لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن - الخازن  
{وَلَأُضِلَّنَّهُمۡ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمۡ وَلَأٓمُرَنَّهُمۡ فَلَيُبَتِّكُنَّ ءَاذَانَ ٱلۡأَنۡعَٰمِ وَلَأٓمُرَنَّهُمۡ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلۡقَ ٱللَّهِۚ وَمَن يَتَّخِذِ ٱلشَّيۡطَٰنَ وَلِيّٗا مِّن دُونِ ٱللَّهِ فَقَدۡ خَسِرَ خُسۡرَانٗا مُّبِينٗا} (119)

{ ولأضلنهم } عن طريق الحق والمراد به التزيين والوسوسة وإلاّ فليس إليه من الإضلال شيء . قال بعضهم لو كانت الضلالة إلى إبليس لأضل جميع الخلق { ولأمنينهم } قال ابن عباس يريد تسويف التوبة وتأخيرها وقال الكلبي أمنيهم أنه لا جنة ولا نار ولا بعث وقيل أمنيهم إدراك الجنة مع عمل المعاصي وقيل أزين لهم ركوب الأهواء والأهوال الداعية إلى العصيان وقيل أمنيهم طول البقاء في الدنيا ونعيمها ليؤثروها على الآخرة { ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام } يعني يقطعونها ويشقونها وهي البحيرة . وذلك أنهم كانوا يشقون آذان الناقة إذا ولدت خمسة أبطن وجاء الخامس ذكراً وحرموا على أنفسهم الانتفاع بها ولا يردونها عن ماء ولا مرعى وسول لهم إبليس إن هذا قربة { ولآمرنهم فليغيرن خلق الله } قال ابن عباس يعني دين وتغيير دين الله هو تحليل الحرام وتحريم الحلال وقيل تغيير خلق الله هو تغيير الفطرة التي فطر الخلق عليها ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم : " كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه " وقيل يحتمل أن يحمل هذا التغيير على تغيير أحوال تتعلق بظاهر الخلق مثل الوشم ووصل الشعر ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم : " لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله " أخرجاه من رواية ابن مسعود ولهما عن أسماء قالت : " لعن النبي صلى الله عليه وسلم الواصلة والمستوصلة " وقيل تغيير خلق الله هو الاختصاء وقطع الآذان حتى إن بعض العلماء حرمه . وكره أنس إخصاء الغنم وجوز بعض العلماء لأن فيه غرضاً ظاهراً ( ق ) عن سعد بن أبي وقاص قال لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد على عثمان بن مظعون التبتل لاختصينا . التبتل : هو ترك النكاح والانقطاع للعبادة عن نافع قال كان ابن عمر يكره الاختصاء ويقول إن فيه نماء الخلق أخرجه مالك في الموطأ ومعناه في ترك الاختصاء نماء الخلق يعني زيادتهم . وقال ابن زيد هو التخنث وهو أن يتشبه الرجل بالنساء في حركاتهن وكلامهن ولباسهن ونحو ذلك . وقيل تغيير خلق الله هو أن الله تعالى خلق البهائم والأنعام للركوب والأكل فحرموها على أنفسهم وخلق الشمس والقمر والنجوم والنار والأحجار لمنفعة الناس فعبدوها من دون الله { ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله } يعني يتخذه رباً يطيعه فيما يأمره به وقيل الولي من الموالاة وهو الناصر { فقد خسر خسراناً مبيناً } لأن طاعة الشيطان توصله إلى نار جهنم وهي غاية الخسران ، بقي في الآية سؤالان : الأول قال لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً والنصيب المفروض هو الشيء المقدر القليل وقال في موضع آخر لأحتنكن ذريته إلاّ قليلاً وقال : لأغوينهم أجمعين إلاّ عبادك منهم المخلصين . وهذا استثناء القليل من الكثير فكيف وجه الجمع فالجواب أن الكفار الذين هم حزب الشيطان وإن كانوا أكثر من المسلمين في العدد لكنهم أقل من المؤمنين في الفضل والشرف وعلو الدرجة عند الله والمؤمنون وإن كانوا أقل من الكفار لكنهم أكثر منهم لأن الفضل والشرف والسؤدد والغلبة في الدنيا وعلو الدرجة في الآخرة وأنشد بعضهم في هذا المعنى قال :

وهم الأقل إذا تعد عشيرة والأكثرون إذا يعد السؤدد

وقيل إن إبليس لما لم ينل من آدم ما أراد ورأى الجنة والنار وعلم أن لهذه أهلاً ولهذه أهلاً قال : لأتخذن من عبادك نصيباً مفروضاً يعني الذين هم أهل النار . السؤال الثاني : من أين لإبليس العلم بالعواقب حتى يقول ولأضلنهم ولأغوينهم ولأمنينهم ولآمرنهم ، وقال في الأعراف { ولا تجد أكثرهم شاكرين } وقال في بني إسرائيل { لأحتنكن ذريته إلا قليلاً }

فالجواب من ثلاثة أوجه : أحدها : أن إبليس ظن أن تقع منهم هذه الأمور التي يريدها منهم فحصل له ما ظنه ويدل على ذلك قوله تعالى : { ولقد صدق عليهم إبليس ظنه فاتبعوه } . الوجه الثاني : قال ابن الأنباري المعنى لأجتهدن ولأحرصن في ذلك أنه كان يعلم الغيب . الوجه الثالث : قال الماوردي من الجائز أن يكون قد علم ذلك من الملائكة بخبر من الله تعالى أن أكثر الخلائق لا يؤمنون .