غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَلَأُضِلَّنَّهُمۡ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمۡ وَلَأٓمُرَنَّهُمۡ فَلَيُبَتِّكُنَّ ءَاذَانَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ وَلَأٓمُرَنَّهُمۡ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلۡقَ ٱللَّهِۚ وَمَن يَتَّخِذِ ٱلشَّيۡطَٰنَ وَلِيّٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِ فَقَدۡ خَسِرَ خُسۡرَانٗا مُّبِينٗا} (119)

114

{ ولأضلنهم } يعني عن الحق . قالت المعتزلة : فيه دلالة على أصلين من أصولنا : الأول أنّ المضل هو الشيطان دون الله ، والثاني أنّ الإضلال ليس عبارة عن خلق الكفر والضلال فإنّ الشيطان بالاتفاق لا يقدر على ذلك . وأجيب بأنّ هذا كلام إبليس فلا يكون حجة أنّ كلامه في هذه المسألة مضطرب جداً فتارة يميل إلى القدر المحض وهو قوله : { لأضلنهم }{ لأغوينهم }[ ص :82 ] وأخرى إلى الجبر المحض كقوله :{ رب بما أغويتني }[ الأعراف :16 ] { ولأمنينهم } الأماني الباطلة من طول الأعمار وبلوغ الآمال واقتحام الأهوال وانتظام الأحوال فلا يكاد يقدم على التوبة والإقبال على تهيئة زاد الآخرة حتى يصير قلبه كالحجارة أو اشد قسوة . { ولأمرنهم فليبتكن آذان الأنعام } البتك القطع ، وسيف باتك أي صارم ، والتبتيك التقطيع شدّد للكثرة . وجمهور المفسرين على أنّ المراد به ههنا قطع آذان البحائر كانوا يشقون أذن الناقة إذا ولدت خمسة أبطن إذا جاء الخامس ذكراً وحرموا على أنفسهم الانتفاع بها ويسمونها بحيرة . وقال بعضهم : كانوا يقطعون آذان الأنعام نسكاً في عبادة الأوثان فهم يظنون أن ذلك عبادة مع أنه في نفسه كفر وفسق . قوله : { فليبتكن } صيغة غابر للغائبين واللام لجواب قسم آخر أي فوالله ليبتكن وأصله ليبتكون ، فلما دخلت النون الثقيلة سقطت نون الرفع ولتوالي الأمثال وواو الجمع لالتقاء الساكنين واكتفى بالضمة ، والفاء للتسبيب والإيذان بتلازم ما قبلها وما بعدها والجملة كالتفسير لقوله : { ولأمرنهم } ومثله في الإعراب قوله : { ولأمرنهم فليغيرن خلق الله } والمراد من التغيير إما المعنوي وإما الحسي . فمن الأول قول سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والحسن والضحاك ومجاهد والنخعي وقتادة والسدي أنه تغيير دين الله بتبديل الحرام حلالاً وبالعكس ، أو بإبطال الاستعداد الفطري { فطرت الله التي فطر الناس عليها }[ الروم :30 ] " كل مولود يولد على الفطرة " . ومن الثاني قول الحسن المراد ما روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم : " لعن الله الواشمات والواشرات والمتنمصات " وذلك أنّ المرأة تتوصل بهذه الأفعال إلى الزنا . أما وشم اليد فهو أن يغرزها بالإبرة ثم يذر عليها النيل . والوشر تحديد الأسنان ، والتنميص نتف شعر الحاجب وغيره . وقال أنس وشهر بن حوشب وعكرمة وأبو صالح : تغيير خلق الله هو الخصاء وقطع الآذان وفقء العيون . وكانت العرب إذا بلغت إبل أحدهم ألفاً أعور وأعين فحلها . وخصاء البهائم مباح عند عامة العلماء وأما في بني آدم فمحظور . وعند أبي حنيفة يكره شراء الخصيان وإمساكهم واستخدامهم لأنّ الرغبة فيهم تدعو إلى خصائهم . وقال ابن زيد : هو التخنث تشبه الذكر بالأنثى . وعلى هذا فالسحق أيضاً داخل في الآية لأنّه تشبه الأنثى بالذكر . وحكى الزجاج عن بعضهم أن الله تعالى خلق الأنعام ليركبوها فحرموها على أنفسهم كالبحائر والسوائب ، وخلق الشمس والقمر مسخرين للناس ينتفعون بهما فعبدوهما فغيروا خلق الله .

واعلم أن دخول الضرر في الإنسان إنما يكون على ثلاثة أوجه : التشويش والنقصان والبطلان ، فادعى الشيطان لعنه الله إلقاء أكثر الخلق في ضرر الدين وهو قوله : { لأضلنهم } ثم فصل ذلك بقوله : { ولأمنينهم } وهو الضرر من جنس التشويش لأن صاحب الأماني يتشوّش فكره في استخراج الحيل الدقيقة والوسائل اللطيفة في تحصيل مطالبه الشهوية والغضبية والشيطانية . وقوله : { ولأمرنهم فليبتكن آذان الأنعام } إشارة إلى الضرر بالنقصان لأنّ الإنسان إذا صار مستغرق العقل في طلب الدنيا صار فاتر الرأي ضعيف العزم في طلب الآخرة . وقوله : { ولأمرنهم فليغيرن خلق الله } إشارة إلى البطلان لأن من بقي مواظباً على طلب اللذات العاجلة معرضاً عن السعادات الباقية فلا يزال يتزايد ميله وركونه إلى الدنيا حتى يتغير قلبه بالكلية ولا يخطر بباله ذكر الآخرة . { ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله } بأن فعل ما أمره الشيطان به وترك ما أمره الرحمن به { فقد خسر خسراناً مبيناً } إذ فاته أشرف المطالب بسبب الاشتغال بأخسها .

/خ126