الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمۡ جَعَلَ ٱلسِّقَايَةَ فِي رَحۡلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا ٱلۡعِيرُ إِنَّكُمۡ لَسَٰرِقُونَ} (70)

قوله تعالى : { جَعَلَ السِّقَايَةَ } : العامَّة على " جَعَل " دون زيادة واو قبلها . وقرأ عبد اللَّه " وجَعَلَ " ، وهي تحتمل وجهين ، أحدُهما : أنَّ الجوابَ محذوفٌ . والثاني : أن الواوَ مزيدةٌ في الجواب على رأيِ مَنْ يَرى ذلك ، وهم الكوفيون والأخفش . / وقال الشيخ : " وقرأ عبداللَّه فيما نقل الزمخشري " وجعل السِّقاية في رَحْل أخيه : أمهلهم حتى انطلقوا ثم أذَّن مؤذِّن " ، وفي نَقْل ابن عطية " وجعل " بزيادة واوٍ في " جَعَل " ، دون الزيادة التي زادها الزمخشري بعد قوله : { فِي رَحْلِ أَخِيهِ } ، فاحتمل أن تكونَ الواوُ زائدةً على مذهب الكوفيين ، واحتمل أن يكونَ جوابُ " لمَّا " محذوفاً تقديره : فَقَدها حافظُها ، كما قيل : إنما أوحيَ إلى يوسفَ أن يَجْعل السقاية فقط ، ثم إنَّ حافِظَها فَقَدَها فنادى برأيه فيما ظهر له ، ورجَّحه الطبري . وتفتيشُ الأوعية يَرُدُّ هذا القول " .

قلت : لم ينقلِ الزمخشري هذه الزيادةَ كلَّها قراءةً عن عبد اللَّه ، إنما جعل الزيادةَ المذكورةَ بعد قوله : " رَحْل أخيه " تقديرَ جوابٍ مِنْ عنده ، وهذا نصُّه : قال الزمخشري : " وقرأ ابن مسعود { وجَعَل السِّقاية } على حَذْفِ جواب " لمَّا " كأنه قيل : فلمَّا جَهَّزهم بجهَازهم وجعل السِّقاية في رَحْل أخيه أمهلهم حتى انطلقوا ثم أذَّن مؤذِّن " فهذا من الزمخشري إنما هو تقديرٌ لا تلاوةٌ منقولة عن عبد اللَّه ، ولعله وقع للشيخِ نسخةٌ سقيمة .

والسِّقاية : إناءٌ مستطيل يُسْقَى به وهو الصُّواع ، وللمفسرين فيه خلافٌ طويل .

قوله : { أَيَّتُهَا الْعِيرُ } منادَى حُذِفَ منه حرفُ النداء والعِيْر مؤنث ، ولذلك أتَتْ " أيّ " المُتَوَصَّلُ بها إلى ندائه . والعِيْر فيها قولان ، أحدهما : أنها في الأصلِ جماعةُ الإِبل سُمِّيَتْ بذلك لأنها تَعِيْر ، أي : تَذْهَبُ وتجيء به . والثاني : أنها في الأصل قافلة الحمير كأنها جمع عَيْر ، والعَيْر : والعَيْر : الحمار . قال :

2808 ولا يُقيم على ضَيْمٍ يُرادُ به *** إلا الأَذَلاَّن عَيْرُ الحَيِّ والوَتِدُ

والأصل : عَيْر وعُيْر بضم العين ثم فَعِل به ما فُعِل ب " بِيض " ، والأصل : بُيْض بضم الأول ، ثم أُطْلِقَ العِير على كل قافلة حميراً كنَّ أو غيرَها ، وعلى كل تقدير فنسبةُ النداء إليها على سبيل المجاز ، لأنَّ المنادى في الحقيقة أهلُها . ونَظَّره الزمخشري بقوله : " يا خيلَ اللَّهِ اركبي " ، إلا أنه في هذه الآية التفت إلى المضاف المحذوف في قوله : " إنكم لسارقون " ولم يَلْتفت إليه في " يا خيل اللَّه اركبي " ، ولو التفت لقال : اركبوا . ويجوزُ أن يُعَبَّر عن أهلها للمجاورة فلا يكونُ مِنْ مجازِ الحَذْف ، بل من مجازِ العَلاقة .

وتجمعه العرب قاطبةً ، على عَيَرات بفتح الياء ، وهذا ممَّا اتُّفِقَ على شذوذه ؛ لأن فِعْلَة المعتلةَ بالعين حقُّها في جمعها بالألف والتاء أن تُسَكَّن عينُها نحو : قِيمة وقِيْمات ودِيْمة ودِيْمات ، وكذلك فَعْل دون ياء إذا جُمِعَ حَقُّه أن تُسَكَّن عينُه . وقال امرؤ القيس :

2809 غَشِيْتُ ديارَ الحي بالبَكَرَاتِ *** فعارِمَةٍ فبُرْقَةِ العِيَراتِ

وقال الأعلم الشنتمري : " العِيَرات هنا : مواضع الأَعْيار وهي الحُمُر " قلت : وفي عِيَرات شذوذٌ آخرُ وهو جَمْعُها بالألف والتاء مع جَمْعِها على " أعْيار " أيضاً جمعَ تكسير ، وقد نَصُّوا على ذلك . قيل : ولذلك لُحِّن المتنبي في قوله :

2810 إذا كان بعضُ الناسِ سَيْفاً لدولةٍ *** ففي الناسِ بُوْقاتُ لهم وطبولُ

قالوا : فجمع بوقاً على بوقات مع تكسيرهم له على أبواق .