غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّـۧنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ فِيمَا ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِۚ وَمَا ٱخۡتَلَفَ فِيهِ إِلَّا ٱلَّذِينَ أُوتُوهُ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَتۡهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُ بَغۡيَۢا بَيۡنَهُمۡۖ فَهَدَى ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَا ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ ٱلۡحَقِّ بِإِذۡنِهِۦۗ وَٱللَّهُ يَهۡدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٍ} (213)

211

قوله سبحانه { كان الناس أمة واحدة } الآية . فيه إشارة إلى أن التباغي والتحاسد والتنازع في طلب الدنيا وطيباتها لا يختص بهذا الزمان ، وإنما ذلك داء قديم في الإنسان . ثم الأمة الواحدة كانوا على الحق أو على الباطل فيه للمفسرين أقوال :

الأول : أنهم كانوا على الحق واختاره المحققون لوجوه منها : قوله تعالى { ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } وهذا يدل على أن النبيين عليهم السلام بعثوا حين الاختلاف وصيرورة بعضهم مبطلاً ، ولو كانوا قبل ذلك مجتمعين على الكفر لكان بعث الأنبياء إليهم حينئذ أولى . ومنها النقل المتواتر إن آدم وأولاده كانوا مسلمين مطيعين لله تعالى إلى أن قتل قابيل هابيل حسداً وبغياً . وعن ابن عباس أنه كان بين آدم وبين نوح عشرة قرون على شريعة من الحق . ومنها أن وقت الطوفان لم يبق إلا أهل السفينة وكلهم كانوا على الحق والدين الصحيح ، فلعل الناس إشارة إليهم . ومنها أن الدين الحق يتوقف على النظر ، والنظريات مستندة بالآخرة إلى مقدمات تعلم صحتها بضرورة العقل وإلى ترتيب . كذلك فالعقل السليم لا يغلط لو لم يعرض له سبب من خارج ، فالصواب له بالذات و الخطأ بالعرض وما بالذات أقدم مما بالعرض بحسب الاستحقاق وبحسب الزمان أيضاً . فالأولى أن يقال : كان الناس على الحق ثم اختلفوا لأسباب خارجة كالبغي والحسد ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم " كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهوّدانه وينصرانه ويمجسانه " .

القول الثاني : وهو مروي عن ابن عباس والحسن وعطاء أنهم كانوا على الباطل لأن بعثة الأنبياء مترتبة على ذلك ، ولو كانوا على الحق لم يحتج إلى بعثتهم . ولو قيل : إن تقدير الآية فاختلفوا فبعث الله كما قرأ به ابن مسعود ، فالأصل عدم الإضمار ، والقراءة الشاذة لا يعتد بها . ومتى كان الناس متفقين على الكفر ؟ قالوا : من وفاة آدم إلى زمان نوح عليه السلام . كانوا كفاراً بحكم الأغلب وإن كان فيهم بعض المسلمين كهابيل وشيث وإدريس عليهم السلام كما يقال : دار الكفر وإن كان فيها مسلمون .

القول الثالث : عن أبي مسلم والقاضي أبي بكر أنهم كانوا أمة واحدة في التمسك بالشرائع العقلية وهي الاعتراف بوجود الصانع وصفاته والاشتغال بخدمته وشكر نعمته والاجتناب عن القبائح العقلية كالظلم والكذب والعبث . واحتجا بأن لفظ النبيين جمع معرف فيفيد العموم ، والفاء توجب التعقيب فيعلم من ذلك أن تلك الواحدة متقدمة على جميع الشرائع ، فلا تكون الاستفادة من العقل ، ثم سأل القاضي نفسه فقال : أوليس أول الناس آدم وأنه كان نبياً مبعوثاً ؟ وأجاب بأنه يحتمل أن يكون مع أولاده متمسكين بالشرائع العقلية أولاً ، ثم إن الله تعالى بعثه إلى أولاده . ويحتمل أن شريعته قد صارت مندرسة ثم رجع الناس إلى الشرائع العقلية .

القول الرابع : التوقف فلا دلالة في الآية على أنهم كانوا محقين أو مبطلين .

القول الخامس : أن المراد من الناس أهل الكتاب الذين آمنوا بموسى عليه السلام ثم اختلفوا بسبب البغي والحسد فبعث الله النبيين ومعهم الكتب كما بعث داود ومعه الزبور وعيسى ومعه الإنجيل ومحمداً صلى الله عليه وسلم ومعه الفرقان لتكون تلك الكتب حاكمة في تلك الأشياء التي اختلفوا فيها . وهذا القول يوافق قول من قال : إن الخطاب في { يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم } لأهل الكتب . فيراد بالناس إذن ناس معهودون . ثم إنه تعالى وصف النبيين بصفات ثلاث : الأولى : كونهم مبشرين ، والثانية : كونهم منذرين وقدمت البشارة على الإنذار لأن البشارة تجري مجرى حفظ الصحة ، والإنذار يجري مجرى إزالة المرض . أو الأول لكونه مقصود الغذاء ، والثاني كتناول الدواء . والأول لكونه مقصوداً بالذات مقدم على الثاني لأنه مقصود بالعرض . الصفة الثالثة : قوله { وأنزل معهم الكتاب بالحق } وفي قوله { معهم } والضمير يعود إلى عامة النبيين دليل على أنه لا نبي إلا ومعه كتاب منزل فيه بيان الحق والباطل ، طال ذلك الكتاب أم قصر ، ودوّن ذلك الكتاب أو لم يدوّن ، معجزاً كان أو غير معجز . قيل : إنزال الكتاب قبل وصول الأمر و النهي إلى المكلفين ، ووصول الأمر والنهي إليهم قبل التبشير والإنذار ، فلم قدم التبشير والإنذار على إنزال الكتاب ؟ وأجيب بأن الوعد والوعيد منهم قبل بيان الشرع ممكن فيما يتصل بالعقليات من المعرفة بالله وترك الظلم وغيرهما ، وبأن المكلف إنما يتحمل النظر في دلالة المعجز على الصدق . وفي الفرق بين العجز والسحر إذا خاف أنه لو لم ينظر فربما ترك الحق فيصير مستحقاً للعقاب والخوف إنما يقوى عند التبشير والإنذار فلهذا قدم ذكرهما على إنزال الكتاب . قلت : فيه فائدة أخرى لفظية هي أن لا يقع فاصلة كثيرة بين الثالثة وبين الأولين ، أو بين الثالثة وبين ما رتب عليها من قوله { ليحكم } أي الكتاب لأنه أقرب . ولا محذور في نسبة الحكم إليه تجوزاً كما لا محذور في كونه هدى وشفاء . واللام للجنس ، أو أريد مع كل واحد كتابه . وقيل : ليحكم الله لأنه الحاكم في الحقيقة لا الكتاب وقيل : ليحكم النبي المنزل عليه بين الناس { فيما اختلفوا فيه } أي في الحق ودين الإسلام الذي اختلفوا فيه بعد الاتفاق ، أو في كل ما اختلفوا فيه ولم يعرفوا وجه الصواب في ذلك بحسب حكم الله { وما اختلف فيه } في الحق { إلا الذين أوتوه } أي أعطوا الحق وأدّوه لمباشرة أسبابه القريبة التي هي مجيء البينات . وقيل : الضمير للكتاب أي إلا الذين أوتوا الكتاب المنزل لإزالة الاختلاف ، كأنهم عارضوا الكتاب بنقيض ما أنزل لأجله ، أنزل لئلا يختلفوا فزادوا في الاختلاف . وفيه دليل على أن الاختلاف في الحق لم يوجد إلا بعد بعثة الأنبياء ، وإنزال الكتب كما مر في القول الأول . وقال كثير من المفسرين : المراد بالذين أوتوا الكتاب اليهود والنصارى . واختلافهم إما تكفير بعضهم بعضاً ، وإما تحريفهم أو تبديلهم { من بعد ما جاءتهم البينات } يحتمل أن يكون كالبيان لإيتاء الكتاب أي وما اختلف فيه من اختلف إلا من بعد مجيء البينات التي هي الكتب كقوله تعالى

{ وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة } [ البينة : 4 ] ويحتمل أن تكون هذه البينات مغايرة لإيتاء الكتاب ويعني بها الدلائل العقلية التي نصبها الله تعالى إثبات الأصول التي لا يمكن إثباتها بالدلائل السمعية ، وإذا حصلت الدلائل العقلية والسمعية لم يكن في العدول عذر ولا علة ، ولو حصل الإعراض كان سببه بغياً بينهم وحسداً وظلماً لحرصهم على الدنيا ولقلة الإنصاف وكثرة الاعتساف ، و{ من الحق } بيان لما اختلفوا فيه أي فهدى الله الذين آمنوا للحق الذي اختلف فيه من اختلف . واللام بمعنى " إلى " أي هداهم إلى ما اختلفوا فيه كقوله تعالى { ثم يعودون لما قالوا } [ المجادلة : 3 ] أي إلى ما قالوه { بإذنه } قال الزجاج : بعلمه . وقيل : بأمره فبالأمر يحصل التمييز بين الحق والباطل فتحصل الهداية . وقيل : في الآية إضمار أي فهداهم فاهتدوا بإذنه إذ لا جائز أن يأذن لنفسه { والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } هو الحق الموصل إلى كمال الدارين ، أو هو طلب الجنة .

/خ214