البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّـۧنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ فِيمَا ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِۚ وَمَا ٱخۡتَلَفَ فِيهِ إِلَّا ٱلَّذِينَ أُوتُوهُ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَتۡهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُ بَغۡيَۢا بَيۡنَهُمۡۖ فَهَدَى ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَا ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ ٱلۡحَقِّ بِإِذۡنِهِۦۗ وَٱللَّهُ يَهۡدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٍ} (213)

{ كان الناس أمة واحدة } مناسبة هذه الآية لما قبلها هو أن إصرار هؤلاء على كفرهم هو حب الدنيا ، وأن ذلك ليس مختصاً بهذا الزمان الذي بعثت فيه ، بل هذا أمر كان في الأزمنة المتقادمة ، إذ كانوا على حق ثم اختلفوا بغياً وحسداً وتنازعاً في طلب الدنيا .

والناس : القرون بين آدم ونوح وهي عشرة ، كانوا على الحق حتى اختلفوا ، فبعث الله نوحاً فمن بعده ، قاله ابن عباس ، وقتادة .

أو : قوم نوح ومن في سفينته كانوا مسلمين ، أو : آدم وحده ، عن مجاهد ، أو : هو وحواء ، أو : بنو آدم حين أخرجهم من ظهره نسماً كانوا على الفطرة ، قاله أبي وابن زيد ، أو : آدم وبنوه كانوا على دين حق فاختلفوا من حين قتل قابيل هابيل ، أو : بنو آدم من وقت موته إلى مبعث نوح كانوا كفاراً أمثال البهائم ، قاله عكرمة ، وقتادة .

أو : قوم إبراهيم كانوا على دينه إلى أن غيره عمرو بن يحيى ؛ أو : أهل الكتاب ممن آمن بموسى على نبينا وعليه السلام ، أو : قوم نوح حين بعث إليهم كانوا كفاراً قاله ابن عباس ، أو : الجنس كانوا أمة واحدة في خلوهم عن الشرائع لا أمر عليهم ولا نهي .

أو : صنفاً واحداً ، فكان المراد : أن الكل من جوهر واحد ، وأب واحد ، ثم خصّ صنفاً من الناس ببعث الرسل إليهم ، وإنزال الكتب عليهم تكريماً لهم ، قاله الماتريدي فهذه اثنا عشر قولاً في الناس .

وأما في التوحيد فخمسة أقوال : إما في الإيمان ، وإما في الكفر ، وإما في الخلقة على الفطرة ، وإما في الخلو عن الشرائع ، وإما في كونهم من جوهر واحد .

وهو الأب .

وقد رجح كونهم أمة واحدة في الإيمان بقوله : { فبعث الله } وإنما بعثوا حين الاختلاف ، ويؤكده قراءة عبد الله { أمة واحدة } فاختلفوا ، وبقوله : { ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } فهذا يدل على أن الاتفاق كان حصل قبل البعث والإنزال ، وبدلالة العقول ، إذ النظر المستقيم يؤدي إلى الحق ، ويكون آدم بعث إلى أولاده ، وكانوا مسلمين ، وبالولادة على الفطرة ، وبأن أهل السفينة كانوا على الحق ، وبإقرارهم في يوم الذر .

ويظهر أن هذا القول هو الأرجح لقراءة عبد الله وللتصريح بهذا المحذوف في آية أخرى ، وهو قوله تعالى :

{ وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا } والقرآن يفسر بعضه بعضاً ، وتقدّم شرح : أمة في قوله : { ومن ذريتنا أمة مسلمة لك }

وفي قراءة أبي : كان البشر ، إشارة إلى أنه لا يراد بالناس معهودون ، ومن جعل الإتحاد في الإيمان قدر ، فاختلفوا فبعث الله ، ومن جعل ذلك في الكفر لا يحتاج إلى هذا التقدير ، إذ كانت بعثة النبيين إليهم ، وأول الرسل على ما ورد في الصحيح في حديث الشفاعة : نوح على نبينا وعليه السلام ، يقول الناس له : أنت أول الرسل ، المعنى : إلى قوم كفار ، لأن آدم قبله ، وهو مرسل إلى بنيه يعلمهم الدين والإيمان .

{ فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين } أي : أرسل النبيين مبشرين بثواب من أطاع ، ومنذرين بعقاب من عصى ، وقدّم البشارة لأنها أبهج للنفس ، وأقبل لما يلقى النبي ، وفيها اطمئنان المكلف ، والوعد بثواب ما يفعله من الطاعة ، ومنه .

{ فإنما يسرناه بسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوماً لداً } وانتصاب : مبشرين ومنذرين ، على الحال المقارنة .

{ وأنزل معهم الكتاب بالحق } معهم حال من الكتاب : وليس تعمل فيه أنزل ، إذ كان يلزم مشاركتهم له في الإنزال ، وليسوا متصفين ، وهي حال مقدرة أي : وأنزل الكتاب مصاحباً لهم وقت الإنزال لم يكن مصاحباً لهم ، لكنه انتهى إليهم .

والكتاب : إما أن تكون أل فيه للجنس ، وإما أن تكون للعهد على تأويل : معهم ، بمعنى مع كل واحد منهم ، أو على تأويل أن يراد به واحد معين من الكتب ، وهو التوراة .

قاله الطبري ، أنزلت على موسى وحكم بها النبيون بعده ، واعتمدوا عليها كالأسباط وغيرهم ، ويضعف أن يكون مفرداً وضع موضع الجمع ، وقد قيل به .

ويحتمل : بالحق ، أن يكون متعلقاً : بأنزل ، أو بمعنى ما في الكتاب من معنى الفعل ، لأنه يراد به المكتوب ، أو بمحذوف ، فيكون في موضع الحال من الكتاب ، أي مصحوباً بالحق ، وتكون حالاً مؤكدة لأن كتب الله المنزلة يصحبها الحق ولا يفارقها ، وهذه الجملة معطوفة على قوله : { فبعث الله } .

ولا يقال : إن البشارة والنذارة إنما يكونان بالأمر والنهي ، وهما إنما يستفادان من إنزال الكتب فَلِمَ قدما على الإنزال مع أنهما ناشئان عنه ؟ لأنه ذلك لا يلزم ، لأن البشارة والنذارة قد يكونان ناشئين عن غير الكتب من وحي الله لنبيه دون أن يكون ذلك كتاباً يتلى ويكتب ، ولو سلم ذلك لكان تقديمهما هو الأولى لأنهما حالان من النبيين .

فناسب اتصالهما بهم ، وإن كانا ناشئين عن إنزال الكتب .

وقال القاضي : الوعد والوعيد من الأنبياء عليهم السلام قبل بيان الشرع ممكن فيما يتصل بالعقليات من معرفة الله تعالى ، وترك الظلم وغيرهما ، انتهى كلامه .

وما ذكر لا يظهر ، لأن الوعد بالثواب والوعيد بالعقاب ليسا مما يقضي بهما العقل وحده على جهة الوجوب ، وإنما ذلك على سبيل الجواز ، ثم أتى الشرع بهما ، فصار ذلك الجائز في العقل واجباً بالشرع ، وما كان بجهة الإمكان العقلي لا يتصف به النبي على سبيل الوجوب إلاَّ بعد الوحي قطعاً ، فإذن يتقدّم الوحي بالوعد والوعيد على ظهور البشارة والنذارة ممن أوحى إليه قطفاً .

قال القاضي : وظاهر الآية يدل على أنه لا نبي إلاَّ ومعه كتاب منزل فيه بيان الحق ، طال ذلك الكتاب أو قصر ، دوّن أو لم يدوّن ، كان معجزاً أو لم يكن ، لأن كون الكتاب منزلاً معهم لا يقضي شيئاً من ذلك .

انتهى كلامه .

ويحتمل أن يكون التجّوز في : أنزل ، فيكون بمعنى : جعل ، كقوله : { وأنزلنا الحديد } ولما كان الإنزال الكثير منهم نسب إلى الجميع ، ويحتمل أن يكون التجوّز في الكتاب ، فيكون بمعنى الموحى به ، ولما كان كثيراً مما أوحى به بكتب ، أطلق على الجميع الكتاب تسمية للمجموع باسم كثير من أجزائه .

{ ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } الللام لام العلة ، ويتعلق بأنزل ، والضمير في : ليحكم ، عائد على الله في قوله : فبعث الله ، وهو المضمر في : أنزل ، وهذا هو الظاهر ، والمعنى أنه تعالى أنزل الكتاب ليفصل به بين الناس ، وقيل : عائد على الكتاب أي : ليحكم الكتاب بين الناس ، ونسبة الحكم إليه مجاز ، كما أسند النطق إليه في قوله : { هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق } وكما قال :

ضربت عليك العنكبوت نسيجها***

وقضى عليك به الكتاب المنزل

ولأن الكتاب هو أصل الحكم ، فأسند إليه رداً للأصل ، وهذا قول الجمهور ، وأجاز الزمخشري أن يكون الفاعل : النبي ، قال : ليحكم الله أو الكتاب أو النبي المنزل عليه ، وإفراد الضمير يضعف ذلك على أن يحتمل ما قاله ، فيعود على أفراد الجمع ، أي : ليحكم كل نبي بكتابه ، ولا حاجة إلى هذا التكلف مع ظهور عود الضمير على الله تعالى ، ويبين عوده على الله تعالى قراءة الجحدري فيما ذكر مكي لنحكم ، بالنون ، وهو متعين عوده على الله تعالى ، ويكون ذلك التفاتاً إذ خرج من ضمير الغائب في : أنزل ، إلى ضمير المتكلم ، وظن ابن عطية هذه القراءة تصحيفاً قال : ما معناه لأن مكياً لم يحكِ عن الجحدري قراءته التي نقل الناس عنه ، وهي : ليحكم ، على بناء الفعل للمفعول ، ونقل مكي لنحكم بالنون .

وفي القراءة التي نقل الناس من قوله : وليحكم ، حذف الفاعل للعلم به ، والأولى أن يكون الله تعالى .

قالوا : ويحتمل أن يكون الكتاب أو النبيون .

وهي ظرف مكان ، وهو هنا مجاز ، وانتصابه بقوله : ليحكم ، وفيما ، متعلق به أيضاً ، و : فيه ، الدين الذي اختلفوا فيه بعد الإتفاق .

.

قيل ويحتمل أن يكون الذي اختلفوا فيه محمد ، صلى الله عليه وسلم ، أو دينه ، أو : هما ، أو : كتابه .

{ وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم } الضمير من قوله : وما اختلف فيه ، يعود على ما عاد عليه في : فيه ، الأولى ، وقد تقدّم أنها عائدة على : ما ، وشرح ما المعنى : بما ، أهو الدين ، أو محمد صلى الله عليه وسلم ؟ أم دينه ؟ أم هما ؟ أم كتابه ؟

والضمير في : أوتوه ، عائد إذ ذاك على ما عاد عليه الضمير في : فيه ، وقيل : الضمير في : فيه ، عائد على الكتاب ، وأوتوه عائد أيضاً على الكتاب ، التقدير : وما اختلف في الكتاب إلاَّ الذين أوتوه ، أي : أوتوا الكتاب .

وقال الزجاج : الضمير في : فيه ، الثانية يجوز أن يعود على النبي صلى الله عليه وسلم ، أي : وما اختلف في النبي صلى الله عليه وسلم إلاَّ الذين أوتوه ، أي : أوتوا علم نبوّته ، فعلوا ذلك للبغي ، وعلى هذا يكون الكتاب : التوراة ، والذين أوتوه اليهود .

وقيل : الضمير في : فيه ، عائد على ما اختلفوا فيه من حكم التوراة والقبلة وغيرهما ، وقيل : يعود الضمير في : فيه ، على عيسى صلى الله على نبينا وعليه .

وقال مقاتل : الضمير عائد على الدين ، أي : وما اختلف في الدين . انتهى .

والذي يظهر من سياق الكلام وحسن التركيب أن الضمائر كلها في : أوتوه وفيه الأولى والثانية ، يعود على : ما ، الموصولة في قوله : وما اختلفوا فيه ، وأن الذين اختلفوا فيه مفهومه كل شيء اختلفوا فيه فمرجعه إلى الله ، بينه بما نزل في الكتاب ، أو إلى الكتاب إذ فيه جميع ما يحتاج إليه المكلف ، أو إلى النبي يوضحه بالكتاب على الأقوال التي سبقت في الفاعل في قوله : { ليحكم } .

والذين أوتوه أرباب العلم به والدراسة له ، وخصهم بالذكر تنبيهاً منه على شناعة فعلهم ، وقبيح ما فعلوه من الاختلاف ، ولأن غيرهم تبع لهم في الاختلاف فهم أصل الشر ، وأتى بلفظ : من ، الدالة على ابتداء الغاية منبهاً على أن اختلافهم متصل بأول زمان مجيء البينات ، لم يقع منهم اتفاق على شيء بعد المجيء ، بل بنفس ما جاءتهم البينات اختلفوا ، لم يتخلل بينهما فترة .

والبينات : التوراة والإنجيل ، فالذين أوتوه هم اليهود والنصارى ، أو جميع الكتب المنزلة ، فالذين أوتوه علماء كل ملة ، أو ما في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ، والذين أوتوه اليهود ، أو معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين أوتوه جميع الأمم ، أو محمد صلى الله عليه وسلم والذين أوتوه من بعث إليهم .

والذي يظهر أن البينات هي ما أوضحته الكتب المنزلة على أنبياء الأمم الموجبة الاتفاق وعدم الاختلاف ، فجعلوا مجيء الآيات البينات سبباً لاختلافهم ، وذلك أشنع عليهم ، حيث رتبوا على الشيء خلاف مقتضاه .

ثم بين أن ذلك الاختلاف الذي كان لا ينبغي أن يكون ليس لموجب ولا داع إلاَّ مجرد البغي والظلم والتعدّي .

وانتصاب : بغياً ، على أنه مفعول من أجله ، و : بينهم ، في موضع الصفة له ، فتعلق بمحذوف ، أي : كائناً بينهم ، وأبعد من قال : إنه مصدر في موضع الحال ، أي : باغين ، والمعنى : أن الحامل على الاختلاف هو البغي ، وسبب هذا البغي حسدهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم على النبوّة ، أو كتمهم صفته التي في التوراة ، أو طلبهم الدنيا والرئاسة فيها أقوال :

فالأولان : يختصان بمن يحضره رسول الله صلى الله عليه وسلم .

من أهل الكتاب وغيرهم ، والثالث : يكون لسائر الأمم المختلفين ، وإنزال الكتب كان بعد وجود الاختلاف الأول ، ولذلك قال : { ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } والاختلاف الثاني المعنيّ به ازدياد الاختلاف ، أو ديمومة الاختلاف إذا فسرنا : أوتوه : بأوتوا الكتاب ، فهذا الاختلاف يكون بعد إيتاء الكتاب ، وقيل : بجحود ما فيه ، وقيل : بتحريفه .

وفي قوله : بغياً ، إشارة إلى حصر العلة ، فيبطل قول من قال : إن الاختلاف بعد إنزال الكتاب كان ليزل به الاختلاف الذي كان قبله .

وفي قوله : البينات : دلالة على أن الدلائل العقلية المركبة في الطباع السليمة ، والدلائل السمعية التي جاءت في الكتاب قد حصلا ، ولا عذر في العدول والإعراض عن الحق لكن عارض هذا الدليل القطعي ما ركب فيهم من البغي والحسد والحرص على الاستيثار بالدنيا .

إلاَّ الذين أوتوه ، استثناء مفرغ ، وهو فاعل اختلف ، و : من بعد ما جاءتهم ، متعلق باختلف ، وبغياً منصوب باختلف ، هذا قول بعضهم ، قال : ولا يمنع إلاَّ من ذلك ، كما تقول : ما قام زيد إلاَّ يوم الجمعة .

انتهى كلامه .

وهذا فيه نظر ، وذلك أن المعنى على الاستثناء ، والمفرغ في الفاعل ، وفي المجرور ، وفي المفعول من أجله ، إذ المعنى : وما اختلف فيه إلاَّ الذين أوتوه إلاَّ من بعد ما جاءتهم البينات إلاَّ بغياً بينهم .

فكل واحد من الثلاثة محصور .

وإذا كان كذلك فقد صارت أداة الاستفهام مستثنى بها ، شيئان دون الأول من غير عطف ، وهو لا يجوز ، وإنما جاز مع العطف لأن حرف العطف ينوي بعدها إلاَّ ، فصارت كالملفوظ بها ، فإن جاء ما يوهم ذلك جعل على إضمار عامل ، ولذلك تأولوا قوله تعالى : { وما أرسلنا من قبلك إلاَّّ رجالاً نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر } على إضمار فعل التقدير : أرسلناهم بالبينات والزبر ، ولم يجعلوا بالبينات متعلقاً بقوله : وما أرسلنا ، لئلا يكون : إلاَّ ، قد استثنى بها شيئان : أحدهما رجالاً ، والأخر : بالبينات ، من غير عطف .

وقد منع أبو الحسن وأبو علي : ما أخذ أحد إلاَّ زيد درهماً ، وما : ضرب القوم إلاَّ بعضهم بعضاً .

واختلفا في تصحيحها ، فصححها أبو الحسن بأن يقدّم على المرفوع الذي بعدها ، فيقول : ما أخذ أحد زيد إلاَّ درهماً ، فيكون : زيد ، بدلاً من أحد ، ويكون : إلاَّ ، قد استثنى بها شيء واحد ، وهو الدرهم .

ويكون إلاَّ درهماً إستثناء مفرغاً من المفعول الذي حذف ، ويصير المعنى : ما أخذ زيد شيئاً إلاَّ درهماً .

وتصحيحها عند أبي علي بان يزيد فيها منصوباً قبل إلاَّ فيقول : ما أخذ أحد شيئاً إلاَّ زيد درهما .

و : ما ضرب القوم أحداً إلاَّ بعضهم بعضاً ، فيكون المرفوع بدلاً من المرفوع ، والمنصوب بدلاً من المنصوب ، هكذا خرجه بعضهم .

قال ابن السراح : أعطيت الناس درهماً إلاَّ عمراً جائز ، ولا يجوز أعطيت الناس درهماً إلاَّ عمر الدنانير ، لأن الحرف لا يستثنى به إلاَّ واحد ، فإن قلت : ما أعطيت الناس درهماً إلاَّ عمراً دانقاً ، على الاستثناء ، لم يجز ، أو على البدل جاز ، فتبدل عمراً من الناس ، ودانقاً من درهم ، كأنك قلت ما أعطيت إلاَّ عمراً دانقاً .

ويعني : أن يكون المعنى على الحصر في المفعولين .

قال بعض أصحابنا : ما قاله ابن السراح فيه ضعف ، لأن البدل في الاستثناء لا بد من اقترانه بإلاَّ ، فأشبه المعطوف بحرف ، فكما لا يقع بعده معطوفان لا يقع بعد إلاَّ بدلان .

انتهى كلامه .

وأجاز قوم أن يقع بعد إلاَّ مستثنيان دون عطف ، والصحيح أنه لا يجوز ، لأن إلاَّ هي من حيث المعنى معدية ، ولولا إلاَّ لما جاز للاسم بعدها أن يتعلق بما قبلها ، فهي : كواو مع وكالهمزة : التي جعلت للتعدية في بنية الفعل ، فكما أنه لا تعدّى : واو مع ولا الهمزة لغير مطلوبها الأول إلاَّ بحرف عطف ، فكذلك إلاَّ ، وعلى هذا الذي مهدناه يتعلق : من بعد ما جاءهم البينات ، وينتصب : بغياً ، بعامل مضمر يدل عليه ما قبله ، وتقديره : اختلفوا فيه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم .

{ فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه } الذين آمنوا : هم من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ، والضمير : فيما اختلفوا ، عائد على الذين أوتوه ، أي لما اختلف فيه من اختلف ، ومن الحق تبيين المختلف فيه ، و : من ، تتعلق بمحذوف لأنها في موضع الحال من : ما ، فتكون للتبعيض ، ويجوز أن تكون لبيان الجنس على قول من يرى ذلك ، التقدير : لما اختلفوا فيه الذي هو الحق .

والأحسن أن يحمل المختلف فيه هنا على الدين والإسلام ، ويدل عليه قراءة عبد الله : لما اختلفوا فيه من الإسلام .

وقد حمل هذا المختلف فيه على غير هذا ، وفي تعيينه خلاف : أهو الجمعة ؟ جعلها اليهود السبت ، والنصارى الأحد ، وكانت فرضت عليهم كما فرضت علينا ؟ وفي الصحيحين : « نحن الأوّلون والآخرون السابقون يوم القيامة ، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ، وأوتيناه من بعدهم » فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له قال يوم الجمعة ، فاليوم لنا وغداً لليهود ، وبعد غد للنصارى .

أو الصلاة ؟ فمنهم من يصلي إلى المشرق ، ومنهم من يصلي إلى المغرب ، فهدى الله تعالى المؤمنين إلى القبلة .

قاله زيد بن أسلم .

أو إبراهيم على نبينا وعليه السلام ؟ قالت النصارى : كان نصرانياً ، وقالت اليهود : كان يهودياً ، فهدى الله المؤمنين لدينه بقوله :

{ ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً } أو عيسى ؟ على نبينا وعليه السلام ، جعلته اليهود لعنة ، وجعلته النصارى إلهاً فهدانا الله تعالى لقول الحق فيه ، قاله ابن زيد .

أو الكتب التي آمنوا ببعضها وكفروا ببعضها ؟ أو الصيام ؟ اختلفوا فيه ، فهدانا الله لشهر رمضان .

فهذه ستة أقوال غير الأول .

وقال الفراء : في الكلام قلب ، وتقديره فهدى الله الذين آمنوا للحق مما اختلفوا فيه ، واختاره الطبري .

قال ابن عطية : ودعاه إلى هذا التقدير خوف أن يحتمل اللفظ أنهم اختلفوا في الحق ، فهدى الله المؤمنين لبعض ما اختلفوا فيه ، وعساه غير الحق في نفسه ، قال : وادّعاء القلب على لفظ كتاب الله دون ضرورة تدفع إلى ذلك عجز وسوء نظر ، وذلك أن الكلام يتخرج على وجهه ووصفه لأن قوله : فهدى ، يقتضي أنهم أصابوا الحق ، وتم المعنى في قوله : فيه ، وتبين بقوله : من الحق ، جنس ما وقع الخلاف فيه .

قال المهدوي : وقدم لفظ الخلاف على لفظ الحق اهتماماً ، إذ العناية إنما هي بذكر الخلاف .

انتهى كلام ابن عطية ، وهو حسن .

والقلب عند أصحابنا يختص بضرورة الشعر فلا نخرج كلام الله عليه .

وبإذنه : معناه بعلمه ، قاله الزجاج أو : بأمره ، وتوفيقه ، أو بتمكينه ، أقوال مرت مشبعاً الكلام عليها ، في قوله : { فإنه نزله على قلبك باذن الله } ويتعلق بإذنه بقوله : فهدى الله ، وأبعد من أضمر له فعلاً مطاوعاً تقديره : فاهتدوا بإذنه ، وهو قول أبي علي ، إذ لا حاجة لهذا الإضمار .

{ والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } في هذه الجملة وما قبلها دليل على أن هدى العبد إنما يكون من الله لمن يشاء له الهداية ، ورد على المعتزلة في زعمهم أنه يستقل بهدى نفسه ، وتكرّر اسم الله في قوله : والله ، جاء على الطريقة الفصحى التي هي استقلال كل جملة ، وذلك أولى من أن يفتقر بالإضمار إلى ما قبلها من مفسر ذلك المضمر ، وقد تقدّم لذلك نظائر .

وفي قوله : من يشاء ، إشعار ، بل دلالة ، على أن هدايته تعالى منشؤها الإرادة فقط ، لا وصف ذاتي في الذي يهديه يستحق به الهداية ، بل ذلك مفدوق بإرادته تعالى فقط { لا يسأل عما يفعل }

/خ218