محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَلَأُضِلَّنَّهُمۡ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمۡ وَلَأٓمُرَنَّهُمۡ فَلَيُبَتِّكُنَّ ءَاذَانَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ وَلَأٓمُرَنَّهُمۡ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلۡقَ ٱللَّهِۚ وَمَن يَتَّخِذِ ٱلشَّيۡطَٰنَ وَلِيّٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِ فَقَدۡ خَسِرَ خُسۡرَانٗا مُّبِينٗا} (119)

( ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا119 )

( ولأضلنهم ) أي : عن الهدى ( ولأمنينهم ) أي : الأماني الباطلة من طول الأعمار وبلوغ الآمال . قال الرازي : ان الشيطان لما ادعى أنه يضل الخلق قال ( ولأمنينهم ) / وهذا يشعر بأنه لا حيلة له في الاضلال أقوى من القاء الأماني في قلوب الخلق . وطلب ما يورث شيئين : الحرص والأمل . والحرص والأمل يستلزم أكثر الأخلاق الذميمة . وهما كالأمرين اللازمين لجوهر الانسان . قال صلى الله عليه وسلم{[2300]} : " يهرم ابن آدم ويشب معه اثنتان : الحرص والأمل " . والحرص يستلزم ركوب أهوال الدنيا وأهوال الدين . فإنه إذا اشتد حرصه على الشيء فقد لا يكاد يقدم على التوبة ولا يكاد يؤثر فيه الوعظ فيصير قلبه كالحجارة أو أشد قسوة ( ولآمرنهم ) أي على خلاف أمرك اضلالا لهم ( فليبتكن آذان الأنعام ) أي : فليقطعنها ويشقنها سمة وعلامة للبحائر والسوائب ليحرموها ، بعد ما أحللتها . قال الواحدي رحمه الله : التبتيك ، ههنا ، هو قطع آذان البحيرة ، باجماع المفسرين . وذلك أنهم كانوا يشقون آذان الناقة إذا ولدت خمسة أبطن ، وجاء الخامس ذكرا ثم تسيب . وحرموا على أنفسهم الانتفاع بها . فأعفوا ظهرها من الركوب والحمل والذبح . ولا يردونها عن ماء ولا مرعى . واذا لقيها المعيي المنقطع به لم يركبها . وسول لهم ابليس أن هذا قربة ، وهي البحيرة . قال ابن سيده : بحر الناقة والشاة يبحرها : شق أذنها بنصفين . وقل بنصفين طولا ( ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ) أي : دين الله عز وجل . رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس وكثيرين . وهذا كقوله تعالى : ( فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ) {[2301]} على قول من جعل ذلك أمرا . أي : لا تبدلوا فطرة الله ، / ودعوا الناس على فطرتهم ، كما ثبت في ( الصحيحين ) عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم{[2302]} : " كل مولود يولد على الفطرة . فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه . كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء . هل تجدون بها من جدعاء ؟ " وفي ( صحيح مسلم ) {[2303]} عن عياض بن حمار قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال الله عز وجل : اني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم . وحرمت عليهم ما أحللت لهم " .

/ وروى الامام أحمد والشيخان{[2304]} عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه في النار . وكان أول من سيب السوائب وبحر البحيرة " .

وروى الطبراني عن ابن عباس مرفوعا : " أول من غير دين ابراهيم عمرو بن لحي بن قمعة بن خندف ، أبو خزاعة " .

وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس : " أنه عنى بالآية خصي الدواب " . وقال أنس : منه الخصا . وقد روى ابن عساكر عن ابن عمر قال : " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الاخصاء " . ورواه الامام أحمد{[2305]} أيضا عنه بلفظ : " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خصاء الخيل والبهائم " . وروى الطبراني عن ابن مسعود : " نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يخصى احد من ولد آدم " . وروى / البيهقي عن ابن عباس : " نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن صبر الروح وخصاء البهائم " . وقال الحسن : " عنى بالآية الوشم ( بالشين المعجمة ) " أخرجه ابن أبي حاتم . روى الامام أحمد {[2306]}عن أبي هريرة : " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوشم " . وفي ( الصحيح ) {[2307]} عن ابن مسعود : " لعن الله الواشمات والمستوشمات والنامصات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله عز وجل . ثم قال : ألا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ وهو في كتاب الله عز وجل ؟ يعني قوله تعالى : ( وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ) " .

قال السيوطي في ( الاكليل ) : فيستدل بالآية على تحريم الخصاء والوشم وما يجري مجراه ، من الوصل في الشعر . والتفلج ، وهو تفريق الأسنان . والتنميص ، وهو نتف الشعر من الوجه . انتهى .

/ قال بعض الزيدية : ويلحق بالوشر ما يفعل في الخد من الشرط للزينة . وحكى الزجاج عن بعضهم ، في معنى الآية : ان الله تعالى خلق الأنعام ليركبوها ويأكلوها ، فحرموها على أنفسهم كالبحائر والسوائب والوصائل . وخلق الشمس والقمر والنجوم مسخرة للناس ينتفعون بها ، فعبدها المشركون فغيروا خلق الله . ولا يخفى ان عموم الآية يصدق على جميع المعاني . اذ كلها من تغيير خلق الله . فلا مانع من حمل الآية عليها . قال البيضاوي : قوله : ( فليغيرن خلق الله ) أي : عن وجهه وصورته ، أو صفته . ويندرج فيه ما قيل من فقء عين الحامي ، وخصاء العبيد ، والوشم والوشر ، واللواط ، والسحق ، ونحو ذلك . وعبادة الشمس والقمر ، وتغييره فطرة الله تعالى التي هي الاسلام . واستعمال الجوارح والقوى فيما لا يعود على النفس كمالا ، ولا يوجب لها من الله سبحانه وتعالى زلفى . انتهى .

وهذه الجمل المحكية عن اللعين مما نطق به لسانه مقالا أو حالا . وما فيها من ( اللامات ) كلها للقسم . والمأمور به في الموضعين محذوف ، ثقة بدلالة النظم عليه . ثم حذر تعالى عن متابعته فقال : ( ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله ) بإيثار ما يدعو إليه ، مجاوزا ولاية الله ، بترك ما يدعو إليه ( فقد خسر خسرانا مبينا ) أي : بينا لمصيره إلى النار المؤبدة عليه .


[2300]:أخرجه مسلم في: 12 –كتاب الزكاة، حديث 115 (طبعتنا) ونصه: عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يهرم ابن آدم ويشب منه اثنتان: الحرص على المال والحرص على العمر".
[2301]:|30/ الروم/ 30| (... ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون30).
[2302]:أخرجه البخاري في: 23 –كتاب الجنائز، 92 –باب ما قيل في أولاد المشركين، حديث 7166. ونصه: عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجيانه. كمثل البهيمة تنتج البهيمة. هل ترى فيها جدعاء؟".
[2303]:أخرجه مسلم في: 51 –كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، حديث 63 (طبعتنا) ونصه: عن عياض بن حمار المجاشعي، ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، ذات يوم في خطبته: "ألا ان ربي أمرني أن أعلمكم مما جهلتم مما علمني، يومي هذا. كل مال نحلته عبدا، حلال. واني خلقت عبادي حنفاء كلهم. وانهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم. وحرمت عليهم ما أحللت لهم. وأمرتهم ان يشركوا بي، ما لم أنزل به سلطانا. وان الله نظر الى أهل الأرض فمقتهم، هعربهم وعجمهم، الا بقايا من أهل الكتاب. وقال: انما بعثتك لأبتليك وابتلي بك. وأنزلت عليك كتابا لا يغسله الماء. تقرؤوه نائما ويقظان. وان الله أمرني أن أحرق قريشا. فقلت: رب! اذا يثلغوا رأسي (أي: يشدخوه ويشقوه) فيدعوه خبزة (أي: كما يشدخ الخبز) قال: استخرجهم كما استخرجوك. واغزهم نغزك (أي: نعينك) وانفق فسننفق عليك. وابعث جيشا نبعث خمسة مثله. وقاتل بمن أطاعك من عصاك. قال: وأهل الجنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق. ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى، ومسلم، وعفيف متعفف ذو عيال. قال: وأهل النار خمسة: الضعيف الذي لا زبر له (أي: لا عقل له يزبره ويمنعه مما لا ينبغي) الذين هم فيكم تبعا لا يتبعون أهلا ولا مالا. والخائن الذي لا يخفى له طمع، وان دق الا خانه. ورجل لا يصبح ولا يمسي الا وهو يخادعك من أهلك ومالك". وذكر البخل أو الكذب "والشنظير: الفحاش".
[2304]:أخرجه في المسند بالصفحة 275 من الجزء الثاني (طبعة الحلبي) ونصه: عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قصبه (يعني الأمعاء) في النار. وهو أمول من سيب السوائب". وفي البخاري في: 61 –كتاب المناقب، 9 –باب قصة خزاعة، حديث 1657. ومسلم يف: 51 –كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، حديث 51 (طبعتنا).
[2305]:أخرجه في المسند بالصفحة 24 من الجزء الثاني (طبعة الحلبي) ونصه: عن ابن عمر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اخصاء الخيل والبهائم. وقال ابن عمر: فيها نماء الخلق.
[2306]:أخرجه في المسند بالصفحة 319 من الجزء الثاني (طبعة الحلبي).
[2307]:أخرجه البخاري في: 65 –كتاب التفسير، 57 –سورة الحديد، 4 –باب (وما آتاكم الرسول فخذوه)، حديث 2055 ونصه: عن علقمة عن عبد الله قال لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله. فبلغ ذلك امرأة من بني أسد يقال لها ام يعقوب. فقال: انه بلغني أنك لعنت كيت وكيت. فقال: وما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هو في كتاب الله؟ فقالت: لقد قرأت ما بين اللوحين فما وجدت فيه ما تقول. قال: لئن كنت قرأتيه لقد وجدتيه. أما قرأت: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا؟) قالت: بلى. قال: فانه قد نهى عنه. قالت: فاني أرى اهلك يفعلونه. قال: فاذهبي فانظري. فذهبت فنظرت فلم تر من حاجتها شيئا. فقال: لو كانت كذلك ما جامعتنا.