الجواهر الحسان في تفسير القرآن للثعالبي - الثعالبي  
{كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّـۧنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ فِيمَا ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِۚ وَمَا ٱخۡتَلَفَ فِيهِ إِلَّا ٱلَّذِينَ أُوتُوهُ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَتۡهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُ بَغۡيَۢا بَيۡنَهُمۡۖ فَهَدَى ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَا ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ ٱلۡحَقِّ بِإِذۡنِهِۦۗ وَٱللَّهُ يَهۡدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٍ} (213)

وقوله تعالى : { كَانَ الناس أُمَّةً واحدة }[ البقرة213 ] .

قال ابن عبَّاس : { الناس } القُرُونُ التي كانَتْ بين آدم ونوح ، وهي عَشَرةٌ ، كانوا على الحَقِّ ، حتى اختلفوا ، فبعث اللَّه تعالى نوحاً فمن بعده ، وقال ابنُ عبَّاس أيضاً : { كَانَ الناس أُمَّةً واحدة } ، أي : كفاراً يريد في مدَّة نوحٍ ، حين بعثه اللَّه ، وقال أُبَيُّ بن كعب ، وابنُ زَيْد : المرادُ ب { الناس } بنو آدم حين أخرجهم اللَّه نسماً من ظهر آدم ، أي : كانوا على الفطْرة ، وقيل غير هذا ، وكل من قدَّر الناسَ في الآية مؤمنين ، قدَّر في الكلام ، فاختلفوا ، وكلُّ من قدَّرهم كفاراً ، قدَّر : كانت بعثة النبيِّين إِلَيْهم .

والأُمَّة : الجماعة على المَقْصد ، ويسمَّى الواحدُ أُمَّةٍ ، إِذا كان منفرداً بمَقْصِد ، و{ مُبَشِّرِينَ } : معناه بالثواب على الطاعةِ ، و{ مُنذِرِينَ } : بالعقابِ ، و { الكتاب } : اسم الجنَسِ ، والمعنى : جميع الكتب ، و{ لِيَحْكُمَ } : مسند إِلى الكتاب ، في قول الجمهور ، والذين أوتوه أرباب العلْم به ، وخصوا بالذكْر ، تنبيهاً منه سبحانه على عظيمِ الشُّنْعة والقُبْح ، و{ البينات } : الدَّلالات ، والحججُ ، و{ البغي } التعدِّي بالباطل ، و{ هدى } معناه أرشد ، والمرادُ ب { الذين ءَامَنُواْ } من آمن بمحمَّد صلى الله عليه وسلم ، فقالتْ طائفةٌ : معنى الآية أن الأمم كَذَّب بعضهم كتابَ بعض ، فَهَدَى اللَّه أمَّة محمَّد صلى الله عليه وسلم للتصديقِ بجمِيعِهَا ، وقالتْ طائفة : إِن اللَّه سبحانه هَدَى المؤمنين للحَقِّ فيما اختلف فيه أهلُ الكتاب من قولهم : إِنَّ إِبراهيمَ كَانَ يَهُودِيًّا أوْ نَصْرَانِيًّا ، قال زيْدُ بن أسلم : وكاختلافهم في يوم الجُمُعَة ، فإِن النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال : ( هذا اليومُ الَّذي اختلفوا فيه ، فهَدَانا اللَّه له ، فلليهود غَدٌ ، وللنصارى بَعْدَ غد ) وفي صيامهمْ ، وجميع ما اختلفوا فيه ، قال الفَرَّاء : وفي الكلام قلْبٌ ، واختاره الطبريُّ ، قال : وتقديرُهُ : فهدَى اللَّه الذين آمنوا للحقِّ ممَّا اختلفوا فيه ، ودعاه إِلى هذا التقديرِ خوْفُ أن يحتمل اللفظ أنهم اختلفوا في الحَقِّ ، فهدى اللَّه المؤمنين لبَعْضِ ما اختلفوا فيه ، وعَسَاه غير الحق في نَفْسه ، نحا إِلى هذا الطبريُّ في " حكايته " عن الفَرَّاء .

قال : ( ع ) وادعاء القَلْب على كتابِ اللَّه دُونَ ضرورة تَدْفَعُ إِلى ذلك عَجْزٌ ، وسُوء نَظَرٍ ، وذلك أنَّ الكلام يتخرَّج على وجهه ورَصْفه ، لأن قوله : { فهدى } يقتضي أنهم أصابوا الحَقَّ ، وتم المعنى في قوله : { فِيهِ } ، وتبيَّن بقوله : { مِنَ الحق } جنسُ ما وقع الخلاف فيه ، و{ بِإِذْنِهِ } قال الزجَّاج : معناه بعِلْمِهِ .

( ع ) والإِذن هو العلم ، والتمكين ، فإِن اقترن بذلك أمرٌ ، صار أقوى من الإِذن بمزية .