ثم قال تعالى { لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا } وفيه مسألتان .
المسألة الأولى : قال صاحب الكشاف : قوله { لعنه الله وقال لأتخذن } صفتان بمعنى شيطانا مريدا جامعا بين لعنة الله وهذا القول الشنيع . واعلم أن الشيطان هاهنا قد ادعى أشياء : أولها : قوله { لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا } الفرض في اللغة القطع ، والفرضة الثلمة التي تكون في طرف النهر ، والفرض الحز الذي في الوتر ، والفرض في القوس الحز الذي يشد فيه الوتر ، والفريضة ما فرض الله على عباده وجعله حتما عليهم قطعا لعذرهم ، وكذا قوله { وقد فرضتم لهن فريضة } أي جعلتم لهن قطعة من المال .
إذا عرفت هذا فنقول : معنى الآية أن الشيطان لعنه الله قال عند ذلك : لأتخذن من عبادك حظا مقدرا معينا ، وهم الذين يتبعون خطواته ويقبلون وساوسه ، وفي التفسير عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال : «من كل ألف واحد لله وسائره للناس ولإبليس » .
فإن قيل : النقل والعقل يدلان على أن حزب الشيطان أكثر عددا من حزب الله .
أما النقل : فقوله تعالى في صفة البشر { فاتبعوه إلا فريقا من المؤمنين } وقال حاكيا عن الشيطان { لأحتنكن ذريته إلا قليلا } . وحكى عنه أيضا أنه قال { لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين } ولاشك أن المخلصين قليلون .
وأما العقل : فهو أن الفساق والكفار أكثر عددا من المؤمنين المخلصين ، ولاشك أن الفساق والكفار كلهم حزب إبليس .
إذا ثبت هذا فنقول : لم قال { لأتخذن من عبادك نصيبا } مع أن لفظ النصيب لا يتناول القسم الأكثر ، وإنما يتناول الأقل ؟
والجواب : أن هذا التفاوت إنما يحصل في نوع البشر ، أما إذا ضممت زمرة الملائكة مع غاية كثرتهم إلى المؤمنين كانت الغلبة للمؤمنين المخلصين ، وأيضا فالمؤمنون وإن كانوا قليلين في العدد إلا أن منصبهم عظيم عند الله ، والكفار والفساق وإن كانوا كثيرين في العدد فهم كالعدم ، فلهذا السبب وقع اسم النصيب على قوم إبليس .
وثانيها : { ولأضلنهم } يعني عن الحق ، قالت المعتزلة : هذه الآية دالة على أصلين عظيمين من أصولنا .
فالأصل الأول : المضل هو الشيطان ، وليس المضل هو الله تعالى قالوا : وإنما قلنا : أن الآية تدل على أن المضل هو الشيطان لأن الشيطان ادعى ذلك والله تعالى ما كذبه فيه ، ونظيره قوله { لأغوينهم أجمعين } وقوله { لأحتنكن ذريته إلا قليلا } وقوله { لأقعدن لهم صراطك المستقيم } وأيضا إنه تعالى ذكر وصفه بكونه مضلا للناس في معرض الذم له ، وذلك يمنع من كون الإله موصوفا بذلك .
والأصل الثاني : وهو أن أهل السنة يقولون : الإضلال عبارة عن خلق الكفر والضلال وقلنا : ليس الإضلال عبارة عن خلق الكفر والضلال بدليل أن إبليس وصف نفسه بأنه مضل مع أنه بالإجماع لا يقدر على خلق الضلال .
والجواب : أن هذا كلام إبليس فلا يكون حجة ، وأيضا أن كلام إبليس في هذه المسألة مضطرب جدا ، فتارة يميل إلى القدر المحض ، وهو قوله { لأغوينهم أجمعين } وأخرى إلى الجبر المحض وهو قوله { رب بمآ أغويتني } وتارة يظهر التردد فيه حيث قال : { ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا } يعني أن قول هؤلاء الكفار : نحن أغوينا فمن الذي أغوانا عن الدين ؟ ولابد من انتهاء الكل بالآخرة إلى الله . وثالثها : قوله { ولأمنينهم } واعلم أنه لما ادعى أنه يضل الخلق قال { ولأمنينهم } وهذا يشعر بأنه لا حيلة له في الاضلال أقوى من إلقاء الأماني في قلوب الخلق ، وطلب الأماني يورث شيئين : الحرص والأمل ، والحرص والأمل يستلزمان أكثر الأخلاق الذميمة ، وهما كالأمرين اللازمين لجوهر الإنسان قال صلى الله عليه وسلم : «يهرم ابن آدم ويشب معه إثنان الحرص والأمل » والحرص يستلزم ركوب أهوال الدنيا وأهوال الدين فإنه إذا اشتد حرصه على الشيء فقد لا يقدر على تحصيله إلا بمعصية الله وإيذاء الخلق ، وإذا طال أمله نسي الآخرة وصار غريقا في الدنيا فلا يكاد يقدم على التوبة ، ولا يكاد يؤثر فيه الوعظ فيصير قلبه كالحجارة أو أشد قسوة . ورابعها : قوله { ولآمرنهم فليبتكن ءاذان الانعام } البتك القطع ، وسيف باتك أي قاطع ، والتبتيك التقطيع . قال الواحدي رحمه الله : التبتيك هاهنا هو قطع آذان البحيرة بإجماع المفسرين ، وذلك أنهم كانوا يشقون آذان الناقة إذا ولدت خمسة أبطن وجاء الخامس ذكرا ، وحرموا على أنفسهم الانتفاع بها . وقال آخرون : المراد أنهم يقطعون آذان الأنعام نسكا في عبادة الأوثان فهم يظنون أن ذلك عبادة مع أنه في نفسه كفر وفسق . وخامسها : قوله { ولآمرنهم فليغيرن خلق الله } وللمفسرين هاهنا : قولان : الأول : أن المراد من تغيير خلق الله تغيير دين الله ، وهو قول سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب والحسن والضحاك ومجاهد والسدي والنخعي وقتادة ، وفي تقرير هذا القول وجهان : الأول : أن الله تعالى فطر الخلق على الإسلام يوم أخرجهم من ظهر آدم كالذر وأشهدهم على أنفسهم أنه ربهم وآمنوا به ، فمن كفر فقد غير فطرة الله التي فطر الناس عليها ، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم : «كل مولود يولد على الفطرة » ولكن أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه .
والوجه الثاني : في تقرير هذا القول : أن المراد من تغيير دين الله هو تبديل الحلال حراما أو الحرام .
القول الثاني : حمل هذا التغيير على تغيير أحوال كلها تتعلق بالظاهر ، وذكروا فيه وجوها الأول : قال الحسن : المراد ما روى عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم : «لعن الله الواصلات والواشمات » قال وذلك لأن المرأة تتوصل بهذه الأفعال إلى الزنا . الثاني : روي عن أنس وشهر بن حوشب وعكرمة وأبي صالح أن معنى تغيير خلق الله هاهنا هو الاخصاء وقطع الآذان وفقء العيون ، ولهذا كان أنس يكره إخصاء الغنم ، وكانت العرب إذا بلغت إبل أحدهم ألفا عوروا عين فحلها . الثالث : قال ابن زيد هو التخنث ، وأقول : يجب إدخال السحاقات في هذه الآية على هذا القول ، لأن التخنث عبارة عن ذكر يشبه الأنثى ، والسحق عبارة عن أنثى تشبه الذكر الرابع : حكي الزجاج عن بعضهم أن الله تعالى خلق الأنعام ليركبوها ويأكلوها فحرموها على أنفسهم كالبحائر والسوائب والوصائل ، وخلق الشمس والقمر والنجوم مسخرة للناس ينتفعون بها فعبدها المشركون ، فغيروا خلق الله ، هذا جملة كلام المفسرين في هذا الباب ويخطر ببالي هاهنا وجه آخر في تخريج الآية على سبيل المعنى ، وذلك لأن دخول الضرر والمرض في الشيء يكون على ثلاثة أوجه : التشوش ، والنقصان ، والبطلان . فادعى الشيطان لعنه الله إلقاء أكثر الخلق في مرض الدين ، وضرر الدين هو قوله { ولأمنينهم } ثم إن هذا المرض لابد وأن يكون على أحد الأوجه الثلاثة التي ذكرناها ، وهي التشوش والنقصان والبطلان ، فأما التشوش فالإشارة إليه بقوله { ولأمنينهم } وذلك لأن صاحب الأماني يشغل عقله وفكره في استخراج المعاني الدقيقة والحيل والوسائل اللطيفة في تحصيل المطالب الشهوانية والغضبية ، فهذا مرض روحاني من جنس التشوش ، وأما النقصان فالإشارة إليه بقوله { ولآمرنهم فليبتكن ءاذان الأنعام } وذلك لأن بتك الآذان نوع نقصان ، وهذا لأن الإنسان إذا صار مستغرق العقل في طلب الدنيا صار فاتر الرأي ضعيف الحزم في طلب الآخرة ، وأما البطلان فالإشارة إليه بقوله { ولآمرنهم فليغيرن خلق الله } وذلك لأن التغيير يوجب بطلان الصفة الحاصلة في المدة الأولى . ومن المعلوم أن من بقي مواظبا على طلب اللذات العاجلة معرضا عن السعادات الروحانية فلا يزال يزيد في قلبه الرغبة في الدنيا والنفرة عن الآخرة ، ولا تزال تتزايد هذه الأحوال إلى أن يتغير القلب بالكلية فلا يخطر بباله ذكر الآخرة البتة ، ولا يزول عن خاطره حب الدنيا البتة ، فتكون حركته وسكونه وقوله وفعله لأجل الدنيا ، وذلك يوجب تغيير الخلقة لأن الأرواح البشرية إنما دخلت في هذا العالم الجسماني على سبيل السفر ، وهي متوجهة إلى عالم القيامة ، فإذا نسيت معادها وألفت هذه المحسوسات التي لابد من انقضائها وفنائها كان هذا بالحقيقة تغييرا للخلقة ، وهو كما قال تعالى : { ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم } وقال { فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } .
واعلم أنه تعالى لما حكى عن الشيطان دعاويه في الأغواء والضلال حذر الناس عن متابعته فقال { ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا } واعلم أن أحدا لا يختار أن يتخذ الشيطان وليا من دون الله ، ولكن المعنى أنه إذا فعل ما أمره الشيطان به وترك ما أمره الرحمن به صار كأنه اتخذ الشيطان وليا لنفسه وترك ولاية الله تعالى ، وإنما قال { خسر خسرانا مبينا } لأن طاعة الله تفيد المنافع العظيمة الدائمة الخالصة عن شوائب الضرر ، وطاعة الشيطان تفيد المنافع الثلاثة المنقطعة المشوبة بالغموم والأحزان والآلام الغالبة ، والجمع بينهما محال عقلا ، فمن رغب في ولايته فقد فاته أشرف المطالب وأجلها بسبب أخس المطالب وأدونها ، ولا شك أن هذا هو الخسار المطلق .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.