التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّـۧنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ فِيمَا ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِۚ وَمَا ٱخۡتَلَفَ فِيهِ إِلَّا ٱلَّذِينَ أُوتُوهُ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَتۡهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُ بَغۡيَۢا بَيۡنَهُمۡۖ فَهَدَى ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَا ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ ٱلۡحَقِّ بِإِذۡنِهِۦۗ وَٱللَّهُ يَهۡدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٍ} (213)

{ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ { 213 } }

[ 1 ] أمة واحدة : نوعاً واحداً في الدين أو سائرون على طريق واحد فيه أو مفطورون على فطرة واحدة .

تعليق على آية

{ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً . . . }

روى المفسرون [ انظر الطبري والبغوي والخازن والطبرسي ] عن أهل التأويل أن في الفقرة الأولى من الآية محذوفا مقدراً ، وأن تقدير الجملة هكذا : «كان الناس أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين . . . » وهذا وجيه وفي الجملة جملة { لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ } حيث تكون الجملة قرينة على صواب التقدير . وفي سورة يونس آية فيها تدعيم لذلك أيضا وهي : { وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ { 19 } } .

وقد رووا عن بعض أهل التأويل أن جملة { كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً } أنها بمعنى كان الناس كفاراً أو على ضلال . فبعث الله النبيين مبشّرين ومنذرين . كما رووا عن بعض آخر أنها بمعنى كان الناس أمة واحدة على فطرة التوحيد التي فطرهم الله عليها فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشّرين ومنذرين . وروح الآية مع ملاحظة مقام جملة : { لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ } فيها تجعل القول الثاني أكثر وجاهة . وقد يدعم ذلك آية سورة الروم هذه : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ { 30 } } .

وعلى ضوء هذه الأقوال الوجيهة فإن الآية في صدد تقرير أن الناس كانوا قبل بعثة النبيين أمة واحدة على الفطرة التي فطر الله الناس عليها من الإيمان به وحده ثم اختلفوا وتناقضوا فبعث الله النبيين إليهم داعين إلى الحق والهدى ، وأنزل عليهم الكتب التي احتوت بيان الطريق الحق الواضح الذي فيه حل لما طرأ بينهم من خلاف ونزاع على ذلك ، وأنه كان من الذين جاءتهم كتب الله وبيّناته من اختلفوا في تأويل ما جاءهم بغياً وعدواناً وانحرافاً عن طريق الحق والصواب وانسياقاً وراء المآرب والشهوات . وأن الله قد هدى الذين حسنت نياتهم وصفت قلوبهم وأسلموا إليه وآمنوا بما جاءهم منه من دون عناد ولا بغي إلى الحق الذي اختلف فيه أولئك المنحرفون الباغون . وذلك نعمة ورحمة من الله الذي يهدي من يشاء إلى الصراط المستقيم .

ولم نطلع على رواية في سبب نزول الآية ، ويتبادر لنا أنها متصلة بالآيات السابقة واستمرار لها وتعقيب عليها . وأنها في صدد التذكير بما كان من أمر اختلاف الأمم غير الأمة الإسلامية فيما جاءها من كتب الله والتنويه بما كان من هداية الله للذين آمنوا بالرسالة المحمدية إلى الحق الذي اختلفوا فيه ، وتحذير لهؤلاء في الوقت نفسه من الوقوع فيما وقعت فيه الأمم السابقة المختلفة في مناسبة ذكر ما كان من تردي بعضهم وانحرافه وعدم إسلامه وإخلاصه التامين مما انطوت حكايته أو الإشارة إليه في الآيات السابقة بأسلوب التنديد والإنذار .

ومع أن أسلوب الآية تقريري عام لبيان طبيعة البشر ، وما كان من اختلافهم على الحق ونزاعهم فيه منذ الأزمنة القديمة اندفاعاً وراء المآرب والأهواء فالمتبادر أنها في صدد ما وقع فيه اليهود والنصارى بخاصة من نزاع وشقاق وتأويلات خرجوا بها عن دائرة الحق والهدى وكتب الله ؛ وما احتوته الرسالة المحمدية والقرآن من البيان الواضح للحق والهدى الذي يمكن به تمييز الحق من الباطل والهدى من الضلال وإرجاع كل شيء إلى نصابه الحق ، والتنويه بالمؤمنين الذين آمنوا بهما واتبعوا الحق والهدى اللذين انطويا فيهما فصاروا بذلك أمة وسطا عدولاً .

والآية قوية رصينة ، فيها تقرير قوي لوحدة الحقّ وعدم تحمله للخلاف والنزاع حينما تحسن النبات وتتحقق الرغبات الصالحة . وحملة على الذين يختلفون فيه – وبخاصة ممن يكونون قد أوتوا علما ومعرفة – اندفاعاً وراء الأهواء والمآرب واستكباراً عن الاستجابة إلى الحق واتباعه . وفيها كذلك تنويه بحسني النية صالحي السريرة الذين يرون الحق فيتبعونه ويتمسكون به ، وفي هذا ما فيه من التلقين الجليل المستمر المدى . وفيها كذلك إيذان رباني ذو مغزى خطير في صدد الرسالة المحمدية يتضمن كون الله تعالى قد هدى الذين آمنوا بهذه الرسالة والقرآن إلى الحق الذي اختلف فيه الذين أوتوا الكتاب من قبلهم تتجه للمآرب الباغية التي كانت تغريهم . وبعبارة أخرى فيها تقرير بأن الرسالة المحمدية والقرآن قد جاءا ليقررا الحق والصواب فيما اختلفوا فيه وضابطين لهما . وفيهما حل للمشكلات والتعقيدات والخلافات التي ارتكسوا فيها والتي لم تكن في أصل دين الله وهداه .

وأسلوب الآية يوحي بكل طمأنينة ووثوق بما تضمنته من هذه التقريرات . ويوحي للنبي صلى الله عليه وسلم الذي أنزلت عليه وللمؤمنين الذين آمنوا به بأنهم على هدى الله وصراطه المستقيم .

ولقد جاء مصداق ذلك في آيات عديدة منها آية سورة الفتح هذه : { هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً { 28 } } وما شرحناه في سياق تفسير آيتي يونس [ 19 ] والروم [ 30 ] المشار إليهما آنفا من ناحية ما له صلة بهذه الآية . ولم نر حاجة إلى إعادته هنا ، ويحسن بالقارئ أن يرجع إليه لتتم إحاطته بالموضوع .

ولقد أورد ابن كثير في سياق هذه الآية حديثا برواية البخاري عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم . كان يدعو الله إذا قام في الليل يصلي فيقول : «اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختفون اهدِني لما أختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم » . وفي الحديث صورة لشدة حرص النبي صلى الله عليه وسلم على اتباع الحق والتماسه من الله تعالى بأن يهديه إليه ويثبته عليه . وللمؤمنين أسوة حسنة في رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وهناك حديث آخر يورده ابن كثير وقد ورد في التاج برواية الشيخين والنسائي عن أبي هريرة في صدد يوم الجمعة جاء فيه : «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ، بيد أنهم أوتوا الكتاب قبلنا ، وهذا – أي الجمعة – يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه فهدانا الله له فالناس لنا فيه تبعٌ اليهود غدا والنصارى بعد غد » {[333]} . والحديث وإن كان كما قلنا في صدد يوم الجمعة فالمتبادر أنه ليس مما يصح أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم اعتبر أن الحق الذي اختلفوا فيه وهدى الله المؤمنين إليه هو يوم الجمعة فقط كما يوهم الحديث . وكل ما في الأمر أن هذا من جملة ذلك والله أعلم .


[333]:التاج 1/245