قوله تعالى : { كان الناس أمة واحدة } . على دين واحد ، قال مجاهد : أراد آدم وحده ، كان أمة واحدة ، قال : سمي الواحد بلفظ الجمع لأنه أصل النسل وأبو البشر ، ثم خلق الله تعالى حواء ، ونشر منهما الناس فانتشروا ، وكانوا مسلمين إلى أن قتل قابيل هابيل فاختلفوا .
قوله تعالى : { فبعث الله النبيين } . قال الحسن وعطاء : كان الناس من وقت وفاة آدم إلى مبعث نوح أمة واحدة على ملة الكفر أمثال البهائم ، فبعث الله نوحاً وغيره من النبيين . وقال قتادة وعكرمة : كان الناس من وقت آدم إلى مبعث نوح ، وكان بينهما عشرة قرون كلهم على شريعة واحدة من الحق والهدى ، ثم اختلفوا في زمن نوح فبعث الله إليهم نوحاً ، فكان أول نبي بعث ، ثم بعث بعده النبيين . وقال الكلبي : هم أهل سفينة نوح ، كانوا مؤمنين ثم اختلفوا بعد وفاة نوح . وروي عن ابن عباس قال : كان الناس على عهد إبراهيم عليه السلام أمة واحدة كفاراً كلهم ، فبعث الله إبراهيم وغيره من النبيين ، وقيل : كان العرب على دين إبراهيم إلى أن غيره عمرو بن لحي . وروي عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال : كان الناس حين عرضوا على آدم ، وأخرجوا من ظهره وأقروا بالعبودية لله تعالى ، أمة واحدة مسلمين كلهم ، ولم يكونوا أمة واحدة قط غير ذلك اليوم ، ثم اختلفوا بعد آدم . نظيره في سورة يونس ( وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ) فبعث الله النبيين ، وجملتهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً ، والرسل منهم ، ثلاثمائة وثلاثة عشر ، والمذكورون في القرآن باسم العلم ثمانية وعشرون نبياً .
قوله تعالى : { مبشرين } . بالثواب من آمن وأطاع .
قوله تعالى : { ومنذرين } . محذرين بالعقاب من كفر وعصى .
قوله تعالى : { وأنزل معهم الكتاب } . أي الكتب ، تقديره وأنزل مع كل واحد منهم الكتاب .
قوله تعالى : { بالحق } . بالعدل والصدق .
قوله تعالى : { ليحكم بين الناس } . قرأ أبو جعفر " ليحكم " بضم الياء وفتح الكاف هاهنا ، وفي أول آل عمران ، وفي النور موضعين ، لأن الكتاب لا يحكم في الحقيقة إنما يحكم به ، وقراءة العامة بفتح الياء وضم الكاف ، أي ليحكم الكتاب ذكره على سعة الكلام كقوله تعالى ( هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق ) . وقيل معناه ليحكم كل نبي بكتابه .
قوله تعالى : { فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه } . أي في الكتاب .
قوله تعالى : { إلا الذين أوتوه } . أي أعطوا الكتاب .
قوله تعالى : { من بعد ما جاءتهم البينات } . يعني أحكام التوراة والإنجيل ، قال الفراء : ولاختلافهم معنيان : أحدهما : كفر بعضهم بكتاب بعض . قال الله تعالى : ( ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ) والآخر : تحريفهم كتاب الله قال الله : ( يحرفون الكلم عن مواضعه ) وقيل : الآية راجعة إلى محمد صلى الله عليه وسلم وكتابه اختلف فيه أهل الكتاب من بعد ما جاءتهم البينات صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم .
قوله تعالى : { بغياً بينهم } . ظلماً وحسداً .
قوله تعالى : { فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه } . أي لما اختلفوا فيه .
قوله تعالى : { من الحق بإذنه } . بعلمه وإرادته فيهم . قال ابن زيد في هذه الآية : اختلفوا في القبلة فمنهم من يصلي إلى المشرق ، ومنهم من يصلي إلى المغرب ، ومنهم من يصلي إلى بيت المقدس ، فهدانا الله إلى الكعبة ، واختلفوا في الصيام فهدانا الله لشهر رمضان ، واختلفوا في الأيام ، فأخذت اليهود السبت ، والنصارى الأحد ، فهدانا الله للجمعة ، واختلفوا في إبراهيم عليه السلام ، فقالت اليهود : كان يهودياً ، وقالت النصارى كان نصرانياً فهدانا الله للحق من ذلك ، واختلفوا في عيسى ، فجعلته اليهود الفرية ، وجعلته النصارى إلهاً وهدانا الله للحق فيه .
كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ( 213 ) .
( أي : كان الناس ) [ أي : كانوا مجتمعين على الهدى ، وذلك عشرة قرون بعد نوح عليه السلام ، فلما اختلفوا في الدين فكفر فريق منهم وبقي الفريق الآخر على الدين ، وحصل النزاع وبعث الله الرسل ليفصلوا بين الخلائق ويقيموا الحجة عليهم ، وقيل بل كانوا ]{[136]} مجتمعين على الكفر والضلال والشقاء ، ليس لهم نور ولا إيمان ، فرحمهم الله تعالى بإرسال الرسل إليهم ( مُبَشِّرِينَ ) من أطاع الله بثمرات الطاعات ، من الرزق ، والقوة في البدن والقلب ، والحياة الطيبة ، وأعلى ذلك ، الفوز برضوان الله والجنة .
( وَمُنْذِرِينَ ) من عصى الله ، بثمرات المعصية ، من حرمان الرزق ، والضعف ، والإهانة ، والحياة الضيقة ، وأشد ذلك ، سخط الله والنار .
( وَأَنزلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ ) وهو الإخبارات الصادقة ، والأوامر العادلة ، فكل ما اشتملت عليه الكتب ، فهو حق ، يفصل بين المختلفين في الأصول والفروع ، وهذا هو الواجب عند الاختلاف والتنازع ، أن يرد الاختلاف إلى الله وإلى رسوله ، ولولا أن في كتابه ، وسنة رسوله ، فصل النزاع ، لما أمر بالرد إليهما .
ولما ذكر نعمته العظيمة بإنزال الكتب على أهل الكتاب ، وكان هذا يقتضي اتفاقهم عليها واجتماعهم ، فأخبر تعالى أنهم بغى بعضهم على بعض ، وحصل النزاع والخصام وكثرة الاختلاف .
فاختلفوا في الكتاب الذي ينبغي أن يكونوا أولى الناس بالاجتماع عليه ، وذلك من بعد ما علموه وتيقنوه بالآيات البينات ، والأدلة القاطعات ، فضلوا بذلك ضلالا بعيدا .
( فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ) من هذه الأمة ( لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ ) فكل ما اختلف فيه أهل الكتاب ، وأخطأوا فيه الحق والصواب ، هدى الله للحق فيه هذه الأمة ( بِإِذْنِهِ ) تعالى وتيسيره لهم ورحمته .
( وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) فعمَّ الخلق تعالى بالدعوة إلى الصراط المستقيم ، عدلا منه تعالى ، وإقامة حجة على الخلق ، لئلا يقولوا : مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ وهدى - بفضله ورحمته ، وإعانته ولطفه - من شاء من عباده ، فهذا فضله وإحسانه ، وذاك عدله وحكمته .
وعلى ذكر الموازين والقيم ؛ وظن الذين كفروا بالذين آمنوا ؛ وحقيقة مكان هؤلاء ووزنهم عند الله . . ينتقل السياق إلى قصة الاختلاف بين الناس في التصورات والعقائد ، والموازين والقيم ؛ وينتهي بتقرير الأصل الذي ينبغي أن يرجع إليه المختلفون ؛ وإلى الميزان الأخير الذي يحكم فيما هم فيه مختلفون :
( كان الناس أمة واحدة ؛ فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ؛ وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه - وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم - فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ؛ والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) . .
هذه هي القصة . . كان الناس أمة واحدة . على نهج واحد ، وتصور واحد . وقد تكون هذه إشارة إلى حالة المجموعة البشرية الأولى الصغيرة من أسرة آدم وحواء وذراريهم ، قبل اختلاف التصورات والاعتقادات . فالقرآن يقرر أن الناس من أصل واحد . وهم أبناء الأسرة الأولى : أسرة آدم وحواء . وقد شاء الله أن يجعل البشر جميعا نتاج أسرة واحدة صغيرة ، ليقرر مبدأ الأسرة في حياتهم ، وليجعلها هي اللبنة الأولى . وقد غبر عليهم عهد كانوا فيه في مستوى واحد واتجاه واحد وتصور واحد في نطاق الأسرة الأولى . حتى نمت وتعددت وكثر أفرادها ، وتفرقوا في المكان ، وتطورت معايشهم ؛ وبرزت فيهم الاستعدادات المكنونة المختلفة ، التي فطرهم الله عليها لحكمة يعلمها ، ويعلم ما وراءها من خير للحياة في التنوع في الاستعدادات والطاقات والاتجاهات .
عندئذ اختلفت التصورات وتباينت وجهات النظر ، وتعددت المناهج ، وتنوعت المعتقدات . . وعندئذ بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين . .
( وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ) . .
وهنا تتبين تلك الحقيقة الكبرى . . إن من طبيعة الناس أن يختلفوا ؛ لأن هذا الاختلاف أصل من أصول خلقتهم ؛ يحقق حكمة عليا من استخلاف هذا الكائن في الأرض . . إن هذه الخلافة تحتاج إلى وظائف متنوعة ، واستعدادات شتى من الوان متعددة ؛ كي تتكامل جميعها وتتناسق ، وتؤدي دورها الكلي في الخلافة والعمارة ، وفق التصميم الكلي المقدر في علم الله . فلا بد إذن من تنوع في المواهب يقابل تنوع تلك الوظائف ؛ ولا بد من اختلاف في الاستعدادات يقابل ذلك الاختلاف في الحاجات . . ( ولا يزالون مختلفين - إلا من رحم ربك - ولذلك خلقهم ) . .
هذا الاختلاف في الاستعدادات والوظائف ينشى ء بدوره اختلافا في التصورات والاهتمامات والمناهج والطرائق . . ولكن الله يحب أن تبقى هذه الاختلافات المطلوبة الواقعة داخل إطار واسع عريض يسعها جميعا حين تصلح وتستقيم . . هذا الإطار هو إطار التصور الإيماني الصحيح . الذي ينفسح حتى يضم جوانحه على شتى الاستعدادات وشتى المواهب وشتى الطاقات ؛ فلا يقتلها ولا يكبحها ؛ ولكن ينظمها وينسقها ويدفعها في طريق الصلاح .
ومن ثم لم يكن بد أن يكون هناك ميزان ثابت يفيء إليه المختلفون ؛ وحكم عدل يرجع إليه المختصمون ؛ وقول فصل ينتهي عنده الجدل ، ويثوب الجميع منه إلى اليقين :
( فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ، وأنزل معهم الكتاب بالحق ، ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ) .
ولا بد أن نقف عند قوله تعالى " بالحق " . . فهو القول الفصل بأن الحق هو ما جاء به الكتاب ؛ وأن هذا الحق قد أنزل ليكون هو الحكم العدل ، والقول الفصل ، فيما عداه من أقوال الناس وتصوراتهم ومناهجهم وقيمهم وموازينهم . . لا حق غيره . ولا حكم معه . ولا قول بعده . وبغير هذا الحق الواحد الذي لا يتعدد ؛ وبغير تحكيمه في كل ما يختلف فيه الناس ؛ وبغير الانتهاء إلى حكمه بلا مماحكة ولا اعتراض . . بغير هذا كله لا يستقيم أمر هذه الحياة ؛ ولا ينتهي الناس من الخلاف والفرقة ؛ ولا يقوم على الأرض السلام ؛ ولا يدخل الناس في السلم بحال .
ولهذه الحقيقة قيمتها الكبرى في تحديد الجهة التي يتلقى منها الناس تصوراتهم وشرائعهم ؛ والتي ينتهون إليها في كل ما يشجر بينهم من خلاف في شتى صور الخلاف . . إنها جهة واحدة لا تتعدد هي التي أنزلت هذا الكتاب بالحق ؛ وهو مصدر واحد لا يتعدد هو هذا الكتاب الذي أنزله الله بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه . .
وهو كتاب واحد في حقيقته ، جاء به الرسل جميعا . فهو كتاب واحد في أصله ، وهي ملة واحدة في عمومها ، وهو تصور واحد في قاعدته : إله واحد ، ورب واحد ، ومعبود واحد ، ومشرع واحد لبني الإنسان . . ثم تختلف التفصيلات بعد ذلك وفق حاجات الأمم والأجيال ؛ ووفق أطوار الحياة والارتباطات ؛ حتى تكون الصورة الأخيرة التي جاء بها الإسلام ، وأطلق الحياة تنمو في محيطها الواسع الشامل بلا عوائق . بقيادة الله ومنهجه وشريعته الحية المتجددة في حدود ذلك المحيط الشامل الكبير .
وهذا الذي يقرره القرآن في أمر الكتاب هو النظرية الإسلامية الصحيحة في خط سير الأديان والعقائد . . كل نبي جاء بهذا الدين الواحد في أصله ، يقوم على القاعدة الأصيلة : قاعدة التوحيد المطلق . . ثم يقع الانحراف عقب كل رسالة ، وتتراكم الخرافات والأساطير ، حتى يبعد الناس نهائيا عن ذلك الأصل الكبير . وهنا تجيء رسالة جديدة تجدد العقيدة الأصيلة ، وتنفي ما علق بها من الانحرافات ، وتراعي أحوال الأمة وأطوارها في التفصيلات . . وهذه النظرية أولى بالإتباع من نظريات الباحثين في تطور العقائد من غير المسلمين ، والتي كثيرا ما يتأثر بها باحثون مسلمون ، وهم لا يشعرون ، فيقيمون بحوثهم على أساس التطور في أصل العقيدة وقاعدة التصور ، كما يقول المستشرقون وأمثالهم من الباحثين الغربيين الجاهليين !
وهذا الثبات في أصل التصور الإيماني ، هو الذي يتفق مع وظيفة الكتاب الذي أنزله الله بالحق ، ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ، في كل زمان ، ومع كل رسول ، منذ أقدم الأزمان .
ولم يكن بد أن يكون هناك ميزان ثابت يفيء إليه الناس ، وأن يكون هناك قول فصل ينتهون إليه . ولم يكنبد كذلك أن يكون هذا الميزان من صنع مصدر آخر غير المصدر الإنساني ، وأن يكون هذا القول قول حاكم عدل لا يتأثر بالهوى الإنساني ، ولا يتأثر بالقصور الإنساني ، ولا يتأثر الجهل الإنساني !
وإقامة ذلك الميزان الثابت تقتضي علما غير محدود . علم ما كان وما هو كائن وما سيكون . علمه كله لا مقيدا بقيود الزمان التي تفصل الوجود الواحد إلى ماض وحاضر ومستقبل ، وإلى مستيقن ومظنون ومجهول ، وإلى حاضر مشهود ومغيب مخبوء . . ولا مقيدا بقيود المكان التي تفصل الوجود الواحد إلى قريب وبعيد ، ومنظور ومحجوب ، ومحسوس وغير محسوس . . في حاجة إلى إله يعلم ما خلق ، ويعلم من خلق . . ويعلم ما يصلح وما يصلح حال الجميع .
وإقامة ذلك الميزان في حاجة كذلك إلى استعلاء على الحاجة ، واستعلاء على النقص ، واستعلاء على الفناء ، واستعلاء على الفوت ، واستعلاء على الطمع ، واستعلاء على الرغبة والرهبة . . واستعلاء على الكون كله بما فيه ومن فيه . . في حاجة إلى إله ، لا أرب له ، ولا هوى ، ولا لذة ، ولا ضعف في ذاته - سبحانه - ولا قصور !
أما العقل البشري فبحسبه أن يواجه الأحوال المتطورة ، والظروف المتغيرة ، والحاجات المتجددة ؛ ثم يوائم بينها وبين الإنسان في لحظة عابرة وظرف موقوت . على أن يكون هناك الميزان الثابت الذي يفيء إليه ، فيدرك خطأه وصوابه ، وغيه ورشاده ، وحقه وباطله ، من ذلك الميزان الثابت . . وبهذا وحده تستقيم الحياة . ويطمئن الناس إلى أن الذي يسوسهم في النهاية إله !
إن الكتاب لم ينزل بالحق ليمحو فوارق الاستعدادات والمواهب والطرائق والوسائل . إنما جاء ليحتكم الناس إليه . . وإليه وحده . . حين يختلفون . .
ومن شأن هذه الحقيقة أن تنشىء حقيقة أخرى تقوم على أساسها نظرة الإسلام التاريخية :
إن الإسلام يضع( الكتاب )الذي أنزله الله " بالحق " ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه . . يضع هذا الكتاب قاعدة للحياة البشرية . ثم تمضي الحياة . فإما اتفقت مع هذه القاعدة ، وظلت قائمة عليها ، فهذا هو الحق . وإما خرجت عنها وقامت على قواعد أخرى ، فهذا هو الباطل . . هذا هو الباطل ولو ارتضاه الناس جميعا . في فترة من فترات التاريخ . فالناس ليسوا هم الحكم في الحق والباطل . وليس الذي يقرره الناس هو الحق ، وليس الذي يقرره الناس هو الدين . إن نظرة الإسلام تقوم ابتداء على أساس أن فعل الناس لشيء ، وقولهم لشيء ، وإقامة حياتهم على شيء . . لا تحيل هذا الشيء حقا إذا كان مخالفا للكتاب ؛ ولا تجعله أصلا من أصول الدين ؛ ولا تجعله التفسير الواقعي لهذا الدين ؛ ولا تبرره لأن أجيالا متعاقبة قامت عليه . .
وهذه الحقيقة ذات أهمية كبرى في عزل أصول الدين عما يدخله عليها الناس ! وفي التاريخ الإسلامي مثلا وقع انحراف ، وظل ينمو وينمو . . فلا يقال : إن هذا الانحراف متى وقع وقامت عليه حياة الناس فهو إذن الصورة الواقعية للإسلام ! كلا ! إن الإسلام يظل بريئا من هذا الواقع التاريخي . ويظل هذا الذي وقع خطأ وانحرافا لا يصلح حجة ولا سابقة ؛ ومن واجب من يريد استئناف حياة إسلامية أن يلغيه ويبطله ، وأن يعود إلى الكتاب الذي أنزله الله بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه . .
ولقد جاء الكتاب . . ومع ذلك كان الهوى يغلب الناس من هناك ومن هناك ؛ وكانت المطامع والرغائب والمخاوف والضلالات تبعد الناس عن قبول حكم الكتاب ، والرجوع إلى الحق الذي يردهم إليه :
( وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات . . بغيا بينهم ) . .
فالبغي . . بغي الحسد . وبغي الطمع . وبغي الحرص . وبغي الهوى . . هو الذي قاد الناس إلى المضي في الاختلاف على أصل التصور والمنهج ؛ والمضي في التفرق واللجاج والعناد .
وهذه حقيقة . . فما يختلف اثنان على أصل الحق الواضح في هذا الكتاب ، القوي الصادع المشرق المنير . . ما يختلف اثنان على هذا الأصل إلا وفي نفس أحدهما بغي وهوى ، أو في نفسيهما جميعا . . فأما حين يكون هناك إيمان فلا بد من التقاء واتفاق :
( فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ) . .
هداهم بما في نفوسهم من صفاء ، وبما في أرواحهم من تجرد ، وبما في قلوبهم من رغبة في الوصول إلى الحق . وما أيسر الوصول حينئذ والاستقامة :
( والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) . .
هو هذا الصراط الذي يكشف عنه ذلك الكتاب . وهو هذا المنهج الذي يقوم على الحق ويستقيم على الحق . ولا تتقاذفه الأهواء والشهوات ، ولا تتلاعب به الرغاب والنزوات . .
والله يختار من عباده لهذا الصراط المستقيم من يشاء ، ممن يعلم منهم الاستعداد للهدى والاستقامة على الصراط ؛ أولئك يدخلون في السلم ، وأولئك هم الأعلون ، ولو حسب الذين لا يزنون بميزان الله أنهم محرومون ، ولو سخروا منهم كما يسخر الكافرون من المؤمنين !
{ كَانَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النّبِيّينَ مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاّ الّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ الْبَيّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ }
اختلف أهل التأويل في معنى الأمة في هذا الموضع ، وفي الناس الذين وصفهم الله بأنهم كانوا أمة واحدة فقال بعضهم : هم الذين كانوا بين آدم ونوح ، وهم عشرة قرون ، كلهم كانوا على شريعة من الحق ، فاختلفوا بعد ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا همام بن منبه ، عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : كان بين نوح وآدم عشرة قرون ، كلهم على شريعة من الحق ، فاختلفوا ، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين . قال : وكذلك هي في قراءة عبد الله «كانَ النّاسُ أمةً واحدةً فاختْلفُوا » .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : كانَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً قال : كانوا على الهدى جميعا ، فاختلفوا فَبَعَثَ اللّهُ النّبِيّينَ مُبَشّرِينَ وَمُنْذِرينَ فكان أولَ نبيّ بعث نوح .
فتأويل الأمة على هذا القول الذي ذكرناه عن ابن عباس الدين ، كما قال النابغة الذبياني :
حَلَفْتُ فَلَمْ أتْركْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً *** وَهَلْ يَأثَمَنْ ذُو أُمّةٍ وَهُوَ طائِعُ
يعني ذا الدين . فكان تأويل الآية على معنى قول هؤلاء : كان الناس أمة مجتمعة على ملة واحدة ودين واحد ، فاختلفوا ، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين .
وأصل الأمة الجماعة ، تجتمع على دين واحد ، ثم يكتفى بالخبر عن الأمة من الخبر عن الدين لدلالتها عليه كما قال جل ثناؤه : وَلَوْ شاءَ الله لَجَعَلَكُمْ أمّةً وَاحِدَةً يراد به أهل دين واحد وملة واحدة . فوجه ابن عباس في تأويله قوله : كانَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً إلى أن الناس كانوا أهل دين واحد حتى اختلفوا .
وقال آخرون : بل تأويل ذلك كان آدم على الحق إماما لذرّيته ، فبعث الله النبيين في ولده ووجهوا معنى الأمة إلى الطاعة لله والدعاء إلى توحيده واتباع أمره من قول الله عزّ وجل : إنّ إبْرَاهيمَ كانَ أُمّةً قانِتا لِلّهِ حَنِيفا يعني بقوله أُمّةً إماما في الخير يقتدى به ، ويتبع عليه . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : كانَ النّاسُ أُمْةً وَاحِدَةً قال : آدم .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد قوله : كانَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً قال : آدم ، قال : كان بين آدم ونوح عشرة أنبياء ، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين . قال مجاهد : آدم أمة وحده ، وكأنّ من قال هذا القول استجاز بتسمية الواحد باسم الجماعة لاجتماع أخلاق الخير الذي يكون في الجماعة المفرقة فيمن سماه بالأمة ، كما يقال : فلان أمة وحده ، يقول مقام الأمة . وقد يجوز أن يكون سماه بذلك لأنه سبب لاجتماع الأسباب من الناس على ما دعاهم إليه من أخلاق الخير ، فلما كان آدم صلى الله عليه وسلم سببا لاجتماع من اجتمع على دينه من ولده إلى حال اختلافهم سماه بذلك أمة .
وقال آخرون : معنى ذلك كان الناس أمة واحدة على دين واحد يوم استخرج ذرية آدم من صلبه ، فعرضهم على آدم . ذكر من قال ذلك :
حدثت عن عمار ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : كانَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً . وعن أبيه ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، عن أبيّ بن كعب ، قال : كانوا أمة واحدة حيث عرضوا على آدم ففطرهم يومئذٍ على الإسلام ، وأقرّوا له بالعبودية ، وكانوا أمة واحدة مسلمين كلهم . ثم اختلفوا من بعد آدم ، فكان أبيّ يقرأ : «كانَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً فاخْتَلَفُوا فَبَعَثَ اللّهُ النَبِييّنَ مُبَشّرِينَ وَمُنْذِرِينَ » إلى «فِيما اخْتَلَفُوا فِيهِ » وإن الله إنما بعث الرسل وأنزل الكتب عند الاختلاف .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : كانَ النّاسُ أُمّةً وَاحدَةً قال : حين أخرجهم من ظهر آدم لم يكونوا أمة واحدة قط غير ذلك اليوم ، فبعث الله النبيين . قال : هذا حين تفرّقت الأمم .
وتأويل الآية على هذا القول نظير تأويل قول من قال بقول ابن عباس : إن الناس كانوا على دين واحد فيما بين آدم ونوح . وقد بينا معناه هنالك إلا أن الوقت الذي كان فيه الناس أمة واحدة مخالف الوقت الذي وقته ابن عباس .
وقال آخرون بخلاف ذلك كله في ذلك ، وقالوا : إنما معنى قوله : كانَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً على دين واحد ، فبعث الله النبيين . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : كانَ النّاسُ أُمّةً وَاحِدَةً يقول : كان دينا واحدا ، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين .
وأولى التأويلات في هذه الآية بالصواب أن يقال : إن الله عز وجل أخبر عباده أن الناس كانوا أمة واحدة على دين واحد وملة واحدة . كما :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : كانَ النّاسُ أُمةً وَاحِدَةً يقول : دينا واحدا على دين آدم ، فاختلفوا ، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين .
وكان الدين الذي كانوا عليه دين الحق . كما قال أبيّ بن كعب وكما :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي ، قال : هي في قراءة ابن مسعود : «اختلفوا عنه » عن الإسلام .
فاختلفوا في دينهم ، فبعث الله عند اختلافهم في دينهم النبيين مبشرين ومنذرين ، وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه رحمة منه جل ذكره بخلقه واعتذارا منه إليهم .
وقد يجوز أن يكون ذلك الوقت الذي كانوا فيه أمة واحدة من عهد آدم إلى عهد نوح عليهما السلام ، كما روى عكرمة ، عن ابن عباس ، وكما قاله قتادة .
وجائز أن يكون كان ذلك حين عرض على آدم خلقه . وجائز أن يكون كان ذلك في وقت غير ذلك . ولا دلالة من كتاب الله ولا خبر يثبت به الحجة على أيّ هذه الأوقات كان ذلك ، فغير جائز أن نقول فيه إلا ما قال الله عز وجل من أن الناس كانوا أمة واحدة ، فبعث الله فيهم لما اختلفوا الأنبياء والرسل . ولا يضرّنا الجهل بوقت ذلك ، كما لا ينفعنا العلم به إذا لم يكن العلم به لله طاعة ، غير أنه أيّ ذلك كان ، فإن دليل القرآن واضح على أن الذين أخبر الله عنهم أنهم كانوا أمة واحدة ، إنما كانوا أمة واحدة على الإيمان ودين الحقّ دون الكفر بالله والشرك به . وذلك أن الله جل وعز قال في السورة التي يذكر فيها يونس : وَما كانَ النّاسُ إلاّ أُمّةً وَاحِدَةً فاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقتْ مِنْ رَبّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ فتوعد جل ذكره على الاختلاف لا على الاجتماع ، ولا على كونهم أمة واحدة ، ولو كان اجتماعهم قبل الاختلاف كان على الكفر ثم كان الاختلاف بعد ذلك ، لم يكن إلا بانتقال بعضهم إلى الإيمان ، ولو كان ذلك كذلك لكان الوعد أولى بحكمته جل ثناؤه في ذلك الحال من الوعيد لأنها حال إنابة بعضهم إلى طاعته ، ومحال أن يتوعد في حال التوبة والإنابة ، ويترك ذلك في حال اجتماع الجميع على الكفر والشرك .
وأما قوله : فَبَعَثَ اللّهُ النَبِيّينَ مُبَشّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فإنه يعني أنه أرسل رسلاً يبشرون من أطاع الله بجزيل الثواب ، وكريم المآب ويعني بقوله وَمُنْذِرِينَ ينذرون من عصى الله فكفر به ، بشدة العقاب ، وسوء الحساب والخلود في النار وأنْزَلَ مَعَهُمُ الكِتَابَ بالحَقّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ فِيما اخْتَلَفُوا فِيهِ يعني بذلك ليحكم الكتاب وهو التوراة بين الناس فيما اختلف المختلفون فيه فأضاف جل ثناؤه الحكم إلى الكتاب ، وأنه الذي يحكم بين الناس دون النبيين والمرسلين ، إذ كان من حكم من النبيين والمرسلين بحكم ، إنما يحكم بما دلهم عليه الكتاب الذي أنزل الله عزّ وجل ، فكان الكتاب بدلالته على ما دل وصفه على صحته من الحكم حاكما بين الناس ، وإن كان الذي يفصل القضاء بينهم غيره .
القول في تأويل قوله تعالى : وَما اخْتَلَفَ فِيهِ إلاّ الّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَيّناتُ بَغْيا بَيْنَهُمْ .
يعني جل ثناؤه بقوله : وَما اخْتَلَفَ فِيهِ وما اختلف في الكتاب الذي أنزله وهو التوراة ، إلاّ الّذينَ أُوتُوهُ يعني بذلك اليهود من بني إسرائيل ، وهم الذين أوتوا التوراة والعلم بها . والهاء في قوله «أوتوه » عائدة على الكتاب الذي أنزله الله . مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَيّناتُ يعني بذلك : من بعد ما جاءتهم حجج الله وأدلته أن الكتاب الذي اختلفوا فيه وفي أحكامه عند الله ، وأنه الحق الذي لا يسعهم الاختلاف فيه ، ولا العمل بخلاف ما فيه . فأخبر عز ذكره عن اليهود من بني إسرائيل أنهم خالفوا الكتاب التوراة ، واختلفوا فيه على علم منهم ، ما يأتون متعمدين الخلاف على الله فيما خالفوه فيه من أمره وحكم كتابه .
ثم أخبر جل ذكره أن تعمدهم الخطيئة التي أنزلها ، وركوبهم المعصية التي ركبوها من خلافهم أمره ، إنما كان منهم بغيا بينهم . والبغي مصدر من قول القائل : بغى فلان على فلان بغيا إذا طغى واعتدى عليه فجاوز حدّه ، ومن ذلك قيل للجرح إذا أمدّ ، وللبحر إذا كثر ماؤه ففاض ، وللسحاب إذا وقع بأرض فأخصبت : بغى كل ذلك بمعنى واحد ، وهي زيادته وتجاوز حده . فمعنى قوله جل ثناؤه : وَما اخْتَلَفَ فِيهِ إلاّ الّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَيّناتُ بَغيْا بَيْنَهُمْ من ذلك . يقول : لم يكن اختلاف هؤلاء المختلفين من اليهود من بني إسرائيل في كتابي الذي أنزلته مع نبي عن جهل منهم به ، بل كان اختلافهم فيه ، وخلاف حكمه من بعد ما ثبتت حجته عليهم بغيا بينهم ، طلب الرياسة من بعضهم على بعض ، واستذلالاً من بعضم لبعض . كما :
حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : ثم رجع إلى بني إسرائيل في قوله : وَما اخْتَلَفَ فِيهِ إلاّ الّذِينَ أُوتُوهُ يقول : إلا الذين أوتوا الكتاب والعلم مِنْ بَعدِ ما جاءَتُهُمُ البَيّناتُ بَغيْا بَيْنَهُمْ يقول : بغيا على الدنيا وطلب ملكها وزخرفها وزينتها ، أيهم يكون له الملك والمهابة في الناس . فبغى بعضهم على بعض ، وضرب بعضهم رقاب بعض .
ثم اختلف أهل العربية في «مِن » التي في قوله : مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ البَيّناتُ ما حكمها ومعناها ؟ وما المعنى المنتسق في قوله وَما اخْتَلَفَ فِيهِ إلاّ الّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جَاءَتْهُمُ البَيّناتُ بَغيْا بَيْنَهُمْ ؟ فقال بعضهم : من ذلك للذين أوتوا الكتاب وما بعده صلة له . غير أنه زعم أن معنى الكلام : وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه بغيا بينهم من بعد ما جاءتهم البينات . وقد أنكر ذلك بعضهم فقال : لا معنى لما قال هذا القائل ، ولا لتقديم البغي قبل «من » ، لأن «من » إذا كان الجالب لها البغي ، فخطأ أن تتقدمه لأن البغي مصدر ، ولا تتقدم صلة المصدر عليه . وزعم المنكر ذلك أن «الذين » مستثنى ، وأن «من بعد ما جاءتهم البينات » مستثنى باستثناء آخر . وأن تأويل الكلام : وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه ، ما اختلفوا فيه إلا بغيا ، ما اختلفوا إلا من بعد ما جاءتهم البينات . فكأنه كرّر الكلام توكيدا . وهذا القول الثاني أشبه بتأويل الآية ، لأن القوم لم يختلفوا إلا من بعد قيام الحجة عليهم ومجيء البينات من عند الله ، وكذلك لم يختلفوا إلا بغيا ، فذلك أشبه بتأويل الآية .
القول في تأويل قوله تعالى : فَهَدَى اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا لَما اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقّ بإذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم .
يعني جل ثناؤه بقوله : فَهَدَى اللّهُ : فوفق الذي آمنوا وهم أهل الإيمان بالله وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم المصدّقين به وبما جاء به أنه من عند الله لما اختلف الذين أوتوا الكتاب فيه . وكان اختلافهم الذي خذلهم الله فيه ، وهدى له الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم فوفقتهم لإصابته : الجمعة ، ضلوا عنها وقد فرضت عليهم كالذين فرض علينا ، فجعلوها السبت فقال صلى الله عليه وسلم : «نَحْنُ الاَخِرُونَ السّابِقُونَ ، بَيْدَ أنّهُمْ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِنا وأُوتِيناهُ مِنْ بَعْدِهِمْ ، وَهَذَا اليَوْمُ الّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ ، فَهَدَانا اللّهُ لَهُ ، فَلِلْيَهُودِ غَدا وللنّصَارَى بَعْدَ غَدٍ » .
حدثنا بذلك أحمد بن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن عياض بن دينار الليثي ، قال : سمعت أبا هريرة يقول : قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم . فذكر الحديث .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الأعمش ، عن أبي صالح عن أبي هريرة : فَهَدَى اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقّ بإذْنِهِ قال : قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «نَحْنُ الاَخِرُونَ الأوّلُونَ يَوْمَ القِيامَةِ ، نَحْنُ أوّلُ النّاسِ دُخُولاً الجَنّة بَيْدَ أنّهُمْ أُوتُوا الكِتابَ مِنْ قَبْلِنا وأُوتِيناهُ مِنْ بَعْدِهِمْ ، فَهَدَانا اللّهُ لِما اختَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقّ بإذْنِهِ فَهذَا الْيوْمُ الّذِي هَدانَا اللّهُ لهُ والنّاسُ لنَا فِيهِ تَبَعٌ ، غَدا لِلْيهُودِ ، وَبَعْدَ غَدٍ لِلنّصَارَى » .
وكان مما اختلفوا فيه أيضا ما قال ابن زيد ، وهو ما :
حدثني به يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : فَهَدَى اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا للإسلام ، واختلفوا في الصلاة ، فمنهم من يصلى إلى المشرق ، ومنهم من يصلي إلى بيت المقدس ، فهدانا للقبلة واختلفوا في الصيام ، فمنهم من يصوم بعض يوم ، وبعضهم بعض ليلة ، وهدانا الله له . واختلفوا في يوم الجمعة ، فأخذت اليهود السبت وأخذت النصارى الأحد ، فهدانا الله له . واختلفوا في إبراهيم ، فقالت اليهود كان يهوديا ، وقالت النصارى كان نصرانيا ، فبرأه الله من ذلك ، وجعله حنيفا مسلما ، وما كان من المشركين للذين يدّعونه من أهل الشرك . واختلفوا في عيسى ، فجعلته اليهود لفرية ، وجعلته النصارى ربا ، فهدانا الله للحق فيه فهذا الذي قال جل ثناؤه : فَهَدَى اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقّ بإذْنهِ .
قال : فكانت هداية الله جل ثناؤه الذين آمنوا بمحمد ، وبما جاء به لما اختلف هؤلاء الأحزاب من بني إسرائيل الذين أوتوا الكتاب فيه من الحق بإذنه أن وفقهم لإصابة ما كان عليه من الحقّ من كان قبل المختلفين الذين وصف الله صفتهم في هذه الآية إذ كانوا أمة واحدة ، وذلك هو دين إبراهيم الحنيف المسلم خليل الرحمن ، فصاروا بذلك أمة وسطا ، كما وصفهم به ربهم ليكونوا شهداء على الناس . كما :
حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : فَهَدَى اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ فهداهم الله عند الاختلاف أنهم أقاموا على ما جاءت به الرسل قبل الاختلاف ، أقاموا على الإخلاص لله وحده وعبادته لا شريك له ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، فأقاموا على الأمر الأول الذي كان قبل الاختلاف ، واعتزلوا الاختلاف فكانوا شهداء على الناس يوم القيامة كانوا شهداء على قوم نوح ، وقوم هود ، وقوم صالح ، وقوم شعيب ، وآل فرعون ، أن رسلهم قد بلغوهم ، وأنهم كذبوا رسلهم . وهي في قراءة أبيّ بن كعب : «ليكونوا شهداء على الناس يوم القيامة ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم » . فكان أبو العالية يقول في هذه الآية المخرج من الشبهات والضلالات والفتن .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو بن حماد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : فَهَدَى اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ يقول : اختلف الكفار فيه ، فهدى الله الذي آمنوا للحق من ذلك وهي في قراءة ابن مسعود : فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا «عنه » عن الإسلام .
وأما قوله : بإذْنِهِ فإنه يعني جل ثناؤه بعلمه بما هداهم له ، وقد بينا معنى الإذن إذ كان بمعنى العلم في غير الموضع بما أغنى عن إعادته ههنا .
وأما قوله : وَاللّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إلى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم فإنه يعني به : والله يسدد من يشاء من خلقه ويرشده إلى الطريق القويم على الحق الذي لا اعوجاج فيه ، كما هدى الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، لما اختلف الذين أوتوا الكتاب فيه بغيا بينهم ، فسدّدهم لإصابة الحق والصواب فيه .
وفي هذه الآية البيان الواضح على صحة ما قاله أهل الحق من أن كل نعمة على العباد في دينهم أو دنياهم ، فمن الله عز وجل .
فإن قال لنا قائل : وما معنى قوله : فَهَدَى اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيه أهداهم للحق أم هداهم للاختلاف ؟ فإن كان هداهم للاختلاف فإنما أضلهم ، وإن كان هداهم للحق فيكف قيل : فَهَدَى اللّهَ الّذِين آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ؟ قيل : إن ذلك على غير الوجه الذي ذهبت إليه ، وإنما معنى ذلك : فهدى الله الذين آمنوا للحق فيما اختلف فيه من كتاب الله الذين أوتوه ، فكفر بتبديله بعضهم ، وثبت على الحقّ والصواب فيه بعضهم ، وهم أهل التوراة الذين بدّلوها ، فهدى الله للحق مما بدلوا وحرّفوا الذين آمنوا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم .
قال أبو جعفر : فإن أشكل ما قلنا على ذي غفلة ، فقال : وكيف يجوز أن يكون ذلك كما قلت ، و«مِنْ » إنما هي في كتاب الله في «الحق » واللام في قوله : لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وأنت تحوّل اللام في «الحقّ » ، و«من » في «الاختلاف » في التأويل الذي تتأوله فتجعله مقلوبا ؟ قيل : ذلك في كلام العرب موجود مستفيض ، والله تبارك وتعالى إنما خاطبهم بمنطقهم ، فمن ذلك قول الشاعر :
كانَتْ فَريضَةَ ما تَقَولُ كمَا *** كانَ الزّنَاءُ فَريضَة الرّجْمِ
وإنما الرجم فريضة الزنا . وكما قال الاَخر :
إنّ سِرَاجا لَكرِيمٌ مَفْخَرُهْ *** تَحْلَى بِهِ العَينُ إذَا ما تَجْهَرُهْ
وإنما سراج الذي يحلى بالعين ، لا العين بسراج .
وقد قال بعضهم : إن معنى قوله فَهَدَى اللّهُ الّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الحَقّ أن أهل الكتب الأول اختلفوا ، فكفر بعضهم بكتاب بعض ، وهي كلها من عند الله ، فهدى الله أهل الإيمان بمحمد للتصديق بجميعها ، وذلك قول ، غير أن الأول أصحّ القولين ، لأن الله إنما أخبر باختلافهم في كتاب واحد .