لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن - الخازن  
{وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ} (4)

ثم وصفه بما يخالف حال المجنون فقال تعالى : { وإنك لعلى خلق عظيم } وهذا كالتفسير لقوله : { ما أنت بنعمة ربك بمجنون } لأن الأخلاق الحميدة والأفعال المرضية كانت ظاهرة عليه ، ومن كان كذلك لم تجز إضافة الجنون إليه . ولما كانت أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم كاملة حميدة ، وأفعاله المرضية الجميلة وافرة ، وصفها الله تعالى بأنها عظيمة ، وحقيقة الخلق قوى نفسانية يسهل على المتصف بها الإتيان بالأفعال الحميدة والآداب المرضية ، فيصير ذلك كالخلقة في صاحبه ، ويدخل في حسن الخلق التحرز من الشح والبخل ، والتشديد في المعاملات ، ويستعمل في حسن الخلق التحبب إلى الناس بالقول والفعل ، والبذل وحسن الأدب ، والمعاشرة بالمعروف مع الأقارب والأجانب ، والتساهل في جميع الأمور ، والتسامح بما يلزم من الحقوق ، وترك التقاطع والتهاجر ، واحتمال الأذى من الأعلى والأدنى ، مع طلاقة الوجه وإدامة البشر ، فهذه الخصال تجمع جميع محاسن الأخلاق ومكارم الأفعال . ولقد كان جميع ذلك في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولهذا وصفه الله تعالى بقوله : { وإنك لعلى خلق عظيم } ، وقال ابن عباس معناه على دين عظيم ، لا دين أحب إليّ ولا أرضى عندي منه وهو دين الإسلام . وقال الحسن هو آداب القرآن ، سئلت عائشة رضي الله عها عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : كان خلقه القرآن ، وقال قتادة هو ما كان يأتمر من أوامر الله وينتهي عنه من مناهي الله تعالى ، والمعنى وإنك لعلى الخلق الذي أمرك الله به في القرآن . وقيل سمى الله خلقه عظيماً لأنه امتثل تأديب الله إياه بقوله : { خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين } والله سبحانه وتعالى أعلم .

( فصل : في فضل حسن الخلق وما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم )

من ذلك ما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «إن الله بعثني لتمام مكارم الأخلاق وتمام محاسن الأفعال » ( م ) عن النواس بن سمعان قال «سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البر والإثم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : البر حسن الخلق ، والإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس » ، عن عائشة رضي الله عنها قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم » أخرجه أبو داود وعنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن من أكمل الناس إيماناً أحسنهم خلقاً وألطفهم بأهله » أخرجه الترمذي وقال حديث حسن .

عن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن ، وإن الله تعالى يبغض الفاحش البذيء » أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح ، وله عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال «إن من أحبكم إلى الله وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً » ، ( ق ) عن البراء رضي الله عنه قال «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجهاً وأحسنهم خلقاً ، ليس بالطويل ولا بالقصير » ( ق ) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً » وكان يقول «خياركم أحاسنكم أخلاقاً » ( ق ) عن أنس رضي الله عنه قال «خدمت النبي صلى الله عليه وسلم عشر سنين والله ما قال لي أف قط ولا قال لشيء لم فعلت كذا وهلا فعلت كذا » زاد الترمذي «وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقاً ، وما مسست خزاً قط ولا حريراً ولا شيئاً كان ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا شممت مسكاً قط ولا عطراً كان أطيب من عرق رسول الله صلى الله عليه وسلم » ، ( خ ) عنه قال «إن كانت الأمة لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت » زاد في رواية " ويجيب إذا دعي " وعنه قال " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استقبله الرجل فصافحه لا ينزع يده من يده حتى يكون الرجل ينزع يده ، ولا يصرف وجهه حتى يكون الرجل هو الذي يصرفه ، ولم ير مقدماً ركبتيه بين يدي جليس له " أخرجه الترمذي ، ( ق ) عن عائشة رضي الله عنها قالت " ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً ، فإن كان إثماً كان أبعد الناس منه ، وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قط ، إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم " ، زاد مسلم عنها " وما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قط بيده ولا امرأة ولا خادماً إلا أن يجاهد في سبيل الله تعالى " ( ق ) " عن أنس قال " كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية ، فأدركه أعرابي فجبذه جبذة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثرت بها حاشية البرد من شدة جبذته ، ثم قال يا محمد مر لي من مال الله الذي عندك ، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وضحك ، وأمر له بعطاء " ، ( ق ) عنه رضي الله عنه قال " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً وكان لي أخ يقال له أبو عمير وكان فطيماً ، كان إذا جاءنا قال يا أبا عمير ما فعل النغير ، لنغير كان يلعب به " النغير طائر صغير يشبه العصفور إلا أنه أحمر المنقار ( م ) " عن الأسود قال " سألت عائشة ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل في بيته ؟ قالت : كان يكون في مهنة أهله ، فإذا حضرت الصلاة يتوضأ ويخرج إلى الصلاة " المهنة الخدمة . عن عبد الله بن الحارث بن جزء قال " ما رأيت أحداً أكثر تبسماً من رسول الله صلى الله عليه وسلم " أخرجه الترمذي .