{ وإنك لعلى خلق عظيم } قال ابن عباس ومجاهد : دين عظيم لا دين أحب إلي ولا أرضى عندي منه ، وهو دين الإسلام . وقال الحسن : هو آداب القرآن . سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : كان خلقه القرآن . وقال قتادة : هو ما كان يأتمر به من أمر الله وينتهي عنه من نهي الله ، والمعنى إنك لعلى الخلق الذي أمرك الله به في القرآن . وقيل : سمى الله خلقه عظيماً ، لأنه امتثل تأديب الله إياه بقوله : { خذ العفو }( الأعراف -199 ) الآية . وروينا عن جابر " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الله بعثني لتمام مكارم الأخلاق ، وتمام محاسن الأفعال " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا أحمد بن سعيد أبو عبد الله ، حدثنا إسحاق ابن منصور ، حدثنا إبراهيم بن يوسف ، عن أبيه عن أبي إسحاق قال : سمعت البراء يقول : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجهاً وأحسنهم خلقاً ليس بالطويل البائن ولا بالقصير " .
أخبرنا عبد الله بن عبد الصمد الجوزجاني ، أنبأنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعى ، أنبأنا أبو سعيد الهيثم بن كليب الشاشي ، حدثنا أبو عيسى الترمذي ، حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا جعفر بن سليمان الضبعي ، عن ثابت ، عن أنس بن مالك قال : " خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين ، فما قال لي أف قط ، وما قال لشيء صنعته : لم صنعته ؟ ولا لشيء تركته : لم تركته ؟ وكان النبي صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقاً ، ولا مسست خزاً قط ولا حريراً ولا شيئاً كان ألين من كف النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا شممت مسكاً ولا عطراً كان أطيب من عرق النبي صلى الله عليه وسلم " .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنبأنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي ، أنبأنا عبد الله محمد بن عبد الله الصفار ، حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى البرني ، حدثنا محمد بن كثير ، حدثنا سفيان الثوري ، عن الأعمش ، عن أبي وائل ، عن مسروق ، عن عبد الله بن عمرو قال : " إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً ، وكان يقول : خياركم أحاسنكم أخلاقا " .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنبأنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي ، أنبأنا أبو العباس الأصم ، حدثنا محمد بن هشام بن ملاس ، حدثنا مروان الفزاري ، حدثنا حميد الطويل ، عن أنس " أن امرأة عرضت لرسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق من طرق المدينة فقالت : يا رسول الله إن لي إليك حاجة فقال : يا أم فلان ، اجلسي في أي سكك المدينة شئت أجلس إليك ، قال : ففعلت فقعد إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى قضى حاجتها " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل قال : قال لي محمد بن عيسى ، حدثنا هشام ، أنبأنا حميد الطويل ، حدثنا أنس بن مالك قال : " إن كانت الأمة من إماء أهل المدينة لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أبو محمد عبد الرحمن بن أبي شريح ، أنبأنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي ، حدثنا علي بن الجعد ، أخبرنا عمران بن زيد التعلبي ، عن زيد بن العمي عن أنس بن مالك " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا صافح الرجل لم ينزع يده من يده حتى يكون هو الذي ينزع يده ، ولا يصرف وجهه عن وجهه حتى يكون هو الذي يصرف وجهه عن وجهه ، ولم ير مقدماً ركبتيه بين يدي جليس له " .
أخبرنا عبد الله بن عبد الصمد ، أنبأنا أبو القاسم الخزاعي ، أنبأنا الهثيم بن كليب ، حدثنا أبو عيسى ، حدثنا هرون بن إسحق الهمداني ، حدثنا عبدة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت : " ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده شيئاً قط إلا أن يجاهد في سبيل الله ، ولا ضرب خادماً ولا امرأة " .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، أنبأنا إسماعيل بن عبد الله ، حدثني مالك بن إسحاق عن عبد الله بن أبي طلحة ، عن أنس قال : " كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعليه برد نجراني غليظ الحاشية ، فأدركه أعرابي فجبذه بردائه جبذة شديدة ، ورجع النبي صلى الله عليه وسلم في نحر الأعرابي ، حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته ، ثم قال : يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك ، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ضحك ، ثم أمر له بعطاء " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان ، أنبأنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، حدثنا حميد بن زنجويه ، حدثنا علي المديني ، حدثنا ابن عيينة عن عمرو بن دينار ، عن ابن أبي مليكة ، عن يعلى بن مملك ، عن أم الدرداء تحدث عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن أثقل شيء يوضع في ميزان المؤمن يوم القيامة خلق حسن ، وإن الله تعالى يبغض الفاحش البذيء " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أبو منصور السمعاني ، أنبأنا أبو جعفر الرياني ، حدثنا حميد بن زنجويه ، حدثنا أبو نعيم ، حدثنا داود بن يزيد الأودي سمعت أبي يقول سمعت أبا هريرة يقول : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : أتدرون ما أكثر ما يدخل الناس النار ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : فإن أكثر ما يدخل الناس النار الأجوفان : الفرج والفم ، أتدرون ما أكثر ما يدخل الناس الجنة ؟ قالوا : الله ورسوله أعلم . قال : فإن أكثر ما يدخل الناس الجنة : تقوى الله وحسن الخلق " .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنبأنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي ، حدثنا أبو العباس الأصم ، حدثنا محمد بن عبد الحكم ، أنبأنا أبي وشعيب قالا : حدثنا الليث عن ابن الهاد عن عمرو بن أبي عمرو عن عبد المطلب بن عبد الله عن عائشة ، قالت : " سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة قائم الليل وصائم النهار " .
ولهذا قال : { وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } أي : عاليًا به ، مستعليًا بخلقك الذي من الله عليك به ، وحاصل خلقه العظيم ، ما فسرته به أم المؤمنين ، [ عائشة -رضي الله عنها- ] لمن سألها عنه ، فقالت : " كان خلقه القرآن " ، وذلك نحو قوله تعالى له : { خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ } { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ } [ الآية ] ، { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالمْؤُمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } وما أشبه ذلك من الآيات الدالات على اتصافه صلى الله عليه وسلم بمكارم الأخلاق ، [ والآيات ] الحاثات على الخلق العظيم{[1188]} فكان له منها أكملها وأجلها ، وهو في كل خصلة منها ، في الذروة العليا ، فكان صلى الله عليه وسلم سهلًا لينا ، قريبًا من الناس ، مجيبًا لدعوة من دعاه ، قاضيًا لحاجة من استقضاه ، جابرًا لقلب من سأله ، لا يحرمه ولا يرده خائبًا ، وإذا أراد أصحابه منه أمرًا وافقهم عليه ، وتابعهم فيه إذا لم يكن فيه محذور ، وإن عزم على أمر لم يستبد به دونهم ، بل يشاورهم ويؤامرهم ، وكان يقبل من محسنهم ، ويعفو عن مسيئهم ، ولم يكن يعاشر جليسًا له إلا أتمَّ عشرةٍ وأحسنَها ، فكان لا يعبس في وجهه ، ولا يغلظ عليه في مقاله ، ولا يطوي عنه بشره ، ولا يمسك عليه فلتات لسانه ، ولا يؤاخذه بما يصدر منه من جفوة ، بل يحسن إلى عشيره غاية الإحسان ، ويحتمله غاية الاحتمال صلى الله عليه وسلم .
فلما أنزله الله في أعلى المنازل من جميع الوجوه ، وكان أعداؤه ينسبون إليه أنه مجنون مفتون .
ثم أثنى - سبحانه - عليه بأجمل ثناء وأطيبه فقال : { وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } .
والخلق - كما يقول الإِمام الرازي - ملكة نفسانية ، يسهل على المتصف بها الإِتيان بالأفعال الجميلة . . . و . . .
والعظيم : الرفيع القدر ، الجليل الشأن ، السامى المنزلة .
أي : وإنك - أيها الرسول الكريم - لعل دين عظيم ، وعلى خلق كريم ، وعلى سلوك قويم ، في كل ما تأتيه وما تتركه من أقوال وأفعال . .
والتعبير بلفظ " على " يشعر بتمكنه صلى الله عليه وسلم ورسوخه في كل خلق كريم . وهذا أبلغ رد على أولئك الجاهلين الذين وصفوه بالجنون ، لأن الجنون سفه لا يحسن معه التصرف . أما الخلق العظيم ، فهو أرقى منازل الكمال ، في عظماء الرجال .
وإن القلم ليعجز عن بيان ما اشتملت عليه هذه الآية الكريمة ، من ثناء من الله - تعالى - على نبيه صلى الله عليه وسلم .
قال الإِمام ابن كثير عند تفسيره ، لهذه الآية ما ملخصه : قال قتادة : ذكر لنا أن سعد بن هشام سأل السيدة عائشة عن معنى هذه الآية ، فقالت : ألست تقرأ القرآن ؟ قال : بلى . قالت : فإن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن . .
ومعنى هذا ، أنه صلى الله عليه وسلم صار امتثال القرآن أمرا ونهيا ، سجية له وخلقا وطبعا ، فمهما أمره القرآن فعله ، ومهما نهاه عنه تركه ، هذا ما جبله الله عليه من الخلق الكريم ، كالحكمة ، والعفة ، والشجاعة ، والعدالة . .
وكيف لا يكون صلى الله عليه وسلم جماع كل خلق عظيم وهو القائل : " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " .