فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{قَدِ ٱفۡتَرَيۡنَا عَلَى ٱللَّهِ كَذِبًا إِنۡ عُدۡنَا فِي مِلَّتِكُم بَعۡدَ إِذۡ نَجَّىٰنَا ٱللَّهُ مِنۡهَاۚ وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلَّآ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّنَاۚ وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيۡءٍ عِلۡمًاۚ عَلَى ٱللَّهِ تَوَكَّلۡنَاۚ رَبَّنَا ٱفۡتَحۡ بَيۡنَنَا وَبَيۡنَ قَوۡمِنَا بِٱلۡحَقِّ وَأَنتَ خَيۡرُ ٱلۡفَٰتِحِينَ} (89)

{ قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا وسع ربنا كل شيء علما على الله توكلنا ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين 89 } .

{ قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم } التي هي الشرك ، والجملة إخبار فيه معنى التعجب قاله الزمخشري ، كأنه قيل ما أكذبنا على الله إن عدنا في الكفر ، أو أنه جواب قسم محذوف ، والتقدير : والله لقد افترينا ، وجعله ابن عطية احتمالا .

{ بعد إذ نجانا الله منها } بالإيمان فلا يكون منا عود إليها أصلا .

{ وما يكون } أي ما يصح { لنا } ولا يستقيم ولا ينبغي { أن نعود فيها } بحال من الأحوال { إلا أن يشاء الله } أي إلا في حال ووقت مشيئة الله عودنا فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، قال الزجاج : أي إلا بمشيئة الله عز وجل ، قال وهذا قول أهل السنة ، والمعنى أنه لا يكون منا العود إلى الكفر إلا أن يشاء الله ذلك ، فالاستثناء منقطع ، وقيل إن الاستثناء هنا على جهة التسليم لله عز وجل كما في قوله وما توفيقي إلا بالله .

وقيل هو كقولهم لا أكلمك حتى يبيض الغراب وحتى يلج الجمل في سم الخياط ، والغراب لا يبيض والجمل لا يلج ، فهو من باب التعليق بالمحال ولم تزل الأنبياء والأكابر يخافون العاقبة وانقلاب الأمر ، ألا ترى إلى قول الخليل { واجنبني وبني أن نعبد الأصنام } وكان نبينا صلى الله عليه وآله وسلم كثيرا ما يقول : ( يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ) {[771]} وقيل المعنى وما يكون لنا أن نعود فيها أي القرية بعد أن كرهتم مجاورتنا لكم إلا أن يشاء الله عودنا إليها .

{ وسع ربنا كل شيء علما } أي أحاط علمه بكل المعلومات فلا يخرج عنه منها شيء { على الله توكلنا } أي عليه نعتمد وإليه نستند في أن يثبتنا على الإيمان ويحول بيننا وبين الكفر وأهله ويتم علينا نعمته ويعصمنا من نقمته .

{ ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين } إعراض عن مكالمتهم لما ظهر له من شدة عنادهم بحيث لا يتصور منهم الإيمان ، وإقبال على الله بالدعاء لفصل ما بينه وبينهم بما يليق بحال كل من الفريقين أي احكم بيننا بالحق ، والفتاحة بالضم الحكومة ، وحكمه سبحانه لا يكون إلا بنصر المحقين على المبطلين كما أخبرنا به في غير موضع من كتابه ، وكأنهم طلبوا نزول العذاب بالكافرين وحلول نقمة الله بهم .

قال الفراء : إن أهل عمان يسمون القاضي الفاتح والفتاح ، وقال غيره من أهل اللغة هي لغة مراد ، وهذا قول قتادة والسدي وابن جريح وجمهور المفسرين وقيل لغة حمير ، وقال الزجاج : المعنى أظهر أمرنا حتى ينفتح بيننا وبين قومنا وينكشف ، وعلى هذا افتح مجاز بمعنى أظهر وبين . ومنه فتح المشكل لبيانه وحله تشبيها له بفتح الباب وإزالة الإغلاق حتى يوصل إلى ما خلفه .


[771]:صحيح الجامع الصغير /7865.