قوله تعالى : { قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها } ، بعد إذ أنقذنا الله منها .
قوله تعالى : { إلا أن يشاء الله ربنا } يقول إلا أن يكون قد سبق لنا في علم الله ومشيئته أنا نعود فيها ، فحينئذ يمضي قضاء الله فينا ، وينفذ حكمه علينا ، فإن قيل : ما معنى قوله : { أو لتعودن في ملتنا } ، { وما يكون لنا أن نعود فيها } ، ولم يكن شعيب قط على ملتهم حتى يصح قولهم ترجع إلى ملتنا ؟ قيل : معناه : أو لتدخلن في ملتنا ، فقال : وما كان لنا أن ندخل فيها ، وقيل : معناه إن صرنا في ملتكم ، ومعنى عاد صار . وقيل : أراد به قوم شعيب لأنهم كانوا كفاراً فآمنوا ، فأجاب شعيب عنهم .
قوله تعالى : { وسع ربنا كل شيء علما } ، أحاط علمه بكل شيء .
قوله تعالى : { على الله توكلنا } ، فيما توعدوننا فيه ، ثم عاد شعيب بعدما أيس من فلاحهم .
قوله تعالى : { ربنا افتح بيننا وبين قومنا } ، أي : اقض بيننا .
{ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا ْ } أي : اشهدوا علينا أننا إن عدنا إليها بعد ما نجانا اللّه منها وأنقذنا من شرها ، أننا كاذبون مفترون على اللّه الكذب ، فإننا نعلم أنه لا أعظم افتراء ممن جعل للّه شريكا ، وهو الواحد الأحد الفرد الصمد ، الذي لم يتخذ ولدا ولا صاحبة ، ولا شريكا في الملك .
{ وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا ْ } أي : يمتنع على مثلنا أن نعود فيها ، فإن هذا من المحال ، فآيسهم عليه الصلاة والسلام من كونه يوافقهم من وجوه متعددة ، من جهة أنهم كارهون لها مبغضون لما هم عليه من الشرك . ومن جهة أنه جعل ما هم عليه كذبا ، وأشهدهم أنه إن اتبعهم ومن معه فإنهم كاذبون .
ومنها : اعترافهم بمنة اللّه عليهم إذ أنقذهم اللّه منها .
ومنها : أن عودهم فيها - بعد ما هداهم اللّه - من المحالات ، بالنظر إلى حالتهم الراهنة ، وما في قلوبهم من تعظيم اللّه تعالى والاعتراف له بالعبودية ، وأنه الإله وحده الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له ، وأن آلهة المشركين أبطل الباطل ، وأمحل المحال . وحيث إن اللّه منَّ عليهم بعقول يعرفون بها الحق والباطل ، والهدى والضلال .
وأما من حيث النظر إلى مشيئة اللّه وإرادته النافذة في خلقه ، التي لا خروج لأحد عنها ، ولو تواترت الأسباب وتوافقت القوى ، فإنهم لا يحكمون على أنفسهم أنهم سيفعلون شيئا أو يتركونه ، ولهذا استثنى { وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا ْ } أي : فلا يمكننا ولا غيرنا ، الخروج عن مشيئته التابعة لعلمه وحكمته ، وقد { وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ْ } فيعلم ما يصلح للعباد وما يدبرهم عليه . { عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا ْ } أي : اعتمدنا أنه سيثبتنا على الصراط المستقيم ، وأن يعصمنا من جميع طرق الجحيم ، فإن من توكل على اللّه ، كفاه ، ويسر له أمر دينه ودنياه .
{ رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ ْ } أي : انصر المظلوم ، وصاحب الحق ، على الظالم المعاند للحق { وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ ْ } وفتحه تعالى لعباده نوعان : فتح العلم ، بتبيين الحق من الباطل ، والهدى من الضلال ، ومن هو من المستقيمين على الصراط ، ممن هو منحرف عنه .
والنوع الثاني : فتحه بالجزاء وإيقاع العقوبة على الظالمين ، والنجاة والإكرام للصالحين ، فسألوا اللّه أن يفتح بينهم وبين قومهم بالحق والعدل ، وأن يريهم من آياته وعبره ما يكون فاصلا بين الفريقين .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجّانَا اللّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نّعُودَ فِيهَآ إِلاّ أَن يَشَآءَ اللّهُ رَبّنَا وَسِعَ رَبّنَا كُلّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللّهِ تَوَكّلْنَا رَبّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ } . .
يقول جلّ ثناؤه : قال شعيب لقومه ، إذ دعوه إلى العود إلى ملتهم والدخول فيها ، وتوعدوه بطرده ومن اتبعه من قريتهم إن لم يفعل ذلك هو وهم : قَدِ افْتَرَيْنا على اللّهِ كَذِبا يقول : قد اختلقنا على الله كذبا ، وتخرّصنا عليه من القول باطلاً إن نحن عدنا في ملتكم ، فرجعنا فيها بعد إذ أنقذنا الله منها ، بأن بصّرنا خطأها وصواب الهدى الذي نحن عليه ، وما يكون لنا أن نرجع فيها فندينَ بها ونترك الحقّ الذي نحن عليه . إلا أنْ يَشاءَ اللّهُ رَبّنا : إلا أن يكون سبق لنا في علم الله أنا نعود فيها ، فيمضيَ فينا حينئذ قضاء الله ، فينفذ مشيئته علينا . وَسِعَ رَبّنا كُلّ شَيْءٍ عِلْما يقول : فإن علْمَ ربنا وسع كل شيء فأحاط به ، فلا يخفى عليه شيء كان ولا شيء هو كائن فإن يكن سبق لنا في علمه أنا نعود في ملتكم ولا يخفى عليه شيء كان ولا شيء هو كائن ، فلا بد من أن يكون ما قد سبق في علمه ، وإلا فإنا غير عائدين في ملتكم .
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : قَدِ افْتَريْنا على اللّهِ كَذِبا إنْ عُدْنا فِي مِلّتِكُمْ بَعْدَ إذْ نَجّانا اللّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أنْ نَعُودَ فِيها إلاّ أنْ يَشاءَ اللّهُ رَبّنا وَسِعَ رَبّنا كُلّ شَيْءٍ عِلْما على اللّهِ تَوَكّلْنا رَبّنا افْتَحْ بَيْنَنا وبينَ قَوْمِنا بالحَقّ يقول : ما ينبغي لنا أن نعود في شرككم بعد إذ نجانا الله منها إلا أن يشاء الله ربنا ، فالله لا يشاء الشرك ، ولكن يقول : إلا أن يكون الله قد علم شيئا ، فإنه وسع كلّ شيء علما .
وقوله : على اللّهِ تَوَكّلْنا يقول : على الله نعتمد في أمورنا وإليه نستند فيما تَعِدوننا به من شرككم أيها القوم ، فإنه الكافي من توكل عليه . ثم فزع صلوات الله عليه إلى ربه بالدعاء على قومه ، إذ أيس من فلاحهم ، وانقطع رجاؤه من إذعانهم لله بالطاعة والإقرار له بالرسالة ، وخاف على نفسه وعلى من اتبعه من مؤمني قومه من فَسَقِتهم العطب والهلكة بتعجيل النقمة ، فقال : رَبّنا افْتَحْ بَيْنَنا وبينَ قَوْمِنا بالحَقّ يقول : احكم بيننا وبينهم بحكمك الحقّ الذي لا جور فيه ولا حيف ولا ظلم ، ولكنه عدل وحقّ وأنْتَ خَيْرُ الفاتِحِينَ يعني : خير الحاكمين . ذكر الفراء أن أهل عمان يسمون القاضي : الفاتح والفتّاح . وذكر غيره من أهل العلم بكلام العرب أنه من لغة مراد ، وأنشد لبعضهم بيتا وهو :
ألا أبْلِغْ بَنِي عُصْمٍ رَسُولاً ***فإنّي عَنْ فُتاحَتِكُمْ غَنِيّ
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن مسعر ، عن قتادة ، عن ابن عباس ، قال : ما كنت أدري ما قوله : رَبّنا افْتَحْ بَيْنَنا وبينَ قَوْمِنا بالحَقّ حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول : تعال أُفاتِحْكَ ، يعني : أقاضيك .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : رَبّنا افْتَحْ بَيْنَنا وبينَ قَوْمِنا بالحَقّ يقول : اقض بيننا وبين قومنا .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو دكين ، قال : حدثنا مِسعر ، قال : سمعت قتادة يقول : قال ابن عباس : ما كنت أدري ما قوله : رَبّنا افْتَحْ بَيْنَنا وبينَ قَوْمِنا بالحَقّ حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول : تعال أفاتحك .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : افْتَحْ بَيْنَنا وبينَ قَوْمِنا بالحَقّ : أي اقض بيننا وبين قومنا بالحقّ .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، قال : حدثنا معمر ، عن قتادة : افْتَحْ بَيْنَنا وبينَ قَوْمِنا بالحَقّ : اقض بيننا وبين قومنا بالحقّ .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، أما قوله : افْتَحْ بَيْنَنا فيقول : احكم بيننا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال الحسن البصري : افتح : احكم بيننا وبين قومنا ، وإنّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحا مُبِينا : حكمنا لك حكما مبينا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : افتح : اقض .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد محمد بن عبد الله بن الزبير ، قال : حدثنا مسعر ، عن قتادة ، عن ابن عباس ، قال : لم أكن أدري ما افْتَحْ بَيْنَنا وبينَ قَوْمِنا بالحَقّ حتى سمعت ابنة ذي يِزن تقول لزوجها : انطلق أفاتحك .
{ قد افترينا على الله كذبا } قد اختلقنا عليه . { إن عدنا في ملّتكم بعد إذ نجانا الله منها } شرط جوابه محذوف دليله : { قد افترينا } وهو بمعنى المستقبل لأنه لم يقع لكنه جعل كالواقع للمبالغة ، وأدخل عليه قد لتقريبه من الحال أي قد اقتربنا الآن إن هممنا بالعود بعد الخلاص منها حيث نزعم أن لله تعالى ندا ، وأنه قد تبين لنا أن ما كنا عليه باطل وما أنتم عليه حق . وقيل إنه جواب قسم وتقديره : والله لقد افترينا . { وما يكون لنا } وما يصح لنا . { أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا } خذلاننا وارتدادنا ، وفيه دليل على أن الكفر بمشيئة الله . وقيل أراد به حسم طمعهم في العود بالتعليق على ما لا يكون . { وسع ربنا كل شيء علما } أي أحاط علمه بكل شيء مما كان وما يكون منا ومنكم . { على الله توكّلنا } في أن يثبتنا على الإيمان ويخلصنا من الأشرار . { ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق } احكم بيننا وبينهم ، والفتاح القاضي ، والفتاحة الحكومة . أو أظهر أمرنا حتى ينكشف ما بيننا وبينهم ويتميز المحق من المبطل من فتح المشكل إذا بينه . { وأنت خير الفاتحين } على المعنيين .
فصل جملة { قال . . } لوقوعها في سياق المحاورة .
والاستفهام مستعمل في التعجب تعجباً من قولهم : { أو لتعودن في ملّتنا } المؤذنِ ما فيه من المؤكّدات بأنّهم يُكرهونهم على المصير إلى ملّة الكفر ، وذلك التعجب تمهيد لبيان تصميمه ومن معه على الإيمان ، ليعلم قومه أنّه أحاط خبراً بما أرادُوا من تخييره والمؤمنين معه بين الأمرين : الإخراج أو الرجوع إلى ملّة الكفر ، شأنَ الخصم اللبيب الذي يأتي في جوابه بما لا يغادر شيئاً مما أراده خصمه في حوارِه ، وفي كلامه تعريض بحماقة خصومه إذ يحاولون حمله على ملّتهم بالإكراه ، مع أن شأن المُحقّ أن يشرك للحق سلطانه على النفوس ولا يتوكّأ على عصا الضّغط والإكراه ، ولذا قال الله تعالى : { لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغيّ } [ البقرة : 256 ] . فإن التزام الدين عن إكراه لا يأتي بالغرض المطلوب من التّديّن وهو تزكية النفس وتكثير جند الحق والصلاح المطلوب .
والكاره مشتق من كره الذي مصدره الكَرهُ بفتح الكاف وسكون الراء وهو ضد المحبة ، فكاره الشيء لا يدانيه إلاّ مغصوباً ويقال للغصب إكراه ، أي مُلجَئين ومغصوبين وتقدم في قوله تعالى : { كتب عليكم القتال وهو كُرهٌ لكم } في سورة البقرة ( 216 ) .
و ( لو ) وصلية تفيد أن شرطها هو أقصى الأحوال التي يحصل معها الفعل الذي في جوابها ، فيكون ما بعدها أحرى بالتعجب . فالتقدير : أتعيدوننا إلى ملّتكم ولو كنا كارهين . وقد تقدم تفصيل ( لو ) هذه عند قوله تعالى : { فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به } في سورة آل عمران ( 91 ) . وتقدم معنى الواو الداخلة عليها وأنها واو الحال .
واستأنف مرتقياً في الجواب ، فبيّن استحالة عودهم إلى ملّة الكفر بأن العود إليها يستلزم كذبَه فيما بلّغه عن الله تعالى من إرساله إليهم بالتوحيد فذلك كذب على الله عن عمد ، لأن الذي يرسله الله لا يرجع إلى الكفر ، ويستلزم كذب الذين آمنوا به على الله حيث أيقنوا بأن شعيباً مبعوث من الله بما دلهم على ذلك من الدلائل ، ولذلك جاء بضمير المتكلّم المشارك في كل من قوله : { افترينا } و { عدنا } و { نجانا } و { نعود } و { ربُنا } و { توكّلنا } .
والربط بين الشرط وجوابه ربط التّبيّن والانكشاف . لأنه لا يصح تعليق حصول الافتراء بالعود في ملة قومه ، فإن الافتراء المفروض بهذا المعنى سابق متحقق وإنّما يكشفه رجوعهم إلى ملّة قومهم ، أي إنْ يَقع عودنا في ملتكم فقد تبين أننا افترينا على الله كذباً ، فالماضي في قوله : { افترينا } ماض حقيقي كما يقتضيه دخول { قد } عليه ، وتقديمه على الشرط لأنه في الحالتين لا تقلبه ( إن ) للاستقبال ، أما الماضي الواقع شرطاً ل ( إن ) في قوله : { إن عدنا } فهو بمعنى المستقبل لأن ( إنْ ) تقلب الماضي للمستقبل عكس ( لم ) .
وقوله : { بعد إذ نجّانا الله منها } على هذا الوجه ، معناه : بعد إذ هدانا الله للدين الحق الذي اتبعناه بالوحي فنجانا من الكفر ، فذكر الإنجاء لدلالته على الإهداء والإعلان بأن مفارقة الكفر نجاة ، فيكون في الكلام إيجاز حذف أو كناية .
وهذه البعدية ليست قيداً ل { افترينا } ولا هي موجب كون العود في ملّتهم دالاً على كذبه في الرسالة ، بل هذه البعدية متعلقة ب { عُدْنَا } يقصد منها تفظيع هذا العود وتأييس الكافرين من عود شعيب وأتباعه إلى ملّة الكفر ، بخلاف حالهم الأولى قبلَ الإيمان فإنهم يوصفون بالكفر لا بالافتراء إذ لم يظهر لهم وجه الحق ، ولذلك عقبه بقوله : { وما يكون لنا أن نعود فيها } أي لأن ذلك لا يقصده العاقل فيلقي نفسه في الضلال والتعرض للعذاب .
وانتصاب { كذباً } على المفعولية المطلقة تأكيداً ل { افترينا } بما هو مساو له أو أعم منه ، وقد تقدم نظيره في قوله تعالى : { ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب } في سورة المائدة ( 103 ) .
وقد رَتّب على مقدمة لزوم الافتراء نتيجةَ تأييس قومه من أن يعود المؤمنون إلى ملّة الكفر بقوله : { وما يكون لنا أن نعود فيها } فنفي العود نفياً مؤكداً بلام الجحود وقد تقدم بيان تأكيد النفي بلام الجحود في قوله تعالى : { ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب } الخ في سورة آل عمران ( 79 ) .
وقوله : { إلاّ أن يشاء الله ربّنا } تأدب مع الله وتفويضُ أمره وأمرِ المؤمنين إليه ، أي : إلاّ أن يقدّر الله لنا العود في ملّتكم فإنّه لا يسأل عمّا يفعل ، فأمَا عود المؤمنين إلى الكفرِ فممكن في العقل حصوله وليس في الشرعِ استحَالته ، والارتداد وقع في طوائف من أمم .
وأمّا ارتداد شعيب بعد النبوءَةِ فهو مستحيل شرعاً لعصمة الله للأنبياء ، فلو شاء الله سلب العصمة عن أحد منهم لمَا ترتّب عليه محال عقلاً ، ولكنه غير ممكن شرعاً ، وقد علمتَ آنفاً عصمة الأنبياء من الشرك قبل النبوءة فعصمتهم منه بعد النبوءة بالأولى ، قال تعالى : { لئن أشركت ليحبطَن عملك } [ الزمر : 65 ] على أحد التأويلين .
وفي قول شعيب : { إلاّ أنْ يشاء الله ربّنا } تقييدُ عدم العود إلى الكفر بمشيئة الله ، وهو يستلزم تقييد الدوام على الإيمان بمشيئة الله ، لأن عدم العود إلى الكفر مساو للثبات على الإيمان ، وهو تقييد مقصود منه التأدب وتفويض العلم بالمستقبل إلى الله ، والكناية عن سؤال الدوام على الإيمان من الله تعالى كقوله : { ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا } [ آل عمران : 8 ] .
ومن هنا يستدل لقول الأشعري وجماعةٍ على رأسهم محمد بن عبدوس الفقيه المالكي الجليل أن المسلم يقول : أنا مؤمن إن شاء الله ، لأنّه لا يعلم ما يُختم له به ، ويضعف قول الماتريدي وطائفةٍ من علماء القيروان على رأسهم محمد بن سحنون أن المسلم لا يقول : أنا مؤمن إن شاء الله ، لأنّه متحقق أنه مؤمن فلا يقول كلمة تنبىء عن الشك في إيمانه .
وقد تطاير شرر الخلاف بين ابن عبدوس وأصحابه من جهة ، وابن سحنون وأصحابه من جهة ، في القيروان زماناً طويلاً ورمى كل فريق الفريق الآخر بما لا يليق بهما ، وكان أصحاب ابن سحنون يدْعون ابنَ عبدوس وأصحابَه الشكوكية وتلقفت العامة بالقيروان هذا الخلاف على غير فهم فربما اجْتروا على ابن عبدوس وأصحابه اجتراء وافتراء ، كما ذكره مفصلاً عياض في « المدارك » في ترجمة محمد بن سحنون ، وترجمة ابن النبّان ، والذي حقّقه الشيخ أبو محمد بن أبي زيد وعياض أن الخلاف لفظي : فإن كان يقول : إن شاء الله ، وسريرتُه في الإيمان مثلُ علانيته فلا بأس بذلك ، وإن كان شكاً فهو شك في الإيمان ، وليس ذلك ما يريده ابن عبدوس ، وقد قال المحققون : أن الخلاف بين الأشعري والماتريدي في هذه المسألة من الخلاف اللفظي ، كما حقّقه تاج الدين السبكي في « منظومته النونية » ، وتبعه تلميذه نور الدين الشيرازي في « شرحه » . ومما يجب التنبيه له أن الخلاف في المسألة إنما هو مفروض في صحّة قول المؤمن : أنا مؤمن إن شاء الله ، وأن قوله ذلك هل ينبىء عن شكه في إيمانه ، وليس الخلاف في أنّه يجب عليه أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله ، عند القائلين بذلك ، بدليل أنهم كثيراً ما يقابلون قول القائلين بالمشيئة بقول الآخرين : أنا مؤمن عند الله ، فرجعت المسألة إلى اختلاف النظر في حالة عقد القلب مع ما هو في علم الله من خاتمته ، وبذلك سهل إرجاع الخلاف إلى الخلاف اللفظي .
والإتيان بوصف الرب وإضافتُه إلى ضمير المتكلم المشارَك : إظهار لحضرة الإطلاق ، وتعريض بأن الله مولى الذين آمنوا .
والخلاف بيننا وبين المعتزلة في جواز مشيئة الله تعالى الكفرَ والمعاصي خلاف ناشىء عن الخلاف في تحقيق معنى المشيئة والإرادة ، ولكلا الفريقين اصطلاح في ذلك يخالف اصطلاح الآخر ، والمسألة طفيفة وإن هوّلها الفريقان ، واصطلاحنا أسعد بالشريعة وأقرب إلى اللغة ، والمسألة كلها من فروع مسألة التكليف وقدرة المكلف .
وقوله : { وسعَ ربنا كل شيء علْماً } تفويض لعلم الله ، أي إلاّ أن يشاء ذلك فهو أعلم بمراده منا ، وإعادة وصف الربوبية إظهار في مقام الإضمار لزيادة إظهار وصفه بالربوبية ، وتأكيد التعريض المتقدم ، حتى يصير كالتصريح .
وانتصب { علماً } على التمييز المحول عن الفاعل لقصد الإجمال ثم التفصيل للاهتمام .
وانتصب { كل شيء } على المفعول به ل { وَسعَ } ، أي : وسع علم ربنا كل شيء .
والسعة : مستعملة مجازاً في الإحاطة بكل شيء لأن الشيء الواسع يكون أكثر إحاطة .
وفي هذه المجادلة إدماج تعليم بعض صفات الله لأتْباعه وغيرهم على عادة الخطباء في انتهاز الفرصة .
ثم أخبر بأنه ومَن تبعه قد توكلوا على الله ، والتوكل : تفويض مباشرة صلاح المرء إلى غيره ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { فإذا عزمت فتوكل على الله } في آل عمران ( 159 ) ، وهذا تفويض يقتضي طلب الخير ، أي : رجونا أن لا يسلبنا الإيمان الحق ولا يفسد خلق عقولنا وقلوبنا فلا نفتن ونضل ، ورجونا أن يكفينا شر من يُضمر لنا شراً وذلك شر الكفرة المضمر لهم ، وهو الفتنة في الأهل بالإخراج ، وفي الدين بالإكراه على اتباع الكفر .
وتقديم الجار والمجرور على فعل { توكلنا } لإفادة الاختصاص تحقيقاً لمعنى التوحيد ونبذ غير الله ، ولمَا في قوله : { على الله توكلنا } من التفويض إليه في كفايتهم أمر أعدائهم ، صرح بما يزيد ذلك بقوله : { ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق } . وفسروا الفتح هنا بالقضاء والحكم ، وقالوا : هو لغة أزد عمان من اليمن ، أي احكم بيننا وبينهم ، وهي مأخوذة من الفتح بمعنى النصر لأن العرب كانوا لا يتحاكمون لغير السيف ، ويحسبون أن النصر حُكم الله للغالب على المغلوب .
وقوله : { وأنت خير الفاتحين } هو كقوله : { وهو خير الحاكمين } [ الأعراف : 87 ] ، أي وأنت خير الناصرين ، وخير الحاكمين هو أفضل أهل هذا الوصف ، وهو الذي يتحقق فيه كمال هذا الوصف فيما يقصد منه وفي فائدته بحيث لا يشتبه عليه الحق بالباطل ولا تروج عليه الترهات . والحكام مراتب كثيرة ، فتبين وجه التفضيل في قوله : { وهو خير الحاكمين } [ الأعراف : 87 ] وكذلك القياس في قوله : { خير الناصرين } [ آل عمران : 150 ] و { خير الماكرين } [ آل عمران : 54 ] وقد تقدم في سورة آل عمران ( 150 ) : { بل الله مولاكم وهو خير الناصرين . }