قوله تعالى : { ولأضلنهم } يعني : عن الحق ، أي : لأغوينهم ، يقوله إبليس ، وأراد به التزيين ، وإلا فليس إليه من الإضلال شيء ، كما قال : { لأزينن لهم في الأرض } [ الحجر :39 ] .
قوله تعالى : { ولأمنينهم } ، قيل : أمنينهم ركوب الأهواء ، وقيل : أمنينهم أن لا جنة ولا نار ، ولا بعث ، وقيل : أمنينهم إدراك الآخرة مع ركوب المعاصي .
قوله تعالى : { ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام فليغرن خلق الله } . قال ابن عباس رضي الله عنهما ، والحسن ، ومجاهد ، وسعيد بن المسيب ، والضحاك : يعني دين الله ، نظيره قوله تعالى : { لا تبديل لخلق الله } [ الروم :30 ] أي : لدين الله ، يريد وضع الله في الدين بتحليل الحرام ، وتحريم الحلال . وقال عكرمة وجماعة من المفسرين : فليغيرن خلق الله بالخصاء ، والوشم ، وقطع الآذان ، حتى حرم بعضهم الخصاء ، وجوزه بعضهم في البهائم ، لأن فيه غرضاً ظاهراً ، وقيل : تغيير خلق الله هو أن الله تعالى خلق الأنعام للركوب والأكل ، فحرموها ، وخلق الشمس والقمر والأحجار لمنفعة العباد فعبدوها من دون الله .
قوله تعالى : { ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله } أي : رباً يطيعه .
وهذا النصيب المفروض الذي أقسم لله إنه يتخذهم{[239]} ذكر ما يريد بهم وما يقصده لهم بقوله : { وَلَأُضِلَّنَّهُمْ ْ } أي : عن الصراط المستقيم ضلالا في العلم ، وضلالا في العمل .
{ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ ْ } أي : مع الإضلال ، لأمنينهم أن ينالوا ما ناله المهتدون . وهذا هو الغرور بعينه ، فلم يقتصر على مجرد إضلالهم حتى زين لهم ما هم فيه من الضلال . وهذا زيادة شر إلى شرهم حيث عملوا أعمال أهل النار الموجبة للعقوبة وحسبوا أنها موجبة للجنة ، واعتبر ذلك باليهود والنصارى ونحوهم فإنهم كما حكى الله عنهم ، { وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ ْ } { كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ْ } { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ْ } الآية .
وقال تعالى عن المنافقين إنهم يقولون يوم القيامة للمؤمنين : { أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ْ }
وقوله : { وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ ْ } أي : بتقطيع آذانها ، وذلك كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام فنبه ببعض ذلك على جميعه ، وهذا نوع من الإضلال يقتضي تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله ، ويلتحق بذلك من الاعتقادات الفاسدة والأحكام الجائرة ما هو من أكبر الإضلال . { وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ْ } وهذا يتناول تغيير الخلقة الظاهرة بالوشم ، والوشر والنمص والتفلج للحسن ، ونحو ذلك مما أغواهم به الشيطان فغيروا خلقة الرحمن .
وذلك يتضمن التسخط من خلقته والقدح في حكمته ، واعتقاد أن ما يصنعون بأيديهم أحسن من خلقة الرحمن ، وعدم الرضا بتقديره وتدبيره ، ويتناول أيضا تغيير الخلقة الباطنة ، فإن الله تعالى خلق عباده حنفاء مفطورين على قبول الحق وإيثاره ، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن هذا الخلق الجميل ، وزينت لهم الشر والشرك والكفر والفسوق والعصيان .
فإن كل مولود يولد على الفطرة ولكن أبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه ، ونحو ذلك مما يغيرون به ما فطر الله عليه العباد من توحيده وحبه ومعرفته . فافترستهم الشياطين في هذا الموضع افتراس السبع والذئاب للغنم المنفردة . لولا لطف الله وكرمه بعباده المخلصين لجرى عليهم ما جرى على هؤلاء المفتونين ، وهذا الذي جرى عليهم من توليهم عن ربهم وفاطرهم{[240]} وتوليهم لعدوهم المريد لهم الشر من كل وجه ، فخسروا الدنيا والآخرة ، ورجعوا بالخيبة والصفقة الخاسرة ، ولهذا قال : { وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا ْ } وأي خسار أبين وأعظم ممن خسر دينه ودنياه وأوبقته معاصيه وخطاياه ؟ ! ! فحصل له الشقاء الأبدي ، وفاته النعيم السرمدي .
كما أن من تولى مولاه وآثر رضاه ، ربح كل الربح ، وأفلح كل الفلاح ، وفاز بسعادة الدارين ، وأصبح قرير العين ، فلا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، اللهم تولنا فيمن توليت ، وعافنا فيمن عافيت .
{ وَلاُضِلّنّهُمْ وَلاُمَنّيَنّهُمْ وَلأمُرَنّهُمْ فَلَيُبَتّكُنّ آذَانَ الأنْعَامِ وَلأَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ وَمَن يَتّخِذِ الشّيْطَانَ وَلِيّاً مّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مّبِيناً * يَعِدُهُمْ وَيُمَنّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشّيْطَانُ إِلاّ غُرُوراً } . .
يعني بقوله جلّ ثناؤه مخبرا عن قيل الشيطان المَريد ، الذي وصف صفته في هذه الاَية : ولأضلهم ولأصدنّ النصيب المفروض الذي أتخذه من عبادك عن محجة الهدى إلى الضلال ، ومن الإسلام إلى الكفر . { ولأُمَنّيَنّهُمْ } يقول : لأزيغنهم بما أجعل في نفوسهم من الأماني عن طاعتك وتوحيدك إلى طاعتي ، والشرك بك . { وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُبَتّكُنّ آذَانَ الأنْعامِ } يقول : ولاَمرنّ النصيب المفروض لي من عبادك بعبادة غيرك من الأوثان والأنداد ، حتى يَنْسُكوا له ، ويحّرموا ، ويحللوا له ، ويشرعوا غير الذي شرعته لهم فيتبعوني ويخالفونك . والبَتْك : القطع ، وهو في هذا الموضع : قطع أذن البَحِيرة ليعلم أنها بحيرة . وإنما أراد بذلك الخبيث أنه يدعوهم إلى البَحيرة فيستجيبون له ويعملون بها طاعة له .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { فَلَيُبَتّكُنّ آذَانَ الأنْعامِ } قال : البَتْك في البَحيرة والسائبة ، كانوا يُبَتّكون آذانها لطواغيتهم .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : { ولاَمُرَنّهُمْ فَلَيُبَتّكُنّ آذَانَ الأنْعامِ } أما يبتكنّ آذان الأنعام : فيشقونها فيجعلونها بحيرة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني القاسم بن أبي بزّة ، عن عكرمة : { فَلَيُبَتّكُنّ آذَانَ الأنْعامِ } قال : دين شرعه لهم إبليس كهيئة البحائر والسوائب .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ } .
اختلف أهل التأويل في معنى قوله : { فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ } فقال بعضهم : معنى ذلك : ولاَمرنهم فليغيرنّ خلق الله من البهائم باخصائهم إياها . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن عمار بن أبي عمار ، عن ابن عباس ، أنه كره الإخصاء ، وقال : فيه نزلت { وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ } .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الله بن داود ، قال : حدثنا أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، عن أنس ، أنه كره الإخصاء ، وقال : فيه نزلت { وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ } .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس ، عن أنس بن مالك ، قال : هو الإخصاء ، يعني قول الله : { وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ } .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن مطرف ، قال : ثني رجل ، عن ابن عباس ، قال : إخصاء البهائم مُثْلَهةٌ ، ثم قرأ : { وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ } .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، قال : من تغيير خلق الله الإخصاء .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا جعفر بن سليمان ، قال : أخبرني شبل ، أنه سمع شهر بن حوشب قرأ هذه الاَية : { فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ } قال : الخِصَاء ، قال : فأمرت أبا التياح ، فسأل الحسن عن خصاء الغنم ، فقال : لا بأس به .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : حدثنا عمي وهب بن نافع ، عن القاسم بن أبي بزّة ، قال : أمرني مجاهد أن أسأل عكرمة عن قوله : { فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ } فسألته ، فقال : هو الخصاء .
حدثنا ابن وكيع ، قال : ثني أبي ، عن عبد الجبار بن ورد ، عن القاسم بن أبي بزة ، قال : قال لي مجاهد : سهل عنها عكرمة : { وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ } فسألته ، فقال : الإخصاء . قال مجاهد : ماله لعنه الله ! فوالله لقد علم أنه غير الإخصاء . ثم قال : سله ! فسألته ، فقال عكرمة : ألم تسمع إلى قول الله تبارك وتعالى : { فِطْرَةَ اللّهِ الّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ } ؟ قال : لدين الله . فحدثت به مجاهدا فقال : ما له أخزاه الله !
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حفص ، عن ليث ، قال : قال عكرمة : { فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ } قال : الإخصاء .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : حدثنا هارون النحوي ، قال : حدثنا مطر الورّاق ، قال : سئل عكرمة ، عن قوله : { وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ } قال : هو الإخصاء .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن يمان ، عن سفيان ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح ، قال : الإخصاء .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا وكيع ، قال : حدثنا أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، قال : سمعت أنس بن مالك يقول في قوله : { وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ } قال : منه الخصاء .
حدثنا عمرو ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن قتادة ، عن عكرمة ، عن ابن عباس مثله .
حدثنا ابن سلمة ، عن عمار بن أبي عمار ، عن ابن عباس ، بمثله .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا معاذ بن هشام ، قال : ثني أبي ، عن قتادة ، عن عكرمة أنه كره الإخصاء ، قال : وفيه نزلت : { وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ } .
وقال آخرون : معنى ذلك : ولاَمرنهم فليغيرنّ دين الله . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : { وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ } قال : دين الله .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن وأبو أحمد ، قالا : حدثنا سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن إبراهيم : { وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ } قال : دين الله .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، قال : حدثنا سفيان ، قال : ثني قيس بن مسلم ، عن إبراهيم مثله .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو نعيم ، عن سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن إبراهيم ، مثله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، مثله .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : حدثنا عمي ، عن القاسم بن أبي بزة ، قال : أخبرت مجاهدا بقوله عكرمة في قوله : { فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ } قال : دين الله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا مسلم بن إبراهيم ، قال : حدثنا هارون النحوي ، قال : حدثنا الوراق ، قال : ذكرت لمجاهد قول عكرمة في قوله : { فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ } ، فقال : كذب العبد { وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ } قال : دين الله .
حدثنا ابن وكيع وعمرو بن عليّ ، قالا : حدثنا أبو معاوية ، عن ابن جريج ، عن القاسم بن أبي بَزّة ، عن مجاهد وعكرمة ، قالا : دين الله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا المحاربي وحفص ، عن ليث ، عن مجاهد ، قال : دين الله ، ثم قرأ : { ذَلِكَ الدّينُ القَيّمُ } .
حدثنا محمد بن عمرو وعمرو بن عليّ ، قالا : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله : { فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ } قال : الفطرة دين الله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ } قال : الفطرة : الدين .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : أخبرني عبد الله بن كثير ، أنه سمع مجاهدا يقول : { وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ } قال : دين الله .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ } أي دين الله ، في قول الحسن وقتادة .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ } قال : دين الله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا إسماعيل بن عبد الملك ، عن عثمان بن الأسود ، عن القاسم ابن بَزة في قوله : { فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ } قال : دين الله .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ } قال : أما خلق الله : فدين الله .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سلمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ } قال : دين الله ، وهو قول الله : { فِطْرَةَ اللّهِ الّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ } يقول : لدين الله .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سمعت ابن زيد يقول في قوله : { وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ } قال : دين الله ، وقرأ : { لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ } قال : لدين الله .
حدثنا عمرو بن علي ، قال : حدثنا يحيى بن سعيد ، قال : حدثنا سفيان ، قال : حدثنا قيس بن مسلم ، عن إبراهيم : { وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ } قال : دين الله .
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا معاذ ، قال : حدثنا عمران بن حُدَير ، عن عيسى بن هلال ، قال : كتب كثير مولى ابن سمرة إلى الضحاك بن مزاحم يسأله عن قوله : { وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ } فكتب : إنه دين الله .
وقال آخرون : معنى ذلك : ولاَمرنهم فليغيرُنّ خلق الله بالوشْم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا عمرو بن عليّ ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن يونس ، عن الحسن في قوله : { وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ } قال : الوشم .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يزيد بن نوح ، عن قيس ، عن خالد بن قيس ، عن الحسن : { فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ } قال : الوشم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني هشيم ، قال : أخبرنا يونس بن عبيد أو غيره ، عن الحسن : { فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ } قال : الوشم .
حدثنا أحمد بن حازم ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا أبو هلال الراسبيّ ، قال : سأل رجل الحسن : ما تقول في امرأة قشرت وجهها ؟ قال : ما لها لعنها الله ! غَيّرت خلق الله .
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، قال : قال عبد الله : لعن الله المتفلّجات والمتنمّصات والمستوشمات المغيّرات خلق الله .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن علقمة ، عن عبد الله ، قال : لعن الله الواشرات والمستوشمات والمتنمّصات والمتفلّجات للحسن المغيّرات خلق الله .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن منصور ، عن إبراهيم ، عن علقمة عن عبد الله ، قال : لعن الله المتنمّصات والمتفلّجات قال شعبة : وأحسبه قال : المغيرات خلق الله .
قال أبو جعفر : وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك قول من قال : معناه : ولاَمرنهم فليغيرنّ خلق الله ، قال : دين الله ، وذلك لدلالة الاَية الأخرى على أن ذلك معناه ، وهي قوله : { فِطْرَةَ اللّهِ الّتِي فَطَرَ النّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّهِ ذَلِكَ الدّينُ القَيّمُ } . وإذا كان ذلك معناه دخل في ذلك فعل كل ما نهى الله عنه من خصاء ما لا يجوز خصاؤه ، ووشم ما نهى عن وشمه ووَشْره ، وغير ذلك من المعاصي ، ودخل فيه ترك كلّ ما أمر الله به ، لأن الشيطان لا شكّ أنه يدعو إلى جميع معاصي الله ، وينهى عن جميع طاعته ، فذلك معنى أمره نصيبه المفروض من عباد الله بتغيير ما خلق الله من دينه¹ ولا معنى لتوجيه من وجه قوله : { وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ } إلى أنه وعد الأمر بتغيير بعض ما نهى الله عنه دون بعض ، أو بعض ما أمر به دون بعض . فإذ كان الذي وجه معنى ذلك إلى الخصاء والوشم دون غيره ، إنما فعل ذلك لأن معناه : كان عنده أنه عنى به تغيير الأجسام ، فإنّ في قوله جلّ ثناؤه إخبارا عن قِيل الشيطان : { وَلاَمُرَنّهُمْ فَلَيُغَيّرُنّ خَلْقَ اللّهِ } ما ينبىء أن معنى ذلك غير غير ما ذهب إليه ، لأن تَبْتيك آذان الأنعام من تغيير خلق الله ، الذي هو أجسام . وقد مضى الخبر عنه أنه وعد الأمر بتغيير خلق الله من الأجسام مفسرا ، فلا وجه لإعادة الخبر عنه به مجملاً ، إذ كان الفصيح في كلام العرب أن يترجم عن المجمل من الكلام بالمفسر وبالخاصّ عن العامّ دون الترجمة عن المفسر بالمجمل ، وبالعامّ عن الخاص ، وتوجيه كتاب الله إلى الأفصح من الكلام وأولى من توجيه إلى غيره ما وجد إليه السبيل .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ يَتّخِذِ الشّيْطانَ وَلِيّا مِنْ دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانا مُبِينا يَعِدُهُمْ ويُمَنّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشّيْطانُ إلاّ غُرُورا } .
وهذا خبر من الله جلّ ثناؤه عن حال نصيب الشيطان المفروض من الذين شاقّوا الله ورسوله من بعد ما تبين لهم الهدى ، يقول الله : ومن يتبع الشيطان فيطيعه في معصية الله ، وخلاف أمره ، ويواليه فيتخذه وليّا لنفسه ونصيرا دون الله ، { فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانا مُبِينا } يقول : فقد هلك هلاكا ، وَبخَس نفسه حظها فأوبقها بَخْسا مبينا يبين عن عطبه وهلاكه ، لأن الشيطان لا يملك له نصرا من الله إذا عاقبه على معصيته إياه في خلافه أمَره ، بل يخذله عند حاجته إليه . وإنما حاله معه ما دام حيّا ممهلاً بالعقوبة ، كما وصفه الله جلّ ثناؤه بقوله : { يَعِدُهُمْ ويُمَنّيهِمْ ومَا يَعِدُهُمُ الشّيْطانُ إلاّ غُرُورا }
قوله : { ولأضلنهم } معناه أصرفهم عن طريق الهدى ، { ولأمنينهم } لأسولن لهم .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رحمه الله : وهذا لا ينحصر إلى نوع واحد من الأمنية ، لأن كل واحد في نفسه إنما تمنيه بقدر نصبته وقرائن حاله ، ومنه قوله عليه السلام : «إن الشيطان يقول لمن يركب ولا يذكر الله : تغن ، فإن لم يحسن قاله له تمن »{[4283]} ، واللامات كلها للقسم .
«والبتك » : القطع{[4284]} ، وكثر الفعل إذ القطع كثير على أنحاء مختلفة ، وإنما كنى عز وجل عن البحيرة والسائبة ونحوه مما كانوا يثبتون فيه حكماً ، بسبب آلهتهم وبغير ذلك{[4285]} ، وقرأ أبو عمرو بن العلاء { ولآمرنهم } بغير ألف ، وقرأ أبيّ «وأضلهم وأمنيهم وآمرهم » .
واختلف في معنى «تغيير خلق الله » ، فقال ابن عباس وإبراهيم ومجاهد والحسن وقتادة وغيرهم : أراد : يغيرون دين الله وذهبوا في ذلك إلى الاحتجاج بقوله تعالى : { فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله }{[4286]} أي لدين الله ، والتبديل يقع موضعه التغيير ، وإن كان التغيير أعم منه ، وقالت فرقة : «تغيير خلق الله » هو أن الله تعالى خلق الشمس والنار والحجارة وغيرها من المخلوقات ليعتبر بها وينتفع بها ، فغيرها الكفار بأن جعلوها آلهة معبودة ، وقال ابن عباس أيضاً وأنس وعكرمة وأبو صالح : من تغيير خلق الله الإخصاء ، والآية إشارة إلى إخصاء البهائم وما شاكله ، فهي عندهم أشياء ممنوعة ، ورخص في إحصار البهائم جماعة إذا قصدت به المنفعة ، إما السمن أو غيره ، ورخصها عمر بن عبد العزيز في الخيل ، وقال ابن مسعود والحسن : هي إشارة إلى الوشم وما جرى مجراه من التصنع للحسن ، فمن ذلك الحديث : «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشمات والموشمات والمتنمصات والمتفلجات المغيرات خلق الله »{[4287]} ومنه قوله عليه السلام ، «لعن الله الواصلة والمستوصلة »{[4288]} وملاك تفسير هذه الآية : أن كل تغيير ضار فهو في الآية ، وكل تغيير نافع فهو مباح ، ولما ذكر الله تعالى عتو الشيطان وما توعد به من بث مكره ، حذره تبارك وتعالى عباده ، بأن شرط لمن يتخذه ولياً جزاء الخسران ، وتصور الخسران إنما هو بأن أخذ هذا المتخذ حظ الشيطان ، فكأنه أعطى حظ الله تبارك وتعالى فيه وتركه من أجله .
معنى { ولأضِلَّنَّهم } إضلالهم عن الحق . ومعنى : { ولأمنّينَّهم } لأعدنَّهم مواعيد كاذبة ، ألقيها في نفوسهم ، تجعلهم يتمنّون ، أي يقدّرون غير الواقع واقعاً ، أغراقاً ، في الخيال ، ليستعين بذلك على تهوين انتشار الضلالات بينهم . يقال : منَّاه ، إذا وعده المواعيد الباطلة ، وأطمعه في وقوع ما يحبّه ممّا لا يقع ، قال كعب :
ومِنه سمّي بالتمنّي طلبُ ما لا طمع فيه أو ما فيه عسر .
ومعنى : { ولآمرنّهم فليبتْكن آذان الأنعام } أي آمرنّهم بأن يبتّكوا آذان الأنعام فليبتّكنها ، أي يأمرهم فيجدهم ممتثلين ، فحذف مفعول أمَرَ استغناء عنه بما رُتّب عليه . والتبتيك : القطع . قال تأبّط شراً :
ويجعلُ عينيه رَبيئَةَ قلبه *** إلى سَلّةٍ من حدّ أخلَقَ باتك
وقد ذكر هنا شيئاً ممّا يأمر به الشيطان ممّا يخصّ أحوال العرب ، إذ كانوا يقطعون آذان الأنعام التي يجعلونها لطواغيتهم ، علامة على أنّها محرّرة للأصنام ، فكانوا يشقّون آذان البحيرة والسائبة والوصيلة ، فكان هذا الشقّ من عمل الشيطان ، إذ كان الباعثُ عليه غرضاً شيطانياً .
وقوله : { ولآمرنّهم فليغيرنّ خلق الله } تعريض بما كانت تفعله أهل الجاهلية من تغيير خلق الله لدواع سخيفة ، فمن ذلك ما يرجع إلى شرائع الأصنام مثل فقء عين الحامي ، وهو البعير الذي حمَى ظهرَه من الركوب لكثرة ما أنْسَل ، ويسيّب للطواغِيت . ومنه ما يرجع إلى أغراض ذميمة كالوشْم إذ أرادوا به التزيّن ، وهو تشويه ، وكذلك وسم الوجوه بالنار .
ويدخل في معنى تغيير خلق الله وضع المخلوقات في غير ما خلقها الله له ، وذلك من الضلالات الخرافية . كجعل الكواكب آلهة . وجعل الكسوفات والخسوفات دلائل على أحوال الناس ، ويدخل فيه تسويل الإعراض عن دين الإسلام ، الذي هو دين الفطرة ، والفطرة خلق الله ؛ فالعدول عن الإسلام إلى غيره تغيير لخلق الله .
وليس من تغيير خلق الله التصرّف في المخلوقات بما أذن الله فيه ولا ما يدخل في معنى الحسن ؛ فإنّ الختان من تغيير خلق الله ولكنّه لفوائد صحيّة ، وكذلك حَلق الشعر لفائدة دفع بعض الأضرار ، وتقليمُ الأظفار لفائدة تيسير العمل بالأيدي ، وكذلك ثقب الآذان للنساء لوضع الأقراط والتزيّن ، وأمّا ما ورد في السنّة من لعن الواصلات والمتنمّصات والمتفلّجات للحسن فممّا أشكل تأويله .
وأحسب تأويله أنّ الغرض منه النهي عن سمات كانت تعدّ من سمات العواهر في ذلك العهد ، أو من سمات المشركات ، وإلاّ فلو فرضنا هذه مَنهيّاً عنها لَما بلغ النهي إلى حدّ لَعن فاعلات ذلك . وملاك الأمر أن تغيير خلق الله إنّما يكون إنما إذا كان فيه حظّ من طاعة الشيطان ، بأن يجعل علامة لِنحلة شيطانية ، كما هو سياق الآية واتّصال الحديث بها . وقد أوضحنا ذلك في كتابي المسمّى : « النظر الفسيح على مشكل الجامع الصحيح » .
وجملة { ومن يتّخذ الشيطان وليّاً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً } تذييل دالّ على أنّ ما دعاهم إليه الشيطان : من تبتيك آذان الأنعام ، وتغيير خلق الله ، إنّما دعاهم إليه لما يقتضيه من الدلالة على استشعارهم بشعاره ، والتديّن بدعوته ، وإلاّ فإنّ الشيطان لا ينفعه أن يبتّك أحد أذن ناقته ، أو أن يغيّر شيئاً من خلقته ، إلاّ إذا كان ذلك للتأثّر بدعوته .