غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{قَدِ ٱفۡتَرَيۡنَا عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا إِنۡ عُدۡنَا فِي مِلَّتِكُم بَعۡدَ إِذۡ نَجَّىٰنَا ٱللَّهُ مِنۡهَاۚ وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّنَاۚ وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيۡءٍ عِلۡمًاۚ عَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلۡنَاۚ رَبَّنَا ٱفۡتَحۡ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَ قَوۡمِنَا بِٱلۡحَقِّ وَأَنتَ خَيۡرُ ٱلۡفَٰتِحِينَ} (89)

85

ثم صرح بأنه لا يفعل ذلك فقال { قد افترينا على الله كذباً } إن فعلنا ذلك ، وذلك أن أصل الباب في النبوة والرسالة صدق اللهجة والبراءة عن الكذب والعود في ملتكم ينافي ذلك . ومعنى قوله { بعد إذ نجانا الله منها } بعد أن علمنا قبحه وفساده ونصب الأدلة على بطلانه ، أو المراد نجى قومه فغلب ، أو المراد على حسب زعمكم ومعتقدكم كما مر . قال في الكشاف : وقوله { قد افترينا } إخبار مقيد بالشرط وفيه وجهان : أحدهما : أن يكون كلاماً مستأنفاً فيه معنى التعجب كأنهم قالوا : ما أكذبنا على الله إن عدنا في الكفر بعد الإسلام ؛ لأن الارتداد أعظم من الكفر حيث إن المرتد يزعم أنه قد تبين له ما خفي عليه من التمييز بين الحق والباطل وكفره أزيد . والثاني أن يكون قسماً على تقدير حذف اللام معناه والله لقد افترينا على الله كذباً .

{ وما يكون لنا } أي ما ينبغي لنا وما يصح { أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا } قال أهل السنة : في الآية دلالة على أن المنجي من الكفر هو الله تعالى وكذا المعيد إليه قال الواحدي : ولم تزل الأنبياء والأكابر يخافون العاقبة وانقلاب الأمر ، ألا ترى إلى قول الخليل عليه السلام { واجنبني وبنيّ أن نعبد الأصنام } [ إبراهيم : 35 ] وكثيراً ما كان يقول نبينا صلى الله عليه وسلم : «يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك وطاعتك » وقال يوسف { توفني مسلماً } [ يوسف : 101 ] أجابت المعتزلة بوجوه :

الأوّل : أن قوله { إلا أن يشاء } قضية شرطية أي إن شاء يعد وليس فيه بيان أنه شاء أم أبى .

الثاني : أن هذا على طريق التبعيد والإحالة . كما يقال لا يفعل ذلك إلا إذا ابيض القار وشار الغراب .

الثالث : لعل المراد ما لو أكرهوا على العود فإن إظهار الكفر عند الإكراه جائز ، وإن كان الصبر أفضل ، وما كان جائزاً صح أن يكون مراد الله تعالى كما أن المسح على الخفين مراد الله وإن كان غسل الرجلين أفضل .

الرابع : يحتمل أن يعود الضمير في { فيها } إلى قرية . كأنه قال : إن أخرجتمونا من القرية حرم علينا العود فيها إلا بإذن الله تعال .

الخامس : المشيئة عند أهل السنة لا توجب جواز الفعل ، فإنه تعالى يريد الكفر من الكافر ولا يجوز فعله ، إنما الذي يوجب الجزواز هو الأمر فيحتمل أن يراد بالمشيئة هاهنا الأمر فيكون التقدير : إلا أن يأمر الله أن نعود إلى شريعتكم المنسوخة ، فإن الشرع المنسوخ لا يبعد أن يأمر الله تعالى بالعمل به مرة أخرى .

السادس : قال الجبائيّ : المراد من الملة الشريعة التي يجوز اختلاف التعبد فيها بالأوقات كالصوم والصلاة ، فمن الجائز أن يكون بعض أحكام الشريعة المنسوخة باقياً فيكون المعنى إلا أن يشاء الله إبقاء بعض تلك الملة فيدلنا عليها .

ثم إن المعتزلة تمسكوا بالآية على صحة قولهم من وجهين :

أحدهما : أن قوله { وما يكون لنا } معناه لو شاء الله عودنا إليها لكان لنا أن نعود وذلك يقتضي أن كل ما شاء تعالى وجوده كان فعلاً جائزاً مأذوناً فيه ، وما كان حراماً ممنوعاً منه لم يكن مراد الله تعالى .

وثانيهما : أن قوله { لنخرجنك } أو { لتعودن } لا وجه للفصل بينهما فإن كان العود بخلق الله كان الإخراج أيضاً بخلقه .

قلت : للسني أن يلتزم ذلك .

أما قوله { وسع ربنا كل شيء } فوجه تعلقه بما تقدمه على قول الجبائيّ هو أن التكليف بحسب المصالح فيكون معنى قول شعيب إلا أن يشاء الله إلا أن تختلف المصلحة في تلك العبادات فحينئذ يكلفنا بها والعلم بالمصالح لا يكون إلا بأن وسع كل شيء علماً . وقالت الأشاعرة : وجه التعلق هو أن القوم لمّا قالوا لنخرجنك أو لتعودن قال شعيب { وسع ربنا كل شيء علماً } فربما كان في علمه قسم ثالث : وهو أن يبقينا في القرية مؤمنين ويجعلكم مقهورين خاسرين ويؤكد هذا التفسير قوله عقيب ذلك { على الله توكلنا } أي لا على غيره .

وانتصاب { علماً } على التمييز . وفي قوله { وسع } بلفظ الماضي دلالة على أنه تعالى كان في الأزل عالماً بجميع المعلومات ، فلا يخرج عن شيء عن مقتضى علمه ، وهو معنى جفاف الأقلام وطي الصحف ولزوم الأحكام وسعادة السعيد وشقاوة الشقي . ويُعلَم من عموم كل شيء أنه علم الماضي والحال والمستقبل وعلم المعدوم أنه لو كان كيف يكون . فهذه أقسام أربعة يقع كل منها على أربعة أوجه لأنه علم الماضي كيف كان ، وعلم أنه لو لم يكن ماضياً بل كان حالاً أو مستقبلاً أو معدوماً محضاً فإنه كيف يكون ، وكذا الكلام في الأقسام الأخر فيكون المجموع ستة عشر . وإذا اعتبر كل منها بحب كل جنس أو نوع أو صنف أو شخص من الجواهر أو الأعراض صار مبلغاً تتحير فيه عقول العقلاء بل تقف دون أوّل قطرة من قطرات بحاره .

ثم إن شعيباً لما أعرض عن الأسباب وارتقى بطريق التوكل إلى مسببها ختم كلامه بالدعاء قائلاً { ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق } . قال ابن عباس والحسن وقتادة والسدي : احكم واقض . وعن ابن عباس : ما أدري ما معناه حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول لزوجها : تعالى أفاتحك أي أحاكمك . وجوز الزجاج أن يكون معنى الآية أظهر أمرنا حتى يتضح وينكشف ما بيننا وبين قومنا . والمراد أن ينزل عليهم عذاباً يدل على كونهم مبطلين وعلى كون شعيب وقومه محقين . ثم أثنى على الله بقوله { وأنت خير الفاتحين } كما قال { وهو خير الحاكمين } قالت الأشاعرة : الإيمان فتح باب الخيرات وهو أشرف صفات المحدثات ، فلو كان موجد الإيمان هو العبد كان خير الفاتحين هو العبد . وللمعتزلة أن يقولوا : لولا ألطافه المرجحة الداعية لم يوجد الإيمان من العبد فصح أن الله هو خير الفاتحين .

/خ93