قوله : " ولأضِلَّنَّهُمْ " يَعْنِي : عن الحَقِّ ، أو عن الهُدَى ، وأراد به : التَّزْيين ، وإلا فليْس إليه من الإضْلال شَيْء .
ولأمَنِّيَنَّهم : بالباطل ، ولآمُرَنَّهم : بالضلال ، كذا قدَّره أبو البقاء{[9756]} ، والأحْسَنُ أن يُقَدَّر المحذُوفُ ، من جنس المَلْفُوظِ به ، أي : ولآمُرَنَّهم بالبَتْكِ ، ولآمُرَنَّهم بالتَّغْيير .
وقرأ أبو عمرو{[9757]} فِيما نَقَل عنه ابْن عَطِيَّة : " ولامُرَنَّهم " بغيرِ ألفٍ ، وهو قصرٌ شاذٌّ لا يُقاسُ عليه ، ويجُوز ألاَّ يُقَدَّر شَيءٌ من ذلك ؛ لأنَّ القَصْدَ : الإخْبَارُ بوقوعِ هذه الأفْعَال من غيرِ نَظَرٍ إلى مُتعلَّقاتِها ، نحو : { كُلُواْ وَاشْرَبُواْ } [ الطور : 19 ] .
قالت المُعْتَزِلَة{[9758]} : قوله : " ولأضِلَّنَّهُم " يدل على أصْلَيْن عظيمين :
أحدهما : أن المُضِلَّ هو الشَّيْطَان ، وليس المُضِلُّ هو اللَّه - تعالى - ؛ لأنَّ الشيطان ادَّعى ذَلِك ، والله - سبحانه وتعالى - ما كذَّبَهُ فيه ، فَهُو كقوله{[9759]} : { وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ }
[ الحجر : 39 ] وقوله : { لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً } [ الإسراء : 62 ] وقوله : { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ } [ الأعراف : 16 ] ، وأيضاً : فإنه - تعالى - وَصَفَه بكونه مُضِلاًّ [ للنَّاسِ ]{[9760]} في معرض الذَّمِّ له ، وذلك يَمْنَع من كون الإله مَوْصُوفاً بذلك .
[ الثاني : أن أهْل السُّنَّة يقُولُون : الإضْلال عِبَارة عن خَلْق الكُفْر والضَّلال ، ونَحْنُ نَقُول : لَيْس الإضلال عِبَارة عن خَلْقِ الكُفْرِ والضَّلال ]{[9761]} ؛ لأن إبْلِيس وَصَفَ نَفْسَه بأنه مُضِلٌّ ، مع أنه بالإجْمَاعِ لا يَقْدِر على خلق الضَّلال .
والجواب : أن هذا كلامُ إبليس ، فلا{[9762]} يكون حُجَّةً ، وأيضاً : فكلامه في هذه المسألة مُضْطَرِبٌ جِدّاً . فتارةً يَمِيل إلى القَدَرِ المَحْض ، وهو قوله : " لأغويَنَّهُم " وأخرى إلى الجبْرِ{[9763]} المَحْضِ ، وهو قوله : { رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي } [ الحجر : 39 ] وتارة يَظْهَرُ التَّردد فيهن حَيْث قال : { رَبَّنَا هَؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا } [ القصص :63 ] يَعْني : أنه قال هؤلاء الكُفَّار : نحن أغْويْنَا ، فمن الذي أغْوَانا عن الدِّين ؟ فلا بُدَّ من انْتِهَاء الكلِّ في الآخِرة إلى اللَّه{[9764]} .
قوله : " ولأمَنِّيَنَّهُم " قيل : أمَنِّينَّهُم ركوب الأهْوَاء .
وقيل : أمَنِّيَنَّهُم إدْرَاك الآخِرَة مع ركوب المَعَاصِي .
قوله : { ولآمرنَّهم فليبتّكُنّ ءاذان الأنعامِ } أي : يَقْطَعُونها ، ويَشقُّونها ، وهي البَحِيرة ، والبتكُ : القَطْعُ والشّقُّ ، والبِتْكَة : القطعة من الشيء ، جَمْعُها : بِتَك ، قال : [ البسيط ]
حَتَّى إذَا مَا هَوَتْ كَفُّ الغُلاَمِ لَهَا *** طَارَتْ وَفِي كَفِّهِ مِنْ رِيشِهَا بِتَكُ{[9765]}
ومعنى ذلك : أنَّ الجاهليَّة كانوا يَشُقُّون أذُن النَّاقَة إذا ولدت خَمْسَة أبْطُن ، آخرُها ذَكَر ، وحرَّمُوا على أنْفُسِهِم الانتفاع بها ، وقال آخرون{[9766]} : كانوا يَقْطَعُون آذَان الأنْعَام نُسُكاً في{[9767]} عِبَادَة الأوْثَان ، ويَظُنُّون أنَّ ذلك عِبَادة ، مع أنَّه في نفسه كُفْرٌ وفِسْقٌ .
قوله : { وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ } هذه اللاَّمات كلها للقَسَم .
قال ابن عبَّاسٍ : والحَسَن [ ومُجَاهِدٌ ]{[9768]} وسعيد بن جُبَيْر ، وسَعِيد بن المسيَّب والسُّدِّي ، والضَّحاك ، والنَّخْعِيُ : دِينُ الله{[9769]} ، كقوله { لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ } [ الروم : 30 ] أي : لدين اللَّه ، وفي تَفْسير هذا القَوْل وَجْهَان :
الأول : أن اللَّه - تعالى - فطر الخَلْقَ على الإسْلام يَوْم أخْرَجَهُم من ظَهْر آدَم كالذَّرِّ ، وأشْهَدَهُم على أنْفُسِهم ، ألَسْتُ بِربِّكم ؛ قالوا بَلَى ، فمن كَفَر به ، فقد غيَّر فِطْرَة اللَّه تعالى ؛ يؤيده قوله - عليه الصلاة والسلام - " كل مَوْلُود يُولَدُ على الفِطْرة ، فأبواه يُهوِّدَانه ، ويُنَصِّرانه ، ويُمَجِّسانه " {[9770]} .
والثاني : أن التَّغْيير : تَبْدِيل الحَلالِ حَراماً ، والحرام حَلاَلاً .
وقال الحسن ، وعكرمة ، وجماعة من المُفسِّرين : التَّغْيِير : ما روى عبد اللَّه [ بن مَسْعُود ]{[9771]} عن النَّبِي صلى الله عليه وسلم [ أنَّه ]{[9772]} قال : " لَعَن اللَّه الوَاشِمَاتِ والمُسْتَوشِمَات " {[9773]} .
قالوا : لأنَّ المرأة تَتَوصَّل بهذه الأفعال إلى الزِّنا ، ولَعَن رسُول اللَّه صلى الله عليه وسلم " النامِصَة والمُتَنَمِّصَة ، والوَاصِلَة والمُتَوَصِّلة ، والوَاشِمة والمُتَوَشِّمَة " {[9774]} .
قال القرطبي{[9775]} : قال مَالِك ، وجماعة : إن الوَصْل بكل شَيء ، من الصُّوفِ والخِرق{[9776]} وغَيْر ذَلِك في مَعْنَى وصله بالشَّعْر ، وأجازه اللَّيْث بن سَعْد ، وأباح بَعْضُهم وَضْع الشَّعْر على الرَّأس من غير وَصْل ، قالوا{[9777]} : لأن النهي إنما جَاءَ في الوَصْل ، والمُتَنمِّصَةُ : هي التي تَقْطَع الشَّعْر من وَجْهِهَا بالنِّمَاص ، وهو الذي يقلع الشَّعْر .
قال ابن العرَبيِّ{[9778]} : وأهلْ مِصر يَنْتفُون شَعْر العانَة ، وهو منه{[9779]} ، فإن السُّنَّة حَلْق العَانَة ، ونَتْفُ الإبط ، فأما{[9780]} نَتْفُ الفَرْج فإنه يُرخيه ويؤذِيه ويُبْطل كَثِيراً من المَنْفَعَةِ فيه .
وأمَّا الوَاشِمَة والمُسْتَوْشِمَة ، فهي الَّتِي تغرز ظَهْر كَفِّها ومِعْصَمَها ، ووجْههَا بإبْرَةٍ ، ثُمَّ يحشى ذلك المكانُ بالكُحْل أو بالنؤر ، فيخْضَرّ ، وفي بعض الروايات " الواشية ، والمُسْتَوْشِيَة " {[9781]} باليَاء مكان المِيم ، والوَشْي : التَّزَيُّن ، مأخوذ من نَسْج الثَّوْب على لونين ، وثورٌ مُوشًّى : في وَجْهِه وقوَائِمِه سوادٌ ، وأما الوشْمٌ فجائز في كل الأعْضَاء غير الوَجْه ؛ لأن النبي - عليه الصلاة والسلام - " نهى عن الضَّرْب في الوَجْه{[9782]} وعن الوَشْمِ في الوجْهِ " {[9783]} ، ورُوي عن أنس ، وشهر بن حَوْشَب ، وعِكْرِمَة ، وأبِي صالح : التَّغْيير هَهُنَا هو الإخْصَاء{[9784]} ، وقطع الآذان ، وفَقْأ العُيُون ؛ لأن فيه تَعْذِيب للحَيَوان ، وتَحْريم وتَحْلِيل بغير دليلٍ ، والآذَان في الأنْعَام جمالٌ ومَنْفَعة ، وكذلِك غيرها من الأعْضَاء ، فَحَرّم عليهم الشَّيْطَان ما أحلَّه اللَّه{[9785]} لهم ، وأمرَهُم أن يشركوا باللَّه ما لم يُنَزِّل به سُلْطَاناً ، ولما كان هذا من فِعْل الشَّيْطَان ، أمرنا رسُول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العَيْن والأذُن ، ولا نُضَحِّي بعَوْرَاءَ ، ولا مُقَابَلة ، ولا مُدَابرة{[9786]} ؛ ولهذا كان أنَس{[9787]} يكره إخْصَاء الغَنَم ، وحرمه بَعْضُهم .
قال القُرْطُبِي{[9788]} : فأما خِصاء الآدمِيِّ ، فمصيبَةٌ ، فإنَّه إذا خُصِي ، بَطَل قلبه وقُوَّته ، عَكْس الحَيَوان ، وانْقَطع نَسْلُه المأمُور به فِي قوله - عليه الصلاة والسلام - : " تَنَاكَحُوا تَنَاسَلُوا " {[9789]} ثم إن فيه{[9790]} ألَماً عَظِيماً ، ربما يُفْضِي بَصَاحِبهِ إلى الهلاكِ ، فيكون [ فيه ]{[9791]} تضْييع مالٍ ، وإذْهَابُ نَفْسٍ ، وكل ذلك مَنْهِيٌّ عنه ، ثم هذه مُثْلَةٌ ، وقد نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عن المُثْلَةِ{[9792]} ، وجوَّز بَعْضُهم في البَهَائِم ؛ لأن فيه غَرَضاً ، وكانت العَرَب إذا بَلغَتْ{[9793]} إبلُ أحَدِهِمْ ألْفاً عوَّرُوا عَيْنَ فَحْلِها .
وحكى الزَّجَّاج عن بعضهم : التَّغْيير هو أن اللَّه - تعالى - خلق الأنْعامَ للرُّكُوب والأكْل ، فحربوها ، وخَلَق الشَّمْس ، والقَمَر ، والنُّجُوم ، والأحْجَار لمنفعة العِبَاد ، فعبدوها من دُونِ اللَّه .
وقيل : التَّغْيير هو التَّخَنُّث{[9794]} ؛ وهو عِبَارَةٌ عن الذكر يُشْبِهُ الأنْثَى والسُّحْق ؛ عِبَارة عن تَشَبُّه{[9795]} الأنْثَى بالذّكر .
ثم قال : { وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيّاً مِّن دُونِ اللَّهِ } أي : ربًّا يطيعه ، { فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُبِيناً } لأن طاعة اللَّه تعالى تُفِيد المَنَافِع العَظِيمة ، الدَّائِمة ، الخَالِصَة عن شَوائب الضَّرَر ، وطاعَة الشَّيْطَان تفيد المَنَافِع القَلِيلَة ، المُنْقَطِعة ، المشوبة بالغموم والأحزان ، ويعمها{[9796]} العَذَاب الدَّائِم ، وهذا هُو الخسَار المُطْلَق .
قال أبُو العبَّاس المُقْرِي : ورد لَفْظُ الخُسْرَان [ قي القرآن ]{[9797]} على أربَعَة أوْجُه :
الأوَّل : بمعنى الضَّلالة ؛ كهذه الآيَة .
الثَّاني : بمعنى العَجْز ؛ قال - تعالى - : { لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذَاً لَّخَاسِرُونَ } [ يوسف : 14 ] أي : عَاجِزُون ومثله : { لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ }
الثَّالث : بمعنى الغَبْن ؛ قال - تعالى - : { الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ } [ المؤمنون : 103 ] أي : غبنوا أنْفُسَهم .
الرابع : بمعنى : المُخسِرُون ؛ قال - تعالى - : { خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ [ الْمُبِينُ ]{[9798]} } [ الحج : 11 ] .