السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمۡ جَعَلَ ٱلسِّقَايَةَ فِي رَحۡلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا ٱلۡعِيرُ إِنَّكُمۡ لَسَٰرِقُونَ} (70)

ثم أنه ملأ لهم أوعيتهم كما أرادوا ، وكان في المرّة الأولى أبطأ في تجهيزهم في طول المدّة ليتعرّف أخبارهم من حيث لا يشعرون ، ولذلك لم يعطف بالفاء ، وأسرع في تجهيزهم في هذه المرّة قصداً إلى انفراده بأخيه من غير رقيب بالحيلة التي دبّرها فلذلك أتت الفاء في قوله : { فلما جهزهم } ، أي : اعجل جهازهم وأحسنه { بجهازهم جعل } بنفسه أو بمأذونه { السقاية } ، أي : المشربة التي كان يشرب بها { في رحل أخيه } ، أي : وعاء طعام أخيه بنيامين كما فعل ببضاعتهم في المرّة الأولى . قال ابن عباس : كانت من زبرجد . وقال ابن إسحاق : كانت من فضة وقيل : من ذهب . وقال عكرمة : كانت مشربة من فضة مرصعة بالجواهر ، وجعلها يوسف عليه السلام مكيالاً لئلا يكال بغيرها وكان يشرب فيها .

قال الرازي : هذا بعيد ؛ لأنّ الإناء الذي يشرب فيه الملك لا يصلح أن يجعل صاعاً ، وقيل : كانت الدواب تسقى بها ، قال : وهذا أيضاً بعيد ؛ لأنّ الآنية التي تسقى الدواب فيها لا تكون كذلك ، وقال : والأصوب أن يقال : كان ذلك الإناء شيئاً له قيمة أمّا إلى هذا الحد الذي ذكروه فلا ، والسقاية والصواع واحد ، ثم ارتحلوا وأمهلهم يوسف عليه السلام حتى انطلقوا وذهبوا منزلاً ، وقيل : حتى خرجوا من العمارة ثم بعث خلفهم من استوقفهم وحبسهم { ثم أذن } ، أي : أعلن فيهم بالنداء { مؤذن } قائلاً برفع صوته وإن كانوا في غاية القرب منه بما دل عليه إسقاط الأداة { أيتها العير } ، أي : القافلة ، قال أبو الهيثم : كل ما سير عليه من الإبل والحمير والبغال فهو عير . قال : وقول من قال العير الإبل خاصة باطل ، فقوله : { أيتها العير } ، أي : أصحاب العير كقوله : يا خيل الله اركبي . قال الفراء : كانوا أصحاب إبل . وقال مجاهد : كانت العير حميراً .

وقرأ ورش بإبدال همزة مؤذن واواً وقفاً ووصلاً ، وحمزة في الوقف فقط ، والباقون بالقصر . { إنكم لسارقون } فقفوا حتى ننظر الذي فقد لنا ، والسرقة أخذ ما ليس له أخذه في خفاء من حرز مثله . فإن قيل : هل كان هذا النداء بأمر يوسف عليه السلام أو ما كان بأمره ؟ فإن كان بأمره فكيف يليق بيوسف عليه السلام مع علو منصبه أن يبهت أقواماً وينسبهم إلى السرقة كذباً وبهتاناً ؟ وإن كان بغير أمره فهلا أظهر براءتهم عن تلك التهمة ؟ أجيب : بأجوبة :

الأوّل : أنه عليه السلام لما أظهر لأخيه أنه يوسف قال لست أفارقك قال : لا سبيل إلى ذلك إلا بتدبير حيلة أنسبك فيها إلى ما لا يليق بك . قال : رضيت بذلك ، وعلى هذا لم يتألم قلبه بسبب هذا الكلام ؛ لأنه قد رضي به فلا يكون ذلك ذنباً .

الثاني : { إنكم لسارقون } يوسف من أبيه إلا أنهم ما أظهروا هذا الكلام فهو من المعاريض ، وفي المعاريض مندوحة من الكذب .

الثالث : أنّ المنادي إنما ذكر النداء على سبيل الاستفهام وعلى هذا يخرج أن يكون كذباً .

الرابع : ليس في القرآن ما يدل على أنهم قالوا هذا بأمر يوسف عليه السلام . قال الرازي : والأقرب إلى ظاهر الحال أنهم فعلوا ذلك من أنفسهم ؛ لأنهم لما طلبوا السقاية فلم يجدوها ، ولم يكن هناك أحد غيرهم غلب على ظنهم أنهم الذين أخذوها .