إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{كَانَ ٱلنَّاسُ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗ فَبَعَثَ ٱللَّهُ ٱلنَّبِيِّـۧنَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِيَحۡكُمَ بَيۡنَ ٱلنَّاسِ فِيمَا ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِۚ وَمَا ٱخۡتَلَفَ فِيهِ إِلَّا ٱلَّذِينَ أُوتُوهُ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَتۡهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُ بَغۡيَۢا بَيۡنَهُمۡۖ فَهَدَى ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لِمَا ٱخۡتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ ٱلۡحَقِّ بِإِذۡنِهِۦۗ وَٱللَّهُ يَهۡدِي مَن يَشَآءُ إِلَىٰ صِرَٰطٖ مُّسۡتَقِيمٍ} (213)

{ كَانَ الناس أُمَّةً واحدة } متَّفقين على كلمة الحقِّ ودينِ الإسلام ، وكان ذلك بين آدمَ وإدريسَ أو نوحٍ عليهم السَّلام أو بعدَ الطوفان { فَبَعَثَ الله النبيين } أي فاختلفوا فبَعَثَ إلخ ، وهي قراءةُ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه وقد حُذف تعويلاً على ما يُذكر عَقيبه { مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ } عن كعب : الذي علمتُه من عدد الأنبياء عليهم السَّلام مائةٌ وأربعةٌ وعشرون ألفاً ، والمرسَلُ منهم ثلثُمائةٍ وثلاثة عشرَ ، والمذكورُ في القرآن ثمانيةٌ وعشرون ، وقيل كان الناسُ أمَّةً واحدةً متَّفقةً على الكفر والضلال في فترة إدريسَ أو نوحٍ فبعث اللَّهُ النبيين فاختلفوا عليهم والأولُ هو الأنسبُ بالنظم الكريم { وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب } أي جنسَ الكتابِ أو مع كلِّ واحدٍ منهم ممن له كتابٌ كتابُه الخاصُّ به لا مع كل واحد منهم على الإطلاق إذ لم يكنْ لبعضهم كتابٌ وإنما كانوا يأخُذون بكتب مَن قبلَهم ، وعمومُ النبيين لا ينافي خصُوصَ الضمير العائد إليه بمعونة المقام { بالحق } حال من الكتاب أي ملتبساً بالحق أو متعلق بأنزل كقوله عزَّ وعلاَ : { وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ } [ الإسراء ، الآية 105 ] { لِيَحْكُمَ } أي الكتابُ أو الله سُبحانه وتعالى أو كلُّ واحد من النبيين { بَيْنَ الناس } أي المذكورين ، والإظهارُ في موضع الإضمارِ لزيادة التعيين { فِيمَا اختلفوا فِيهِ } أي في الحق الذي اختلفوا فيه أو فيما التَبَس عليهم .

{ وَمَا اختلف فِيهِ } أي في الحق أو في الكتاب المُنْزل ملتبساً به ، والواوُ حالية { إِلاَّ الذين أُوتُوهُ } أي الكتابَ المنزلَ لإزالة الاختلاف وإزاحةِ الشقاق ، والتعبيرُ عن الإنزال بالإيتاء للتنبيه من أول الأمرِ على كمال تمكُّنِهم من الوقوف على ما في تضاعيفه من الحق فإن الإنزالَ لا يفيد تلك الفائدةَ أي عكسوا الأمرَ حيث جعلوا ما أُنزل لإزالة الاختلافِ سبباً لاستحكامه ورسوخِه { مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينات } أي رَسَخَتْ في عقولهم و( مِنْ ) متعلِّقة بمحذوف يدل عليه الكلامُ أي فاختلفوا وما اختلف فيه إلخ وقيل بالملفوظ بناءً على عدم منع إلا عنه كما في قولك ما قام إلا زيدٌ يوم الجمعة { بَغْياً بَيْنَهُمْ } متعلِّقٌ بما تعلقتْ به ( من ) أي اختلفوا بغياً وتهالُكاً على الدنيا { فَهَدَى الله الذين آمَنُواْ } بالكتاب { لمَا اختلفوا فِيهِ } أي للحق الذي اختَلَف فيه من اختَلَف { مِنَ الحق } بيانٌ لما ، وفي إبهامه أولاً وتفسيرِه ثانياً ما لا يخفى من التفخيم { بِإِذْنِهِ } بأمره أو بتيسيره ولطفهِ { والله يَهْدِي مَن يَشَاء إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } موصِلٍ إلى الحقّ وهو اعتراضٌ مقرِّر لمضمون ما سبق .