غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{يَـٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ شَهَٰدَةُ بَيۡنِكُمۡ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلۡمَوۡتُ حِينَ ٱلۡوَصِيَّةِ ٱثۡنَانِ ذَوَا عَدۡلٖ مِّنكُمۡ أَوۡ ءَاخَرَانِ مِنۡ غَيۡرِكُمۡ إِنۡ أَنتُمۡ ضَرَبۡتُمۡ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَأَصَٰبَتۡكُم مُّصِيبَةُ ٱلۡمَوۡتِۚ تَحۡبِسُونَهُمَا مِنۢ بَعۡدِ ٱلصَّلَوٰةِ فَيُقۡسِمَانِ بِٱللَّهِ إِنِ ٱرۡتَبۡتُمۡ لَا نَشۡتَرِي بِهِۦ ثَمَنٗا وَلَوۡ كَانَ ذَا قُرۡبَىٰ وَلَا نَكۡتُمُ شَهَٰدَةَ ٱللَّهِ إِنَّآ إِذٗا لَّمِنَ ٱلۡأٓثِمِينَ} (106)

101

ثم إنه سبحانه لما أمر بحفظ النفس في قوله { عليكم أنفسكم } أمر بحفظ المال . عن ابن عباس أن تميماً الداري وأخاه عدياً - وكانا نصرانيين - ، خرجا إلى الشام ومعهما بديل مولى عمرو بن العاص - وكان مسلماً مهاجراً - خرجوا للتجارة . فلما قدموا الشام مرض بديل فكتب كتاباً فيه نسخة جميع ما معه وأخفاه بين الأقمشة ولم يخبر صاحبيه بذلك ، ثم أوصى إليهما وأمرهما أن يدفعا متاعه إلى أهله ومات . ففتشا متاعه فأخذا إناء من فضة فيه ثلثمائة مثقال منقوشاً بالذهب ودفعا باقي المتاع إلى أهله لما قدما ، فأصاب أهل بديل الصحيفة فطالبوهما بالإناء فجحدا فرفعوهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت . ومعنى { شهادة بينكم } شهادة ما بينكم أي من التنازع والتشاجر . وإنما أضيفت الشهادة إلى التنازع لأن الشهود إنما يحتاج إليهم عند النزاع { وإذا حضر } ظرف للشهادة { حين الوصية } بدل منه . وفي هذا دليل على أن الوصية مما لا ينبغي أن يتهاون بها المسلم عند ظهور أمارات الموت فكأنّ وقتيهما واحد وهما متلازمان . وارتفع { اثنان } على أنه قام مقام الخبرية أي شهادة بينكم أن يشهد اثنان . وفي قوله اثنين ، أو على أنه فاعل فعل محذوف والتقدير شهادة ما بينكم أن يشهد اثنان . وفي قوله { منكم } و { من غيركم } قولان : فعن الحسن والزهري وعليه جمهور الفقهاء أن { منكم } أي من أقاربكم و{ من غيركم } أي من الأجانب . والمعنى إن وقع الموت في السفر ولم يكن معكم أحد من أقاربكم فاستشهدوا على الوصية أجنبيين . وجعل الأقارب أولى لأنهم أعلم بحال الميت وأرأف به . وعن ابن عباس وأبي موسى الأشعري وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وشريح ومجاهد وابن جريح وابن سرين أن { منكم } أي من أهل ملتكم و{ من غيركم } أي من كافر كان يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً أو عابد وثن . قال الشافعي : مرض رجل من المسلمين في الغربة فلم يجد أحد من المسلمين يشهده على وصيته فأشهد رجلين من أهل الكتاب فقدما الكوفة وأتيا أبا موسى الأشعري وكان والياً عليها فأخبراه بالواقعة . فقال أبو موسى : هذا أمر لم يقع بعد النبي صلى الله عليه وسلم فحلفهما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد العصر بالله العظيم أنهما ما كذبا وما بدلا وأجاز شهادتهما . والذاهبون إلى هذا القول احتجوا بأن الخطاب في { منكم } لجميع المؤمنين فيلزم أن يكون غيرهم كافرين ، وبأن هذين الشاهدين لو كانا مسلمين لم يكن الاستشهاد بهما مشروطاً بالسفر لجواز ذلك في الحضر أيضاً بالاتفاق ، وبأنه تعالى أوجب الحلف عليهما والشاهد المسلم لا يجب تحليفه البته ، وبأن الشاهدين في سبب النزول كانا نصرانيين وبأن أبا موسى قضى بذلك ولم ينكر عليه أحد من الصحابة ، وبأن الضرورات تبيح المحظورات كالتيمم والإفطار وأكل الميتة ، والمسلم إذا قرب أجله ولم يجد مسلماً ولا تقبل شهادة الكفار ضاع أكثر مهماته فقد يكون عليه زكوات وكفارات وديون ولديه ودائع وله مصالح ولمثل هذه الضرورة جوّزنا شهادة النساء فيما يتعلق بأحوال النساء كالحيض والحبل والولادة . وللأولين أن يجيبوا بأن حذف المضاف غير عزيز وبأن ذكر السفر ليس لأجل اشتراط قبول الشهادة ولكن لأجل أن الغالب في السفر فقدان الأقارب ووجود الأجانب ، وبأن التحليف مشروط بالريبة وقد روي عن علي كرم الله وجهه أنه كان يحلف الشاهد والراوي إذا اتهمهما ، وبأن سبب النزول لا يلزم أن ينطبق على الحكم حذو القذة بالقذة . وبأن قصة أبي موسى خبر الواحد ، وبأن الضرورة كانت في أوّل الإسلام لقلة المسلمين وتعذرهم في السفر غالباً . ومما يصلح أن يكون مؤكداً لهذه الآية وإن لم يجز أن يكون ناسخاً لها عند من يرى أن المائدة من آخر القرآن نزولاً قوله تعالى

{ وأشهدوا ذوى عدل منكم } [ الطلاق :2 ] وليس المراد من العدالة الاحتراز عن الكذب في النطق فقط بل في الدين والاعتقاد ، ولا كذب أعظم من الفريه على الله تعالى وعلى رسله . وإنما تقبل شهادة أهل البدع والأهواء من هذه الأمة احتشاماً لكلمة الإسلام . وموقع { تحبسونهما } أي توقفونهما وتصيرونهما استئناف كأنه قيل : فكيف نعمل إن ارتبنا ؟ فقيل { تحبسونهما من بعد الصلاة } قال ابن عباس : من بعد صلاة دينهما . وقال عامة المفسرين : من بعد صلاة العصر لأن هذا الوقت كان معروفاً عندهم بالتحليف بعده ، ولفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث دعا بعدي وتميم فاستحلفهما عند المنبر بعد صلاة العصر ، ولأن جميع أهل الأديان يعظمون هذا الوقت ويذكرون الله تعالى فيه ويحترزون عن الحلف الكاذب ، وأهل الكتاب يصلون لطلوع الشمس وغروبها . وقال الحسن : المراد بعد الظهر وبعد العصر لأن أهل الحجاز كانوا يقعدون للحكومة بعدهما . وقيل : بعد أي صلاة كانت لأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر . قال الشافعي : الأيمان تغلظ في الدماء والطلاق والعتاق والمال إذا بلغ مائتي درهم بالزمان والمكان ، فيحلف بعد العصر بمكة بين الركن والمقام وبالمدينة عند المنبر ، وفي بيت المقدس عند الصخرة ، وفي سائر البلدان في أشرف المساجد . وقد تغلظ بالتكرير والتعديل كما في القسامة واللعان أو بزيادة الأسماء والصفات ، وقال أبو حنيفة : يحلف من غير التغليظ بزمان أو مكان . ولا يخفى أن قول الشافعي أوفق للآية . والمقسم عليه قوله { لا نشتري به ثمناً ولو كان ذا قربى } وقوله { إن ارتبتم } اعتراض ، والضمير في { به } ، للقسم وفي كان للمقسم له يعني لا نستبدل بصحة القسم بالله عرضاً من الدنيا ولو كان من يقسم له قريباً منا ، أرادوا أن هذه عادتهم في صدقهم وأمانتهم أبداً كقوله { شهداء لله ولو على أنفسكم } وخص ذا القربى بالذكر لأن الميل إليهم أتم والمداهنة بينهم أكمل { ولا نكتم شهادة الله } [ النساء : 135 ] التي أمر بحفظها وتعظيمها وأدائها { إنا إذاً لمن الآثمين } أي إذا كتمناها كنا من الآثمين . ونقل عن الشعبي أنه وقف على قول الله عز وجل { شهادة } ثم ابتدأ { الله } بالمد على حذف حرف القسم وتعويض حرف الاستفهام منه . وروى عنه بغير مدّ على ما ذكره سيبويه أن منهم من يقول : الله لقد كان كذا والمعنى بالله .

/خ120