قوله تعالى : { فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه } ، وهي المشربة التي كان الملك يشرب منها . قال ابن عباس : كانت من زبرجد . وقال ابن إسحاق : كانت من فضة . وقيل : من ذهب ، وقال عكرمة : كانت مشربة من فضة مرصعة بالجواهر ، جعلها يوسف مكيالا لئلا يكال بغيرها ، وكان يشرب منها . والسقاية والصواع واحد ، وجعلت في وعاء طعام بنيامين ، ثم ارتحلوا وأمهلهم يوسف حتى انطلقوا وذهبوا منزلا . وقيل : حتى خرجوا من العمارة ، ثم بعث خلفهم من استوقفهم وحبسهم . { ثم أذن مؤذن } ، نادى مناد ، { أيتها العير } ، وهي القافلة التي فيها الأحمال . قال مجاهد : كانت العير حميرا . وقال الفراء : كانوا أصحاب إبل . { إنكم لسارقون } ، قفوا . قبل : قالوه من غير أمر يوسف . وقيل : قالوه بأمره ، وكان هفوة منه . وقيل : قالوه على تأويل أنهم سرقوا يوسف من أبيه ، فلما انتهى إليهم الرسول ، قال لهم : ألم نكرم ضيافتكم ونحسن منزلتكم ونوفكم كيلكم ونفعل بكم ما لم نفعل بغيركم ؟ قالوا : بلى ، وما ذاك ؟ قالوا : سقاية الملك فقدناها ، ولا نتهم عليها غيركم ، فذلك قوله عز وجل : { قالوا وأقبلوا عليهم } .
{ فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ } أي : كال لكل واحد من إخوته ، ومن جملتهم أخوه هذا . { جَعَلَ السِّقَايَةَ } وهو : الإناء الذي يشرب به ، ويكال فيه { فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ } أوعوا متاعهم ، فلما انطلقوا ذاهبين ، { أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } ولعل هذا المؤذن ، لم يعلم بحقيقة الحال .
القول في تأويل قوله تعالى : { فَلَمّا جَهّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمّ أَذّنَ مُؤَذّنٌ أَيّتُهَا الْعِيرُ إِنّكُمْ لَسَارِقُونَ } .
يقول : ولما حمّل يوسف إبل إخوته ما حَملها من الميرة وقضى حاجتهم ، كما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فَلَمّا جَهّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ يقول : لما قضى لهم حاجتهم ووفاهم كيلهم .
وقوله : جَعَلَ السّقايَةَ في رَحْلِ أخِيهِ يقول : جعل الإناء الذي يكيل به الطعام في رحل أخيه . والسقاية : هي المشربة ، وهي الإناء الذي كان يشرب فيه الملك ويكيل به الطعام .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن بن محمد ، قال : حدثنا عفان ، قال : حدثنا عبد الواحد ، عن يونس ، عن الحسن أنه كان يقول : الصّواع والسقاية سواء ، هو الإناء الذي يشرب فيه .
قال : حدثنا شبابة ، قال : حدثنا ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : السقاية والصّواع شيء واحد ، كان يشرب فيه يوسف .
قال : أخبرنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قال : السقاية الصّواع الذي يشرب فيه يوسف .
حدثنا محمد بن الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : جَعَلَ السّقَايَةَ قال : مَشْرَبة الملك .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : السّقَايَةَ فِي رَحْلِ أخِيهِ وهو إناء الملك الذي كان يشرب فيه .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : قالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ المَلكِ ولِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وهي السقاية التي كان يشرب فيها الملك يعني مَكّوكه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قوله : جَعَلَ السّقَايَةَ وقوله : صُوَاعَ المَلِكِ قال : هما شيء واحد ، السقاية والصواع شيء واحد يشرب فيه يوسف .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : جَعَلَ السّقايَةَ فِي رَحْلِ أخِيهِ : هو الإناء الذي كان يشرب فيه الملك .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : جَعَلَ السّقَايَةَ فِي رَحْلِ أخِيهِ قال : السقاية : هو الصّواع ، وكان كأسا من ذهب فيما يذكرون .
قوله : فِي رَحْلِ أخِيهِ فإنه يعني : في متاع أخيه ابن أمه وأبيه وهو بنيامين ، وكذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : فِي رَحْلِ أخِيهِ : أي في متاع أخيه .
وقوله : ثُمّ أذّنَ مُؤَذّنٌ يقول : ثم نادى مناد ، وقيل : أعلم مُعْلِم ، أيّتُها العِيرُ : وهي القافلة فيها الأحمال إنّكُمْ لَسارِقُونَ .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السديّ : فَلَمّا جَهّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السّقَايَةَ فِي رَحْلِ أخِيهِ والأخ لا يشعر ، فلما ارتحلوا أذّن مؤذّن قبل أن ترتحل العير : إنّكُمْ لَسارِقُونَ .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثم جهزهم بجهازهم ، وأكرمهم وأعطاهم وأوفاهم ، وحمل لهم بعيرا بعيرا ، وحمل لأخيه بعيرا باسمه كما حمل لهم ، ثم أمر بسقاية الملك ، وهو الصواع ، وزعموا أنها كانت من فضة ، فجُعلت في رحل أخيه بنيامين . ثم أمهلهم حتى إذا انطلقوا وأمعنوا من القرية ، أمر بهم فأُدركوا ، فاحتُبِسوا ، ثم نادى مناد : أيّتُها العيرُ إنّكُمْ لَسارِقُونَ قفوا وانتهى إليهم رسوله ، فقال لهم فيما يذكرون : ألم نكرم ضيافتكم ، ونوفكم كيلكم ، ونحسن منزلتكم ، ونفعل بكم ما لم نفعل بغيركم ، وأدخلناكم علينا في بيوتنا ومنازلنا ؟ أو كما قال لهم ، قالوا : بلى ، وما ذاك ؟ قال : سِقاية الملك فقدناها ، ولا نتهم عليها غيركم . قالوا تالله لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الأرْضِ وَما كُنّا سارِقِينَ .
وقوله : أيّتُها العِيرُ قد بيّنا فيما مضى معنى العِير ، وهو جمع لا واحد له من لفظه . وحُكي عن مجاهد أن عِير بني يعقوب كانت حَمِيرا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن الزبير ، عن سفيان ، عن ابن جريج ، عن مجاهد : أيّتُها العِيرُ قال : كانت حميرا .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا سفيان ، قال : ثني رجل ، عن مجاهد ، في قوله : أيّتُها العِيرُ إنّكُمْ لسَارِقُونَ قال : كانت العِير حميرا .
فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ }
هذا من الكيد الذي يسره الله ليوسف عليه السلام ، وذلك أنه كان في دين يعقوب أن يستعبد السارق ، وكان في دين مصر أن يضرب ويضعف عليه الغرم ، فعلم يوسف أن إخوته - لثقتهم ببراءة ساحتهم - سيدعون في السرقة إلى حكمهم ؛ فتحيل لذلك ، واستسهل الأمر - على ما فيه من رمي أبرياء بالسرقة وإدخال الهم على يعقوب عليه السلام ، وعليهم - لما علم في ذلك من الصلاح في الأجل ، وبوحي لا محالة وإرادة من الله محنتهم بذلك ، - هذا تأويل قوم ، ويقويه . قوله تعالى : { كذلك كدنا ليوسف } [ يوسف : 76 ] وقيل : إنما أوحي إلى يوسف أن يجعل السقاية فقط ، ثم إن حافظها فقدها ، فنادى على ما ظهر إليه - ورجحه الطبري ؛ وتفتيش الأوعية يرد عليه . وقيل : إنهم لما كانوا قد باعوا يوسف استجاز أن يقال لهم هذا ، وإنه عوقب على ذلك بأن قالوا : «فقد سرق أخ له من قبل » وقوله : { جعل } أي بأمره خدمته وفتيانه .
وقرأ ابن مسعود «وجعل » بزيادة واو . { السقاية } : الإناء الذي به يشرب الملك وبه كان يكيل الطعام للناس ، هكذا نص جمهور المفسرين ابن عباس والحسن ومجاهد والضحاك وابن زيد .
قال القاضي أبو محمد : وفي كتب من حرر أمرها أنها شكل له رأسان ويصل بينهما مقبض تمسك الأيدي فيه فيكال الطعام بالرأس الواحد ويشرب بالرأس الثاني أو بهما . فيشبه أن تكون لشرب أضياف الملك وفي أطعمته الجميلة التي يحتاج فيها إلى عظيم الأواني .
فلما فصلت العير بأوفارها وخرجت من مصر - فيما روي وقالت فرقة بل قبل الخروج من مصر - أمر بهم فحبسوا . و { أذن مؤذن } و «مخاطبة العير » تجوز ، والمراد أربابها ، وإنما المراد : أيتها القافلة أو الرفقة ، وقال مجاهد : كانت دوابهم حميراً ، ووصفهم بالسرقة من حيث سرق في الظاهر أحدهم ، وهذا كما تقول : بنو فلان قتلوا فلاناً ، وإنما قتله أحدهم .