{ قَد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملّتكم بعد إذ نجانا الله منها } هذا إخباره مقيّد من حيث المعنى بالشرط وجواب الشرط محذوف من حيث الصناعة وتقديره { إن عدنا في ملتكم } فقد افترينا وليس قوله { قَد افترينا على الله كذباً } هو جواب الشرط إلا على مذهب من يجيز تقديم جواب الشرط على الشرط فيمكن أن يخرج هذا عليه وجوّزوا في هذه الجملة وجهين أحدهما أن يكون إخباراً مستأنفاً ، قال الزمخشري : فيه معنى التعجّب كأنهم قالوا ما أكذبنا على الله إن عدنا في الكفر بعد الإسلام لأنّ المرتدّ أبلغ في الافتراء من الكافر يعني الأصلي لأن الكافر مفتر على الله الكذب حيث يزعم أن لله ندّاً ولا ندّ له والمرتد مثله في ذلك وزائد عليه حيث يزعم أنه قد بيّن له ما خفي عليه من التمييز ما بين الحق والباطل .
وقال ابن عطية : الظاهر أنه خبر أي قد كنا نواقع أمراً عظيماً في الرجوع إلى الكفر ، والوجه الثاني أن يكون قسماً على تقدير حذف اللام أي والله لقد افترينا ذكره الزمخشري وأورده ابن عطية احتمالاً قال : ويحتمل أن يكون على جهة القسم الذي هو في صيغة الدّعاء مثل قول الشاعر :
بقيت وفري وانحرفت عن العلا *** ولقيت أضيافي بوجه عبوس
وكما تقول افتريت على الله أن كلمت فلاناً ولم ينشد ابن عطية البيت الذي يقيّد قوله بقيت وما بعده بالشرط وهو قوله :
إن لم أشن على ابن هند غارة *** لم تخلُ يوماً من نهاب نفوس
ولما كان أمر الدّين هو الأعظم عند المؤمن والمؤثر على أمر الدنيا لم يلتفتوا إلى الإخراج وإن كان أحد الأمرين هو الأعظم عند المؤمن والمؤثر على الكذب أقسم على وقوعه الكفار فقالوا قد افترينا على الله كذباً إن عدنا في ملّتكم وتقدّم تفسير العود بالصيرورة وتأويله إن كان في معنى الرجوع إلى ما كان الإنسان فيه بالنسبة إلى النبي المعصوم من الكبائر والصغائر .
{ وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا } أي وما ينبغي ولا يتهيّأ لنا { أن نعود } في ملّتكم { إلا أن يشاء الله ربّنا } فنعود فيها وهذا الاستثناء على سبيل عذق جميع الأمور بمشيئة الله وإرادته وتجويز العود من المؤمنين إلى ملتهم دون شعيب لعصمته بالنبوّة فجرى الاستثناء على سبيل تغليب حكم الجمع على الواحد وإن لم يكن ذلك الواحد داخلاً في حكم الجمع ، وقال ابن عطية : ويحتمل أن يريد استثناء ما يمكن أن يتعبّد الله به المؤمنين مما تفعله الكفرة من القربات فلما قال لهم إنا لا نعود في ملّتكم ثم خشي أن يتعبّد الله بشيء من أفعال الكفرة فيعارض ملحد بذلك ويقول هذه عودة إلى ملتنا استثنى مشيئة الله فيما يمكن أن يتعبّد به انتهى ، وهذا الاحتمال لا يصحّ لأن قوله { بعد إذ نجانا الله منها } إنما يعني النجاة من الكفرة والمعاصي لا من أعمال البرّ ، وقال ابن عطية : ويحتمل أن يريد بذلك معنى الاستبعاد كما تقول لا أفعل ذلك حتى يشيب الغراب وحتى يلج الجمل في سم الخياط وقد علم امتناع ذلك فهي إحالة على مستحيل وهذا تأويل حكاه المفسرون ولم يشعروا بما فيه انتهى ، وهذا تأويل إنما هو للمعتزلة مذهبهم أنّ الكفر والإيمان ليس بمشيئة من الله تعالى ، وقال الزمخشري : ( فإن قلت ) : وما معنى قوله { وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله } والله تعالى متعال أن يشاء ردة المؤمنين وعودهم في الكفر ، ( قلت ) : معناه إلا أن يشاء الله خذلاننا ومنعنا الإلطاف لعلمه تعالى أنها لا تنفع فينا ويكون عبثاً والعبث قبيح لا يفعله الحكيم والدليل عليه قوله { وسع ربنا كل شيء علماً } أي هو عالم بكل شيء مما كان ويكون وهو تعالى يعلم أحوال عباده كيف تتحوّل قلوبهم وكيف تنقلب وكيف تقسو بعد الرّقة وتمرض بعد الصحة وترجع إلى الكفر بعد الإيمان ويجوز أن يكون قوله { إلا أن يشاء الله } حسماً لطمعهم في العود لأن مشيئة الله تعالى بعودهم في الكفر محال خارج عن الحكمة انتهى وهذان التأويلان على مذهب المعتزلة ، وقيل : هذا الاستثناء إنما هو تسليم وتأدّب ، قال ابن عطية : وتعلق هذا التأويل من جهة استقبال الاستثناء ولو كان الكلام إن شاء قوى هذا التأويل انتهى وليس يقوي هذا التأويل لا فرق بين إلا أن يشاء وبين إلا أن شاء لأنّ إنّ تخلص الماضي للاستقبال كما تخلص أنْ المضارع للاستقبال وكلا الفعلين مستقبل وأبعد من ذهب إلى أن الضمير في { فيها } يعود على القرية لا على الملح .
{ وسع ربنا كل شيء علماً } تقدم تفسير نظيرها في الأنعام في قصة إبراهيم عليه السلام .
{ على الله توكلنا } أي في دفع ما توعدتمونا به وفي حمايتنا من الضلال وفي ذلك استسلام الله وتمسّك بلطفه وذلك يؤيد التأويل الأوّل في إلا أن يشاء الله ، وقال الزمخشري : يثبتنا على الإيمان ويوفقنا لازدياد الإيقان .
{ ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين } أي احكم والفاتح والفتاح القاضي بلغة حمير وقيل بلغة مراد ، وقال بعضهم :
ألا أبلغ بني عصم رسولا *** فإني عن فتاحتكم غني
وقال ابن عباس : ما كنت أعرف معنى هذه اللفظة حتى سمعت بنت ذي يزن تقول لزوجها تعال أفاتحْك أي أحاكمك ، وقال الفرّاء أهل عمان يسمون القاضي الفاتح ، وقال السدّي وابن بحر : احكم بيننا ، قال أبو إسحاق وجائز أن يكون المعنى أظهر أمرنا حتى ينفتح ما بيننا وبين قومنا وينكشف ذلك وذلك بأن ينزل بعدوّهم من العذاب ما يظهر به أنّ الحق معهم ، قال ابن عباس : كان كثير الصلاة ولما طال تمادى قومه في كفرهم ويئس من صلاحهم دعا عليهم فاستجاب دعاءه وأهلكهم بالرّجفة ، وقال الحسن : إنّ كل نبي أراد هلاك قومه أمره بالدعاء عليهم ثم استجاب له فأهلكهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.