اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ} (4)

الصفة الثالثة : قوله : { وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } .

قال ابن عباس ومجاهدٌ : «على خُلقٍ » على دين عظيمٍ من الأديان ، ليس دين أحب إلى الله ، ولا أرضى عنده منه{[57528]} .

وروى مسلم عن عائشة : أن خلقه كان القرآن{[57529]} .

وقال علي - رضي الله عنه - : هو أدب القرآن{[57530]} .

وقيل : رفقه بأمته ، وإكرامه إياهم .

وقال قتادة : هو ما كان يأتمر به من أمر اللَّهِ ، وينتهي عنه مما نهى الله عنه{[57531]} .

وقيل : إنَّك على طبع كريم .

وقال الماوردي{[57532]} : حقِيقَةُ الخُلقِ في اللُّغةِ ما يأخذُ بِهِ الإنسانُ في نفْسِهِ من الأدبِ يُسَمَّى خُلُقاً ، لأنَّه يصير كالخلقة فيه ، فأما ما طُبع عليه من الأدبِ فهو الخِيمُ ، فيكون الخلق : الطبع المتكلف ، والخِيم : الطبع الغريزي .

قال القرطبي{[57533]} : «ما ذكره مسلم{[57534]} في صحيحه عن عائشة أصح الأقوالِ ، وسئلت أيضاً عن خلقه - عليه الصلاة والسلام - فقرأت { قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون } [ المؤمنون : 1 ] إلى عشر آياتٍ »{[57535]} .

قال ابن الخطيب{[57536]} : وهذا إشارة إلى أن نفسه القدسية كانت بالطبع منجذبة إلى عالم الغيبِ وإلى كل ما يتعلق بها ، وكانت شديدة النفرة من اللذات البدنية ، والسعادات الدنيوية ، بالطبع ومقتضى الفطرة ، وقالت : مَا كَانَ أحدٌ أحْسنَ خُلُقاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما دعاه أحدٌ من الصحابة ولا من أهل بيته إلا قال : لبيك ، ولذلك قال الله تعالى { وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } ولم يذكر خلق محمود إلا وكان للنبي الحظ الأوفر .

وقال الجنيد : سمى خلقه عظيماً لاجتماع مكارم الأخلاق فيه ، بدليل قوله - عليه الصلاة والسلام - : «إنَّ اللَّه بَعَثنِي لأتمِّمَ مكارِمَ الأخْلاق »{[57537]} .

فصل :

قال ابن الخطيب{[57538]} : قوله : { وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } كالتفسير لما تقدم من قوله تعالى : { بِنِعْمَةِ رَبِّكَ } وتعريف لمن رماه بالجنون بأن ذلك كذب وخطأ ؛ لأن الأخلاق الحميدة والأفعال المرضية كانت ظاهرة منه ، وإذا كان موصوفاً بتلك الأخلاق والأفعال ، لم يجز إضافة الجنون إليه ؛ لأن أخلاق المجانين سيئة ، ولما كانت أخلاقه الحميدة صلى الله عليه وسلم كاملة ، لا جرم وصفها الله بأنها عظيمة ، ولهذا قال :{ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَا مِنَ المتكلفين }[ ص : 86 ] أي : لست مكلفاً فيما يظهر لكم من الأخلاق ، لأنه تعالى قال : { أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده }[ الأنعام : 90 ] فهذا الهدي الذي أمر الله محمداً صلى الله عليه وسلم بالاقتداءِ به ليس هو معرفة الله تعالى ؛ لأن ذلك تقليداً ، وهو غير لائق بالرسول صلى الله عليه وسلم ، وليس هو الشرائع ؛ لأن شريعته كشرائعهم ، فتعين أن يكون المراد منه أمره صلى الله عليه وسلم بأن يقتدي بكل واحد من الأنبياء فيما اختص به من الخلقِ الكريمِ ، وكان كل واحد منهم مختصاً بنوع واحدٍ ، فلما أمر محمداً صلى الله عليه وسلم بأن يقتدي بالكل ، فكأنه أمر بمجموع ما كان متفرقاً فيهم ، ولما كان ذلك درجة عالية لم تتيسر لأحدٍ من الأنبياء قبله - لا جرم - وصف الله خلقه بأنه عظيم ، وكلمة «عَلَى » للاستعلاءِ فدل اللفظ على أنه مستعل على هذه الأخلاقِ ، ومستول عليها ، وأنه بالنسبة إلى هذه الأخلاق الحميدة كالمولى بالنسبة إلى العبد ، وكالأمير بالنسبة إلى المأمور .

وقد ورد أحاديث كثيرةٌ صحيحةٌ في مدح الخلق الحسن ، وذم الخلق السيئ .


[57528]:أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/179) عن ابن عباس ومجاهد وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/390) عن ابن عباس وزاد نسبته إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
[57529]:تقدم.
[57530]:ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (6/390) عن عطية العوفي وعزاه إلى ابن المبارك وعبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي في "الدلائل". وقد أخرجه الطبري في "تفسيره" (12/180).
[57531]:ذكره القرطبي في "تفسيره" (18/148).
[57532]:ينظر النكت والعيوب 6/61.
[57533]:ينظر مسلم 2/512-513 في صلاة المسافرين (139-746).
[57534]:ينظر: الجامع لأحكام القرآن 18/149.
[57535]:أخرجه النسائي في "الكبرى" (6/412) والحاكم (2/392) عن يزيد بن بابنوس قال: قلنا لعائشة: كيف كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرته. وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
[57536]:ينظر الفخر الرازي 30/72.
[57537]:أخرجه أحمد (2/398) والبخاري في "الأدب المفرد" (273) والحاكم (2/613) والبيهقي(10/191، 194) والقضاعي في "مسند الشهاب" (1165) من طريق القعقاع بن حكيم عن أبي صالح عن أبي هريرة إلا أن أحمد قال: "صالح الأخلاق". ورواه مالك في "الموطأ" (2/211) بلاغا عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[57538]:ينظر: الفخر الرازي 30/71.