله بشهادة رجلين من غير المسلمين ، فإن ارتيب{[18568]} في شهادتهما ، استحلفا بعد العصر : بالله لم نشتر بشهادتنا ثمنا{[18569]} .
فقوله : { تحبسونهما من بعد الصلاة } ( - على قول ابن عباس – من صفة الآخرين{[18570]} ، والمعنى : أو{[18571]} آخران من غيركم تحبسونهما من بعد الصلاة ){[18572]} إن ارتاب الورثة في مال الميت ، فيقسمان بالله لا نشتري بأيماننا ثمنا{[18573]} ، ولو كان ذا قربى{[18574]} .
والصلاة – عند أبي موسى الأشعري وابن جبير – صلاة العصر{[18575]} . وقيل : هي صلاة من صلاة أهل دينهم{[18576]} .
قال السدي وغيره : أمر الله المؤمنين أن يُشهدوا{[18577]} عند الموت في الحضر شاهديْن ( من المسلمين ){[18578]} فيما عليه وله ، وأمرهم{[18579]} أن يشهدوا في{[18580]} السفر شاهدين من غير ملتهم إذا عدموا أهل ملتهم ، كانوا يهوداً{[18581]} أو نصارى أو مجوسا ، فإذا دفع إليهما ماله ، ( فإن أتهمهما ){[18582]} أهل الميت حبسوهما بعد الصلاة وحلفا : بالله ولا نشتري به ثمنا ولو كان ذا قربى ، وذلك صلاة أهل ملتهما{[18583]} ، ويقولان بعد ذلك : { ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين } ، إن صاحبكم لبهذا{[18584]} أوصى ، وإن هذه التركة{[18585]} ، ( ويخوفهما ){[18586]} الامام قبل اليمين ، ف{ ذلك أدنى أن ياتوا بالشهادة على وجهها{[18587]} } .
قال ابن زيد : ( لا نشتري به ثمنا ) لا نأخذ به رشوة{[18588]} .
قال : الهاء في ( به ) تعود على القسم{[18589]} ، وهو اليمين ، وقيل{[18590]} : بل تعود على الله جل ذكره{[18591]} .
قوله : { فإن عثر على أنهما استحقا إثما } أي{[18592]} اطلع على أنهما خانا{[18593]} بعد حلفهما ، وأنهما{[18594]} حلفا كاذبين في أيمانهما ( ما خنا ){[18595]} ، فيقوم آخران من ورثة الميت حينئذ مقامهما ، فيحلفان أنه كان كذا وكذا ، ويستحقون ما حلفوا عليه{[18596]} .
وقال ابن عباس : يحلفان : إن شهادة الكافرين كانت باطلا ، وأنا لم نعتد في دعوانا ، إذا طلع أنهما كذبا في يمينهما وخانا ، فترد{[18597]} شهادة الكافرين وتجوز شهادة المؤمنين{[18598]} .
وقيل : إنما يحلف أولياء الميت إذا أدعى الشاهدان أنه أوصى بما لا يجوز في دين الإسلام ، كقولهم{[18599]} : ( أوصى بماله كله ) ، فيحْلف اثنان من أولياء الميت : إن صاحبنا ( ما كان يرضى بهذا ولا نرضى به ، وإنهما ){[18600]} يكذبان{[18601]} . وشهادتنا أحق من شهادتهما{[18602]} .
والأكثر على أن الأولياء يحلفون إذا وجدوا خيانة بعد يمين الكافرين ، أو{[18603]} قيل لهم ( إنهما ){[18604]} غير مرضيين ، فيحلفان{[18605]} : لشهادتنا أحق من شهادتهما ، وإنه لقد ترك كذا وكذا ، وما أوصى بكذا ونحوه{[18606]} . وقيل : إنما ألزم الشاهدان اليمين ، لأنهما زعما أن الميت أوصى لهما بكذا وكذا ، فإن عثر على أنهما كاذبان في ذلك ، حلف آخران من أولياء الميت : لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا{[18607]} .
وجماعة من العلماء يقولون : كان هذا ثم نُسخ{[18608]} .
ولا تجوز شهادة كافر على مسلم ، وهو قول مالك والشافعي وأبي حنيفة{[18609]} ، وهي منسوخة عندهم{[18610]} . وقيل : ذلك جائز إذا كانت وصية ، وهو قول ابن عباس وغيره{[18611]} .
وقيل : الآية كلها / في المسلمين ، والآخران من المسلمين ، وهو قول الزهري والحسن{[18612]} .
وقيل : الشهادة – هنا – بمعنى الحُضور ، وقد تقدم ذكره{[18613]} .
وقيل : الشهادة – هنا بمعنى اليمين ، فمعنى ( شهادة أحدكم ) : أي : يمين أحدكم أن يحلف اثنان ، وهو اختيار الطبري{[18614]} .
قال ابن عباس : كان تميم الداري{[18615]} وعدي{[18616]} يختلفان إلى مكة للتجارة نصرانيين- ، فخرج معهما رجل من بني سهم{[18617]} ، فتوفي بأرض ليس بها{[18618]} مسلم فأوصى إليهما ، فوصّلا تركته إلى أهله ، وحبسا جَاماً{[18619]} من فضة مُخَوَّصا بالذهب{[18620]} ، ففقده أولياء الميت السهمي ، فأتوا النبي ، فاستحلفهما : ( ما كتمنا{[18621]} ولا اطلعنا{[18622]} ) ، ثم عُرفَ الْجامُ{[18623]} بمكة ، [ فقالوا ]{[18624]} : اشتريناه من تميم وعدي ، فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا بالله أن هذا لَجَامُ{[18625]} السهمي ، ولشهادتُنا أحقُّ من شهادتهما وما اعتدينا ، إنّا إذاً لمن الظالمين ، وأخذا{[18626]} الْجَامَ{[18627]} ، ففيهم نزلت الآيات{[18628]} . والروايات في هذا الخبر كثيرة مختلفة الألفاظ ، ترجع إلى معان{[18629]} يقرب بعضها من بعض{[18630]} .
وتقدير قراءة من قرأ بضم التاء وقرأ ( الأوليان ){[18631]} أنه أراد : فآخران من أهل الميت – الذين استحق المؤتمنان على مال الميت الإثم منهما{[18632]} – يقومان مقام [ المُسْتَحِقَّيِ ]{[18633]} الإثم منهما{[18634]} لخيانتهما{[18635]} .
و( من قرأ ){[18636]} بفتح التاء ، {[18637]} فتقديره : فآخران يقومان{[18638]} [ مقام ]{[18639]} المؤتمنين اللَّذَين{[18640]} عثر على خيانتهما{[18641]} .