التفسير الشامل لأمير عبد العزيز - أمير عبد العزيز  
{كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّـۧنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ فِيمَا ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِۚ وَمَا ٱخۡتَلَفَ فِيهِ إِلَّا ٱلَّذِينَ أُوتُوهُ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَتۡهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُ بَغۡيَۢا بَيۡنَهُمۡۖ فَهَدَى ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَا ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ ٱلۡحَقِّ بِإِذۡنِهِۦۗ وَٱللَّهُ يَهۡدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٍ} (213)

قوله تعالى : ( كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيئين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) .

كان الناس في السابق على دين واحد وعلى ملة واحدة هي ملة التوحيد الخالص . وقد ظلوا على هذه الحال من وحدة العقيدة وسلامة التوجه الخالص إلى الله فترة من الزمن مبدوءة بأبي البشر آدم عليه السلام حتى مجيء نوح عليه السلام . وبعد بعث هذا النبي الصابر العظيم اختلف الناس في دينهم وتفرقوا مللا شتى . وهي ملل قائمة على الإشراك والضلالة . وإذ ذاك أخذ كثير من الناس في الزيغ عن صراط الله والتنكب عن منهجه الكريم الذي بني على عقيدة التوحيد وتمام التوجه إلى الله من أول يوم . وما يختلف الناس في حقيقة الدين ويتعثروا في الاهتداء إلى الصواب ، أو يضلوا السبيل ويتفرقوا طرائق قددا ، حتى يبعث الله فيهم هداة مصطفين أخيارا ليكشفوا لهم عن سبيل الحق والنجاة وليحذروهم من وخامة التعثر خلف الشيطان . وذلك هو قوله في الآية : ( فبعث الله النبيئين مبشرين ومنذرين ) فهم يبشرون المهتدين من الناس بأن لهم حسن مآب ، أو ينذرون الفاسقين الناكبين بالويل وسوء العاقبة في دنياهم وأخراهم .

وقوله : ( وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ) ( الكتاب ) اسم جنس بمعنى الكتب . فقد بعث الله النبيين لهداية العباد وأنزل معهم كتبه متضمنة كل معاني الخير والهداية والترشيد وفيها من المناهج والتعاليم الربانية ما يحقق الإنسانية أكمل سعادة في هذه الدنيا وخير مفازة لهم يوم المعاد .

وتقدير الفاعل في قوله : ( ليحكم ) ضمير عائد على الكتاب فهو الذي أنزله الله ( ليحكم بين الناس فيما اختلفوا ) وقيل إنه عائد على الله سبحانه وتعالى ، فهو الذي بعث النبيين وأنزل معهم الكتاب ، وهو الذي يحكم ( بين الناس فيما اختلفوا فيه ) فقد اختلفوا فيما بينهم وضلوا السبيل حتى تفرقوا إلى ديانات وملل شتى .

وقوله : ( وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات ) أي لم يختلف في الكتاب المنزل من السماء- بما ترتب على الاختلاف من تكذيب وتعدد في الديانات والملل والمذاهب التي ليست على منهج الله- إلا الذين أعطوا الكتاب ، مع أن جاءهم بالبينات وهي الحجج والبراهين والأدلة التي تكشف عن وجه الحق والصواب في كل القضايا . لقد جاءهم الكتاب المنزل من السماء يحمل إليهم كل معاني الحق والهداية من أجل أن يهتدوا ويستعصموا بخير منهج وأكمل عقيدة ، لكنهم مع كل ذلك قد اختلفوا ، وركنوا إلى الشيطان فضلوا ضلالا بعيدا ، وانحدروا بأنفسهم ومآلاتهم إلى الهاوية وسوء المصير . وما كان ذلك كله إلا ( بغيا بينهم ) ( بغيا ) مفعول لأجله منصوب . والبغي هو الظلم والاعتداء . والمعنى أنهم اختلفوا في الكتاب لسعيهم في الأرض مفسدين ولبغي بعضهم على بعض وعدم امتثالهم لنداء الحق إذ جاءهم .

وقوله : ( فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ) أي أن الله جل وعلا قد أرشد الذين آمنوا وهم أمة محمد ( ص ) إلى الصواب ومعرفة الحق الذي اختلفت فيه الأمم السابقة من أهل الكتاب فقد هداهم الله لذلك بأن بين لهم ما اختلف فيه أهل الكتاب من قبلهم .

وقوله : ( بإذنه ) أي بعلمه ، وقيل : بأمره ، والراجح عندي أن المعنى يشمل العلم والأمر معا ، فالله سبحانه قد هدى هذه الأمة لما اختلف فيه أهل الكتاب وذلك بعلمه وأمره .

قوله : ( بإذنه ) أي بعلمه ، وقيل : بأمره ، والراجح عندي أن المعنى يشمل العلم والأمر معا ، فالله سبحانه قد هدى هذه الأمة لما اختلف فيه أهل الكتاب وذلك بعلمه وأمره .

قوله : ( والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) لفظ الجلالة مبتدأ مرفوع ( يهدي ) جملة فعلية في محل رفع خبر ( من ) اسم موصول في محل نصب مفعول به للفعل يهدي . وهذه الآية تدل على نحو واضح وظاهر لا يقبل التمحل المصطنع ، على أن الله جل جلاله بيده الهداية وترشيد الناس إلى الحق ، وأنه سبحانه قادر على هداية الخلق جميعا أو إضلالهم جميعا وما من مهتد ولا ضال إلا والله عليهم بهدايته أو ضلالة في الأزل البعيد .

ومن جهة أخرى فإن الله قد بسط لعباده أسباب الهداية والرشاد كيلا يظلمهم أو يذرهم تائهين حيارى . ومما هو معلوم أن الله جلت قدرته زود الإنسان بقدر هائل من زخم العقل والإرادة والفطرة والدينونة . فما تركه ليمضي في الحياة عبثا وما جعله خاويا متعريا من ظواهر القدرة على الاهتداء إلى الله . ومن كان شأنه غير ذلك فهو كائن معطل مشلول قد غاضت فيه كل ظواهر الهداية والاستبصار{[289]} .


[289]:-- تفسير القرطبي جـ 3 ص 30-33 وتفسير ابن كثير جـ 1 ص 250.