{ كان الناس أمة واحدة } مناسبة هذه الآية لما قبلها هو أن إصرار هؤلاء على كفرهم هو حب الدنيا ، وأن ذلك ليس مختصاً بهذا الزمان الذي بعثت فيه ، بل هذا أمر كان في الأزمنة المتقادمة ، إذ كانوا على حق ثم اختلفوا بغياً وحسداً وتنازعاً في طلب الدنيا .
والناس : القرون بين آدم ونوح وهي عشرة ، كانوا على الحق حتى اختلفوا ، فبعث الله نوحاً فمن بعده ، قاله ابن عباس ، وقتادة .
أو : قوم نوح ومن في سفينته كانوا مسلمين ، أو : آدم وحده ، عن مجاهد ، أو : هو وحواء ، أو : بنو آدم حين أخرجهم من ظهره نسماً كانوا على الفطرة ، قاله أبي وابن زيد ، أو : آدم وبنوه كانوا على دين حق فاختلفوا من حين قتل قابيل هابيل ، أو : بنو آدم من وقت موته إلى مبعث نوح كانوا كفاراً أمثال البهائم ، قاله عكرمة ، وقتادة .
أو : قوم إبراهيم كانوا على دينه إلى أن غيره عمرو بن يحيى ؛ أو : أهل الكتاب ممن آمن بموسى على نبينا وعليه السلام ، أو : قوم نوح حين بعث إليهم كانوا كفاراً قاله ابن عباس ، أو : الجنس كانوا أمة واحدة في خلوهم عن الشرائع لا أمر عليهم ولا نهي .
أو : صنفاً واحداً ، فكان المراد : أن الكل من جوهر واحد ، وأب واحد ، ثم خصّ صنفاً من الناس ببعث الرسل إليهم ، وإنزال الكتب عليهم تكريماً لهم ، قاله الماتريدي فهذه اثنا عشر قولاً في الناس .
وأما في التوحيد فخمسة أقوال : إما في الإيمان ، وإما في الكفر ، وإما في الخلقة على الفطرة ، وإما في الخلو عن الشرائع ، وإما في كونهم من جوهر واحد .
وقد رجح كونهم أمة واحدة في الإيمان بقوله : { فبعث الله } وإنما بعثوا حين الاختلاف ، ويؤكده قراءة عبد الله { أمة واحدة } فاختلفوا ، وبقوله : { ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } فهذا يدل على أن الاتفاق كان حصل قبل البعث والإنزال ، وبدلالة العقول ، إذ النظر المستقيم يؤدي إلى الحق ، ويكون آدم بعث إلى أولاده ، وكانوا مسلمين ، وبالولادة على الفطرة ، وبأن أهل السفينة كانوا على الحق ، وبإقرارهم في يوم الذر .
ويظهر أن هذا القول هو الأرجح لقراءة عبد الله وللتصريح بهذا المحذوف في آية أخرى ، وهو قوله تعالى :
{ وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا } والقرآن يفسر بعضه بعضاً ، وتقدّم شرح : أمة في قوله : { ومن ذريتنا أمة مسلمة لك }
وفي قراءة أبي : كان البشر ، إشارة إلى أنه لا يراد بالناس معهودون ، ومن جعل الإتحاد في الإيمان قدر ، فاختلفوا فبعث الله ، ومن جعل ذلك في الكفر لا يحتاج إلى هذا التقدير ، إذ كانت بعثة النبيين إليهم ، وأول الرسل على ما ورد في الصحيح في حديث الشفاعة : نوح على نبينا وعليه السلام ، يقول الناس له : أنت أول الرسل ، المعنى : إلى قوم كفار ، لأن آدم قبله ، وهو مرسل إلى بنيه يعلمهم الدين والإيمان .
{ فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين } أي : أرسل النبيين مبشرين بثواب من أطاع ، ومنذرين بعقاب من عصى ، وقدّم البشارة لأنها أبهج للنفس ، وأقبل لما يلقى النبي ، وفيها اطمئنان المكلف ، والوعد بثواب ما يفعله من الطاعة ، ومنه .
{ فإنما يسرناه بسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوماً لداً } وانتصاب : مبشرين ومنذرين ، على الحال المقارنة .
{ وأنزل معهم الكتاب بالحق } معهم حال من الكتاب : وليس تعمل فيه أنزل ، إذ كان يلزم مشاركتهم له في الإنزال ، وليسوا متصفين ، وهي حال مقدرة أي : وأنزل الكتاب مصاحباً لهم وقت الإنزال لم يكن مصاحباً لهم ، لكنه انتهى إليهم .
والكتاب : إما أن تكون أل فيه للجنس ، وإما أن تكون للعهد على تأويل : معهم ، بمعنى مع كل واحد منهم ، أو على تأويل أن يراد به واحد معين من الكتب ، وهو التوراة .
قاله الطبري ، أنزلت على موسى وحكم بها النبيون بعده ، واعتمدوا عليها كالأسباط وغيرهم ، ويضعف أن يكون مفرداً وضع موضع الجمع ، وقد قيل به .
ويحتمل : بالحق ، أن يكون متعلقاً : بأنزل ، أو بمعنى ما في الكتاب من معنى الفعل ، لأنه يراد به المكتوب ، أو بمحذوف ، فيكون في موضع الحال من الكتاب ، أي مصحوباً بالحق ، وتكون حالاً مؤكدة لأن كتب الله المنزلة يصحبها الحق ولا يفارقها ، وهذه الجملة معطوفة على قوله : { فبعث الله } .
ولا يقال : إن البشارة والنذارة إنما يكونان بالأمر والنهي ، وهما إنما يستفادان من إنزال الكتب فَلِمَ قدما على الإنزال مع أنهما ناشئان عنه ؟ لأنه ذلك لا يلزم ، لأن البشارة والنذارة قد يكونان ناشئين عن غير الكتب من وحي الله لنبيه دون أن يكون ذلك كتاباً يتلى ويكتب ، ولو سلم ذلك لكان تقديمهما هو الأولى لأنهما حالان من النبيين .
فناسب اتصالهما بهم ، وإن كانا ناشئين عن إنزال الكتب .
وقال القاضي : الوعد والوعيد من الأنبياء عليهم السلام قبل بيان الشرع ممكن فيما يتصل بالعقليات من معرفة الله تعالى ، وترك الظلم وغيرهما ، انتهى كلامه .
وما ذكر لا يظهر ، لأن الوعد بالثواب والوعيد بالعقاب ليسا مما يقضي بهما العقل وحده على جهة الوجوب ، وإنما ذلك على سبيل الجواز ، ثم أتى الشرع بهما ، فصار ذلك الجائز في العقل واجباً بالشرع ، وما كان بجهة الإمكان العقلي لا يتصف به النبي على سبيل الوجوب إلاَّ بعد الوحي قطعاً ، فإذن يتقدّم الوحي بالوعد والوعيد على ظهور البشارة والنذارة ممن أوحى إليه قطفاً .
قال القاضي : وظاهر الآية يدل على أنه لا نبي إلاَّ ومعه كتاب منزل فيه بيان الحق ، طال ذلك الكتاب أو قصر ، دوّن أو لم يدوّن ، كان معجزاً أو لم يكن ، لأن كون الكتاب منزلاً معهم لا يقضي شيئاً من ذلك .
ويحتمل أن يكون التجّوز في : أنزل ، فيكون بمعنى : جعل ، كقوله : { وأنزلنا الحديد } ولما كان الإنزال الكثير منهم نسب إلى الجميع ، ويحتمل أن يكون التجوّز في الكتاب ، فيكون بمعنى الموحى به ، ولما كان كثيراً مما أوحى به بكتب ، أطلق على الجميع الكتاب تسمية للمجموع باسم كثير من أجزائه .
{ ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } الللام لام العلة ، ويتعلق بأنزل ، والضمير في : ليحكم ، عائد على الله في قوله : فبعث الله ، وهو المضمر في : أنزل ، وهذا هو الظاهر ، والمعنى أنه تعالى أنزل الكتاب ليفصل به بين الناس ، وقيل : عائد على الكتاب أي : ليحكم الكتاب بين الناس ، ونسبة الحكم إليه مجاز ، كما أسند النطق إليه في قوله : { هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق } وكما قال :
ولأن الكتاب هو أصل الحكم ، فأسند إليه رداً للأصل ، وهذا قول الجمهور ، وأجاز الزمخشري أن يكون الفاعل : النبي ، قال : ليحكم الله أو الكتاب أو النبي المنزل عليه ، وإفراد الضمير يضعف ذلك على أن يحتمل ما قاله ، فيعود على أفراد الجمع ، أي : ليحكم كل نبي بكتابه ، ولا حاجة إلى هذا التكلف مع ظهور عود الضمير على الله تعالى ، ويبين عوده على الله تعالى قراءة الجحدري فيما ذكر مكي لنحكم ، بالنون ، وهو متعين عوده على الله تعالى ، ويكون ذلك التفاتاً إذ خرج من ضمير الغائب في : أنزل ، إلى ضمير المتكلم ، وظن ابن عطية هذه القراءة تصحيفاً قال : ما معناه لأن مكياً لم يحكِ عن الجحدري قراءته التي نقل الناس عنه ، وهي : ليحكم ، على بناء الفعل للمفعول ، ونقل مكي لنحكم بالنون .
وفي القراءة التي نقل الناس من قوله : وليحكم ، حذف الفاعل للعلم به ، والأولى أن يكون الله تعالى .
قالوا : ويحتمل أن يكون الكتاب أو النبيون .
وهي ظرف مكان ، وهو هنا مجاز ، وانتصابه بقوله : ليحكم ، وفيما ، متعلق به أيضاً ، و : فيه ، الدين الذي اختلفوا فيه بعد الإتفاق .
قيل ويحتمل أن يكون الذي اختلفوا فيه محمد ، صلى الله عليه وسلم ، أو دينه ، أو : هما ، أو : كتابه .
{ وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم } الضمير من قوله : وما اختلف فيه ، يعود على ما عاد عليه في : فيه ، الأولى ، وقد تقدّم أنها عائدة على : ما ، وشرح ما المعنى : بما ، أهو الدين ، أو محمد صلى الله عليه وسلم ؟ أم دينه ؟ أم هما ؟ أم كتابه ؟
والضمير في : أوتوه ، عائد إذ ذاك على ما عاد عليه الضمير في : فيه ، وقيل : الضمير في : فيه ، عائد على الكتاب ، وأوتوه عائد أيضاً على الكتاب ، التقدير : وما اختلف في الكتاب إلاَّ الذين أوتوه ، أي : أوتوا الكتاب .
وقال الزجاج : الضمير في : فيه ، الثانية يجوز أن يعود على النبي صلى الله عليه وسلم ، أي : وما اختلف في النبي صلى الله عليه وسلم إلاَّ الذين أوتوه ، أي : أوتوا علم نبوّته ، فعلوا ذلك للبغي ، وعلى هذا يكون الكتاب : التوراة ، والذين أوتوه اليهود .
وقيل : الضمير في : فيه ، عائد على ما اختلفوا فيه من حكم التوراة والقبلة وغيرهما ، وقيل : يعود الضمير في : فيه ، على عيسى صلى الله على نبينا وعليه .
وقال مقاتل : الضمير عائد على الدين ، أي : وما اختلف في الدين . انتهى .
والذي يظهر من سياق الكلام وحسن التركيب أن الضمائر كلها في : أوتوه وفيه الأولى والثانية ، يعود على : ما ، الموصولة في قوله : وما اختلفوا فيه ، وأن الذين اختلفوا فيه مفهومه كل شيء اختلفوا فيه فمرجعه إلى الله ، بينه بما نزل في الكتاب ، أو إلى الكتاب إذ فيه جميع ما يحتاج إليه المكلف ، أو إلى النبي يوضحه بالكتاب على الأقوال التي سبقت في الفاعل في قوله : { ليحكم } .
والذين أوتوه أرباب العلم به والدراسة له ، وخصهم بالذكر تنبيهاً منه على شناعة فعلهم ، وقبيح ما فعلوه من الاختلاف ، ولأن غيرهم تبع لهم في الاختلاف فهم أصل الشر ، وأتى بلفظ : من ، الدالة على ابتداء الغاية منبهاً على أن اختلافهم متصل بأول زمان مجيء البينات ، لم يقع منهم اتفاق على شيء بعد المجيء ، بل بنفس ما جاءتهم البينات اختلفوا ، لم يتخلل بينهما فترة .
والبينات : التوراة والإنجيل ، فالذين أوتوه هم اليهود والنصارى ، أو جميع الكتب المنزلة ، فالذين أوتوه علماء كل ملة ، أو ما في التوراة من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ، والذين أوتوه اليهود ، أو معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين أوتوه جميع الأمم ، أو محمد صلى الله عليه وسلم والذين أوتوه من بعث إليهم .
والذي يظهر أن البينات هي ما أوضحته الكتب المنزلة على أنبياء الأمم الموجبة الاتفاق وعدم الاختلاف ، فجعلوا مجيء الآيات البينات سبباً لاختلافهم ، وذلك أشنع عليهم ، حيث رتبوا على الشيء خلاف مقتضاه .
ثم بين أن ذلك الاختلاف الذي كان لا ينبغي أن يكون ليس لموجب ولا داع إلاَّ مجرد البغي والظلم والتعدّي .
وانتصاب : بغياً ، على أنه مفعول من أجله ، و : بينهم ، في موضع الصفة له ، فتعلق بمحذوف ، أي : كائناً بينهم ، وأبعد من قال : إنه مصدر في موضع الحال ، أي : باغين ، والمعنى : أن الحامل على الاختلاف هو البغي ، وسبب هذا البغي حسدهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم على النبوّة ، أو كتمهم صفته التي في التوراة ، أو طلبهم الدنيا والرئاسة فيها أقوال :
فالأولان : يختصان بمن يحضره رسول الله صلى الله عليه وسلم .
من أهل الكتاب وغيرهم ، والثالث : يكون لسائر الأمم المختلفين ، وإنزال الكتب كان بعد وجود الاختلاف الأول ، ولذلك قال : { ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه } والاختلاف الثاني المعنيّ به ازدياد الاختلاف ، أو ديمومة الاختلاف إذا فسرنا : أوتوه : بأوتوا الكتاب ، فهذا الاختلاف يكون بعد إيتاء الكتاب ، وقيل : بجحود ما فيه ، وقيل : بتحريفه .
وفي قوله : بغياً ، إشارة إلى حصر العلة ، فيبطل قول من قال : إن الاختلاف بعد إنزال الكتاب كان ليزل به الاختلاف الذي كان قبله .
وفي قوله : البينات : دلالة على أن الدلائل العقلية المركبة في الطباع السليمة ، والدلائل السمعية التي جاءت في الكتاب قد حصلا ، ولا عذر في العدول والإعراض عن الحق لكن عارض هذا الدليل القطعي ما ركب فيهم من البغي والحسد والحرص على الاستيثار بالدنيا .
إلاَّ الذين أوتوه ، استثناء مفرغ ، وهو فاعل اختلف ، و : من بعد ما جاءتهم ، متعلق باختلف ، وبغياً منصوب باختلف ، هذا قول بعضهم ، قال : ولا يمنع إلاَّ من ذلك ، كما تقول : ما قام زيد إلاَّ يوم الجمعة .
وهذا فيه نظر ، وذلك أن المعنى على الاستثناء ، والمفرغ في الفاعل ، وفي المجرور ، وفي المفعول من أجله ، إذ المعنى : وما اختلف فيه إلاَّ الذين أوتوه إلاَّ من بعد ما جاءتهم البينات إلاَّ بغياً بينهم .
وإذا كان كذلك فقد صارت أداة الاستفهام مستثنى بها ، شيئان دون الأول من غير عطف ، وهو لا يجوز ، وإنما جاز مع العطف لأن حرف العطف ينوي بعدها إلاَّ ، فصارت كالملفوظ بها ، فإن جاء ما يوهم ذلك جعل على إضمار عامل ، ولذلك تأولوا قوله تعالى : { وما أرسلنا من قبلك إلاَّّ رجالاً نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر } على إضمار فعل التقدير : أرسلناهم بالبينات والزبر ، ولم يجعلوا بالبينات متعلقاً بقوله : وما أرسلنا ، لئلا يكون : إلاَّ ، قد استثنى بها شيئان : أحدهما رجالاً ، والأخر : بالبينات ، من غير عطف .
وقد منع أبو الحسن وأبو علي : ما أخذ أحد إلاَّ زيد درهماً ، وما : ضرب القوم إلاَّ بعضهم بعضاً .
واختلفا في تصحيحها ، فصححها أبو الحسن بأن يقدّم على المرفوع الذي بعدها ، فيقول : ما أخذ أحد زيد إلاَّ درهماً ، فيكون : زيد ، بدلاً من أحد ، ويكون : إلاَّ ، قد استثنى بها شيء واحد ، وهو الدرهم .
ويكون إلاَّ درهماً إستثناء مفرغاً من المفعول الذي حذف ، ويصير المعنى : ما أخذ زيد شيئاً إلاَّ درهماً .
وتصحيحها عند أبي علي بان يزيد فيها منصوباً قبل إلاَّ فيقول : ما أخذ أحد شيئاً إلاَّ زيد درهما .
و : ما ضرب القوم أحداً إلاَّ بعضهم بعضاً ، فيكون المرفوع بدلاً من المرفوع ، والمنصوب بدلاً من المنصوب ، هكذا خرجه بعضهم .
قال ابن السراح : أعطيت الناس درهماً إلاَّ عمراً جائز ، ولا يجوز أعطيت الناس درهماً إلاَّ عمر الدنانير ، لأن الحرف لا يستثنى به إلاَّ واحد ، فإن قلت : ما أعطيت الناس درهماً إلاَّ عمراً دانقاً ، على الاستثناء ، لم يجز ، أو على البدل جاز ، فتبدل عمراً من الناس ، ودانقاً من درهم ، كأنك قلت ما أعطيت إلاَّ عمراً دانقاً .
ويعني : أن يكون المعنى على الحصر في المفعولين .
قال بعض أصحابنا : ما قاله ابن السراح فيه ضعف ، لأن البدل في الاستثناء لا بد من اقترانه بإلاَّ ، فأشبه المعطوف بحرف ، فكما لا يقع بعده معطوفان لا يقع بعد إلاَّ بدلان .
وأجاز قوم أن يقع بعد إلاَّ مستثنيان دون عطف ، والصحيح أنه لا يجوز ، لأن إلاَّ هي من حيث المعنى معدية ، ولولا إلاَّ لما جاز للاسم بعدها أن يتعلق بما قبلها ، فهي : كواو مع وكالهمزة : التي جعلت للتعدية في بنية الفعل ، فكما أنه لا تعدّى : واو مع ولا الهمزة لغير مطلوبها الأول إلاَّ بحرف عطف ، فكذلك إلاَّ ، وعلى هذا الذي مهدناه يتعلق : من بعد ما جاءهم البينات ، وينتصب : بغياً ، بعامل مضمر يدل عليه ما قبله ، وتقديره : اختلفوا فيه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم .
{ فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه } الذين آمنوا : هم من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ، والضمير : فيما اختلفوا ، عائد على الذين أوتوه ، أي لما اختلف فيه من اختلف ، ومن الحق تبيين المختلف فيه ، و : من ، تتعلق بمحذوف لأنها في موضع الحال من : ما ، فتكون للتبعيض ، ويجوز أن تكون لبيان الجنس على قول من يرى ذلك ، التقدير : لما اختلفوا فيه الذي هو الحق .
والأحسن أن يحمل المختلف فيه هنا على الدين والإسلام ، ويدل عليه قراءة عبد الله : لما اختلفوا فيه من الإسلام .
وقد حمل هذا المختلف فيه على غير هذا ، وفي تعيينه خلاف : أهو الجمعة ؟ جعلها اليهود السبت ، والنصارى الأحد ، وكانت فرضت عليهم كما فرضت علينا ؟ وفي الصحيحين : « نحن الأوّلون والآخرون السابقون يوم القيامة ، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ، وأوتيناه من بعدهم » فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له قال يوم الجمعة ، فاليوم لنا وغداً لليهود ، وبعد غد للنصارى .
أو الصلاة ؟ فمنهم من يصلي إلى المشرق ، ومنهم من يصلي إلى المغرب ، فهدى الله تعالى المؤمنين إلى القبلة .
أو إبراهيم على نبينا وعليه السلام ؟ قالت النصارى : كان نصرانياً ، وقالت اليهود : كان يهودياً ، فهدى الله المؤمنين لدينه بقوله :
{ ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً } أو عيسى ؟ على نبينا وعليه السلام ، جعلته اليهود لعنة ، وجعلته النصارى إلهاً فهدانا الله تعالى لقول الحق فيه ، قاله ابن زيد .
أو الكتب التي آمنوا ببعضها وكفروا ببعضها ؟ أو الصيام ؟ اختلفوا فيه ، فهدانا الله لشهر رمضان .
وقال الفراء : في الكلام قلب ، وتقديره فهدى الله الذين آمنوا للحق مما اختلفوا فيه ، واختاره الطبري .
قال ابن عطية : ودعاه إلى هذا التقدير خوف أن يحتمل اللفظ أنهم اختلفوا في الحق ، فهدى الله المؤمنين لبعض ما اختلفوا فيه ، وعساه غير الحق في نفسه ، قال : وادّعاء القلب على لفظ كتاب الله دون ضرورة تدفع إلى ذلك عجز وسوء نظر ، وذلك أن الكلام يتخرج على وجهه ووصفه لأن قوله : فهدى ، يقتضي أنهم أصابوا الحق ، وتم المعنى في قوله : فيه ، وتبين بقوله : من الحق ، جنس ما وقع الخلاف فيه .
قال المهدوي : وقدم لفظ الخلاف على لفظ الحق اهتماماً ، إذ العناية إنما هي بذكر الخلاف .
انتهى كلام ابن عطية ، وهو حسن .
والقلب عند أصحابنا يختص بضرورة الشعر فلا نخرج كلام الله عليه .
وبإذنه : معناه بعلمه ، قاله الزجاج أو : بأمره ، وتوفيقه ، أو بتمكينه ، أقوال مرت مشبعاً الكلام عليها ، في قوله : { فإنه نزله على قلبك باذن الله } ويتعلق بإذنه بقوله : فهدى الله ، وأبعد من أضمر له فعلاً مطاوعاً تقديره : فاهتدوا بإذنه ، وهو قول أبي علي ، إذ لا حاجة لهذا الإضمار .
{ والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم } في هذه الجملة وما قبلها دليل على أن هدى العبد إنما يكون من الله لمن يشاء له الهداية ، ورد على المعتزلة في زعمهم أنه يستقل بهدى نفسه ، وتكرّر اسم الله في قوله : والله ، جاء على الطريقة الفصحى التي هي استقلال كل جملة ، وذلك أولى من أن يفتقر بالإضمار إلى ما قبلها من مفسر ذلك المضمر ، وقد تقدّم لذلك نظائر .
وفي قوله : من يشاء ، إشعار ، بل دلالة ، على أن هدايته تعالى منشؤها الإرادة فقط ، لا وصف ذاتي في الذي يهديه يستحق به الهداية ، بل ذلك مفدوق بإرادته تعالى فقط { لا يسأل عما يفعل }