قوله تعالى : { واخفض لهما جناح الذل } ، أي ألن جانبك لهما واخضع . قال عروة بن الزبير لن لهما حتى لا تمتنع عن شيء أحباه { من الرحمة } ، من الشفقة ، { وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً } ، أراد : إذا كانا مسلمين . قال ابن عباس : هذا منسوخ بقوله : { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين } { التوبة – 13 } .
أخبرنا عبد الواحد المليحي أنبأنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان أنبأنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني ، حدثنا حميد بن زنجويه ، حدثنا سليمان بن حرب ، حدثنا حماد بن يزيد عن عطاء بن السائب ، عن أبي عبد الرحمن - يعني السلمي - عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الوالد أوسط أبواب الجنة فحافظ إن شئت أو ضيع " .
أخبرنا أبو طاهر محمد بن علي الزراد ، أنبأنا أبو بكر محمد بن إدريس الجرجاني ، أنبأنا أبو الحسن علي بن الحسين الماليني ، أنبأنا الحسن بن سفيان ، حدثنا يحيى بن حبيب بن عدي ، حدثنا خالد بن الحارس ، عن سعيد ، عن يعلي بن عطاء عن أبيه عن عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " رضا الله في رضا الوالد ، وسخط الله في سخط الوالد " .
أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ، أنبأنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي ، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الصفار ، حدثنا أبو جعفر محمد بن غالب بن تمام الضبي ، حدثنا عبد الله بن مسلمة ، حدثنا عبد العزيز بن مسلم عن يزيد بن أبي زياد عن مجاهد عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يدخل الجنة منان ، ولا عاق ، ولا مدمن خمر " .
أخبرنا الإمام أبو علي الحسين بن محمد القاضي ، أنبأنا أبو محمد عبد الله بن يوسف بن محمد بن بامويه الأصفهاني ، أنبأنا أبو سعيد أحمد بن زياد البصري ، أنبأنا الحسن بن محمد بن الصباح ، حدثنا ربعي بن علية ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي ، ورغم أنف رجل أتى عليه شهر رمضان فلم يغفر له ، ورغم أنف رجل أدرك أبويه الكبر فلم يدخلاه الجنة " .
{ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ } أي : تواضع لهما ذلا لهما ورحمة واحتسابا للأجر لا لأجل الخوف منهما أو الرجاء لما لهما ، ونحو ذلك من المقاصد التي لا يؤجر عليها العبد .
{ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا } أي : ادع لهما بالرحمة أحياء وأمواتا ، جزاء على تربيتهما إياك صغيرا .
وفهم من هذا أنه كلما ازدادت التربية ازداد الحق ، وكذلك من تولى تربية الإنسان في دينه ودنياه تربية صالحة غير الأبوين فإن له على من رباه حق التربية .
وقوله : { واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة . . } زيادة فى تبجيلهما والتلطف معهما فى القول والفعل والمعاملة على اختلاف ألوانها .
أى : وبجانب القول الكريم الذى يجب أن تقوله لهما ، عليك أن تكون متواضعا معهما ، متلطفا فى معاشرتهما ، لا ترفع فيهما عينا ، ولا ترفض لهما قولا ، مع الرحمة التامة بهما ، والشفقة التى لا نهاية لها عليهما .
قال الإِمام الرازى ما ملخصه : وقوله : { واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة } المقصود منه المبالغة فى التواضع .
وذكر القفال فى تقريره وجهين : الأول : أن الطائر إذا أراد ضم فرخه إليه للتربية خفض له جناحه ، ولهذا السبب صار خفض الجناح كناية عن حسن التربية . فكأنه قال للولد : اكفل والديك بأن تضمهما إلى نفسك كما فعلا ذلك بك فى حال صغرك .
والثانى : أن الطائر إذا أراد الطيران والارتفاع نشر جناحه ، وإذا أراد ترك الطيران وترك الارتفاع خفض جناحه . فصار خفض الجناح كناية عن التواضع .
وإضافة الجناح إلى الذل إضافة بيانية ، أى : اخفض لهما جناحك الذليل و { من } فى قوله { من الرحمة } ابتدائية . أى تواضع لهما تواضعا ناشئا من فرط رحمتك عليهما .
قال الآلوسى : وإنما احتاجا إلى ذلك ، لافتقارهما إلى من كان أفقر الخلق إليهما ، واحتياج المرء إلى من كان محتاجا إليه أدعى إلى الرحمة ، كما قال الشاعر :
يامن أتى يسألنى عن فاقتى . . . ما حال من يسأل من سائله ؟
ماذلة السلطان إلا إذا . . . أصبح محتاجا إلى عامله
وقوله : { وَقُل رَّبِّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً } تذكير للإنسان بحال ضعفه وطفولته ، وحاجته إلى الرعاية والحنان .
أى : وقل فى الدعاء لهما : يارب ارحمهما برحمتك الواسعة ، واشملهما بمغفرتك الغامرة ، جزاء ما بذلا من رعاية لى فى صغرى ، فأنت القادر على مثوبتهما ومكافأتهما .
قال الجمل : والكاف فى قوله { كما ربيانى . . } فيها قولان : أحدهما أنها نعت لمصدر محذوف .
أى : ارحمهما رحمة مثل رحمتهما لى ، والثانى أنها للتعليل . أى : ارحمهما لأجل تربيتهما لى ، كما فى قوله { واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ }
{ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ } أي : تواضع لهما بفعلك { وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا } أي : في كبرهما وعند وفاتهما { كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا }
قال ابن عباس : ثم أنزل الله [ تعالى ]{[17387]} : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى } [ التوبة : 113 ] .
وقد جاء في بر الوالدين أحاديث كثيرة ، منها الحديث المروي من طرق عن أنس وغيره : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما صعد المنبر قال : " آمين آمين آمين " : فقالوا : يا رسول الله ، علام أمنت ؟ قال : " أتاني جبريل فقال : يا محمد رغم أنف امرئ ذكرت عنده فلم يصل عليك ، فقل : آمين . فقلت : آمين . ثم قال : رغم أنف امرئ دخل عليه شهر رمضان ثم خرج ولم يغفر له ، قل : آمين . فقلت آمين . ثم قال : رغم أنف امرئ أدرك أبويه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة ، قل : آمين . فقلت : آمين " {[17388]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا هُشَيْم ، حدثنا علي بن زيد ، أخبرنا زُرَارَة بن أَوْفَى ، عن مالك بن الحارث - رجل منهم - أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " من ضَمَّ يتيمًا بين أبوين مسلمين إلى طعامه وشرابه حتى يستغني عنه ، وجبت له الجنة البتة ، ومن أعتق امرأ{[17389]} مسلمًا كان فَكَاكه من النار ، يجزى بكل عضو منه عضوًا منه " .
ثم قال : حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، سمعت علي بن زيد - فذكر معناه ، إلا أنه قال : عن رجل من قومه يقال له : مالك أو ابن مالك ، وزاد : " ومن أدرك والديه أو أحدهما فدخل النار ، فأبعده الله " {[17390]} .
حديث آخر : وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة ، أخبرنا علي بن زيد ، عن زرارة بن أوفى{[17391]} عن مالك بن عمرو القشيري : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " من أعتق رقبة مسلمة فهي فداؤه من النار ، مكان كل عَظْم من عظامه مُحَرّره بعظم من عظامه ، ومن أدرك أحد والديه ثم لم يغفر له فأبعده الله عز وجل ، ومن ضم يتيمًا بين{[17392]} أبوين مسلمين إلى طعامه وشرابه حتى يغنيه الله ، وجبت له الجنة " {[17393]} .
حديث آخر : وقال الإمام أحمد : حدثنا حجاج ومحمد بن جعفر قالا حدثنا شعبة ، عن قتادة سمعت زرارة بن أوفى{[17394]} يحدث عن أبي بن مالك القشيري قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " من أدرك والديه أو أحدهما ثم دخل النار من بعد ذلك ، فأبعده الله وأسحقه " .
ورواه أبو داود الطيالسي ، عن شعبة به{[17395]} وفيه زيادات أخر .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا أبو عوانة ، حدثنا سهيل{[17396]} بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " رغم أنف ، ثم رغم أنف ، ثم رغم أنف رجل أدرك والديه أحدهما أو كلاهما عند الكبر ولم يدخل الجنة " .
صحيح من هذا الوجه ، ولم يخرجه سوى مسلم ، من حديث أبي عوانة وجرير وسليمان بن بلال ، عن سهيل ، به{[17397]} .
حديث آخر : وقال الإمام أحمد : حدثنا رِبعيّ بن إبراهيم - قال أحمد : وهو أخو إسماعيل بن عُلَيَّة ، وكان يفضل على أخيه - عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن سعيد بن أبي سعيد ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل عليّ ! ورغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان ، فانسلخ قبل يغفر له ! ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه{[17398]} الكبر فلم يدخلاه الجنة " قال ربعي : لا أعلمه{[17399]} إلا قال : " أحدهما " .
ورواه الترمذي ، عن أحمد بن إبراهيم الدَّوْرَقِي ، عن ربعي بن إبراهيم ، ثم قال : غريب من هذا الوجه{[17400]} .
حديث آخر : وقال{[17401]} الإمام أحمد : حدثنا يونس بن محمد ، حدثنا عبد الرحمن بن الغَسِيل ، حدثنا أسيد بن علي ، عن أبيه ، علي بن عبيد ، عن أبي أسيد وهو مالك بن ربيعة الساعدي ، قال : بينما أنا جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جاءه رجل من الأنصار فقال : يا رسول الله ، هل بقي عليّ من برّ أبويّ شيء بعد موتهما أبرهما به ؟ قال : " نعم ، خصال أربع : الصلاة عليهما ، والاستغفار لهما ، وإنفاذ عهدهما ، وإكرام صديقهما ، وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قبلهما ، فهو الذي بقي عليك بعد موتهما من برهما " {[17402]} .
ورواه أبو داود وابن ماجه ، من حديث عبد الرحمن بن سليمان - وهو ابن الغسيل - به{[17403]} .
حديث آخر : وقال الإمام أحمد : حدثنا روح ، حدثنا ابن جريج ، أخبرني محمد بن طلحة بن عبد الله{[17404]} بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن معاوية بن جاهمة السلمي ؛ أن جاهمة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، أردت الغزو ، وجئتك أستشيرك ؟ فقال : " فهل لك من أم ؟ " قال{[17405]} .
نعم . فقال : " الزمها . فإن الجنة عند رجليها{[17406]} ثم الثانية ، ثم الثالثة في مقاعد شتى ، كمثل هذا القول .
ورواه النسائي وابن ماجه ، من حديث ابن جريج ، به{[17407]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا خلف بن الوليد ، حدثنا ابن عياش ، عن بَحِير بن سعد ، عن خالد بن معدان ، عن المقدام بن معد يكرب{[17408]} الكندي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله يوصيكم بآبائكم ، إن الله يوصيكم بأمهاتكم ، إن الله يوصيكم بأمهاتكم ، إن الله يوصيكم بأمهاتكم ، إن الله يوصيكم بالأقرب فالأقرب " .
وقد أخرجه ابن ماجه ، من حديث [ عبد الله ]{[17409]} بن عياش ، به{[17410]} .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يونس ، حدثنا أبو عَوَانة ، عن الأشعث بن سليم ، عن أبيه ، عن رجل من بني يربوع قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته وهو يكلم الناس يقول : " يد المعطي [ العليا ]{[17411]} أمك وأباك وأختك وأخاك ، ثم أدناك أدناك " {[17412]} .
حديث آخر : قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزار في مسنده : حدثنا إبراهيم ابن المستمر العُرُوقي ، حدثنا عمرو بن سفيان ، حدثنا الحسن بن أبي جعفر ، عن ليث بن أبي سليم ، عن علقمة بن مرثد{[17413]} عن سليمان بن بُرَيدة ، عن أبيه ؛ أن رجلا كان في الطواف حاملا أمه يطوف بها ، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم : هل{[17414]} أديت حقها ؟ قال : " لا ولا بزفرة واحدة " أو كما قال . ثم قال البزار : لا نعلمه يروى إلا من هذا الوجه{[17415]} .
{ واخفض لهما جناح الذّل } تذلل لهما وتواضع فيهما ، وجعل للذل جناحا كما جعل لبيد في قوله :
وغداة ريحٍ قد كشفت وقرة *** إذ أصبحت بيد الشمال زمامُها
للشمال يداً أو للقرة زماماً ، وأمره بخفضه مبالغة أو أراد جناحه كقوله تعالى : { واخفض جناحك للمؤمنين } . وإضافته إلى الذل للبيان والمبالغة كما أضيف حاتم إلى الجود ، والمعنى واخفض لهما جناحك الذليل . وقرئ " الذل " بالكسر وهو الانقياد والنعت منه ذلول . { من الرحمة } من فرط رحمتك عليهما لافتقارهما إلى من كان أفقر خلق الله تعالى إليهما بالأمس . { وقل ربّ ارحمهما } وادع الله تعالى أن يرحمهما برحمته الباقية ، ولا تكتف برحمتك الفانية وان كانا كافرين لان من الرحمة أن يديهما : { كما ربّياني صغيرا } رحمة مثل رحمتهما علي وتربيتهما وإرشادهما لي في صغري وفاء بوعدك للراحمين . روي : أن رجلا قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أبوي بلغا من الكبر أني ألي منهما ما وليا مني في الصغر فهل قضيتهما حقهما . قال : لا فإنهما كانا يفعلان ذلك وهما يحبان بقاءك وأنت تفعل ذلك وتريد موتهما ) .
قد انتُقل إليه انتقالاً بديعاً من قوله : { واخفض لهما جناح الذل من الرحمة } فكان ذكر رحمة العبد مناسبة للانتقال إلى رحمة الله ، وتنبيهاً على أن التخلق بمحبة الولد الخير لأبويه يدفعه إلى معاملته إياهما به فيما يعلمانه وفيما يخفى عنهما حتى فيما يصل إليهما بعد مماتهما . وفي الحديث " إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، وعلم بثه في صدور الرجال ، وولد صالح يدعو له بخير "
وفي الآية إيماء إلى أن الدعاء لهما مستجاب لأن الله أذن فيه . والحديث المذكور مؤيد ذلك إذ جعل دعاء الولد عملاً لأبويه .
وحكم هذا الدعاء خاص بالأبوين المؤمنين بأدلة أخرى دلت على التخصيص كقوله : { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين } [ التوبة : 113 ] الآية .
والكاف في قوله : { كما ربياني صغيراً } للتشبيه المجازي يعبر عنه النحاة بمعنى التعليل في الكاف ، ومثاله قوله تعالى : { واذكروه كما هداكم } [ البقرة : 198 ] ، أي ارحمهما رحمة تكافىء ما ربياني صغيرا .
و{ صغيراً } حال من ياء المتكلم .
والمقصود منه تمثيل حالة خاصة فيها الإشارة إلى تربية مكيفة برحمة كاملة فإن الأبوة تقتضي رحمة الولد ، وصغرالولد يقتضي الرحمة به ولو لم يكن ولداً فصار قوله : { كما ربياني صغيراً } قائماً مقام قوله كما ربياني ورحماني بتربيتهما . فالتربية تكملة للوجود ، وهي وحدها تقتضي الشكر عليها . والرحمة حفظ للوجود من اجتناب انتهاكه وهو مقتضى الشكر ، فجمع الشكر على ذلك كله بالدعاء لهما بالرحمة .
والأمر يقتضي الوجوب . وأما مواقع الدعاء لهما فلا تنضبط وهو بحسب حال كل امرىء في أوقات ابتهاله . وعن سفيان بن عيينة إذا دعا لهما في كل تشهد فقد امتثل .
ومقصد الإسلام من الأمر ببر الوالدين وبصلة الرحم ينحل إلى مقصدين :
أحدهما : نفساني وهو تربية نفوس الأمة على الاعتراف بالجميل لصانعه ، وهو الشكر ، تخلقاً بأخلاق الباري تعالى في اسمه الشكور ، فكما أمر بشكر الله على نعمة الخلق والرزق أمر بشكر الوالدين على نعمة الإيجاد الصوري ونعمة التربية والرحمة .
وفي الأمر بشكر الفضائل تنويه بها وتنبيه على المنافسة في إسدائها .
والمقصد الثاني عمراني ، وهو أن تكون أواصر العائلة قوية العُرى مشدودة الوثوق فأمر بما يحقق ذلك الوثوق بين أفراد العائلة ، وهو حسن المعاشرة ليربي في نفوسهم من التحاب والتواد ما يقوم مقام عاطفة الأمومة الغريزية في الأم ، ثم عاطفة الأبوة المنبعثة عن إحساسسٍ بعضه غريزي ضعيف وبعضه عقلي قوي حتى أن أثر ذلك الإحساس ليساوي بمجموعه أثر عاطفة الأم الغريزية أو يفوقها في حالة كبر الابن . ثم وزع الإسلام ما دعا إليه من ذلك بين بقية مراتب القرابة على حسب الدنو في القرب النسبي بما شرعه من صلة الرحم ، وقد عزز الله قابلية الانسياق إلى تلك الشرعة في النفوس .
جاء في الحديث : « أن الله لما خلق الرحم أخذت بقائمة من قوائم العرش وقالت : هذا مقام العائذ بكَ من القطيعة . فقال الله : أما تَرْضَيْنَ أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك » وفي الحديث : « إن الله جعل الرحم من اسمه الرحيم » .
وفي هذا التكوين لأواصر القرابة صلاح عظيم للأمة تظهر آثاره في مواساة بعضهم بعضاً ، وفي اتحاد بعضهم مع بعض ، قال تعالى : { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا } [ الحجرات : 13 ] .
وزاده الإسلام توثيقاً بما في تضاعيف الشريعة من تأكيد شد أواصر القرابة أكثر مما حاوله كل دين سلف . وقد بينا ذلك في بابه من « كتاب مقاصد الشريعة الإسلامية » .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وكن لهما ذليلا رحمة منك بهما تطيعهما فيما أمراك به مما لم يكن لله معصية، ولا تخالفهما فيما أحبَّا...
وأما قوله (وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) فإنه يقول: ادع الله لوالديك بالرحمة، وقل ربّ ارحمهما، وتعطف عليهما بمغفرتك ورحمتك، كما تعطفا عليّ في صغري، فرحماني وربياني صغيرا، حتى استقللت بنفسي، واستغنيت عنهما...
وقال جماعة من أهل العلم: إن قول الله جلّ ثناؤه "وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا "منسوخ بقوله "مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ"... وقد تحتمل هذه الآية أن تكون وإن كان ظاهرها عامًّا في كلّ الآباء بغير معنى النسخ، بأن يكون تأويلها على الخصوص، فيكون معنى الكلام: وقل ربّ ارحمهما إذا كانا مؤمنين، كما رَبياني صغيرا، فتكون مرادا بها الخصوص على ما قلنا غير منسوخ منها شيء. وعَنَى بقوله: "ربياني": نَميَّاني...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{واخفض لهما جناح الذل من الرحمة} يحتمل أن يكون الجناح كناية عن اليدين، لأن اليدين في الإنسان بموضع الجناح للطائر، وجناح الطائر يداه، فكأنه قال: اخفض، واخضع لهما بيديك كما أمره أن يخضع لهما بلسانه بقوله: {وقل قولا كريما} أي اخضع لهما قولا وفعلا. ويحتمل أن يكون الجناح كناية عن النفس، أي اخفض لهما بجميع النفس والجوارح... وقوله تعالى: {الذل} يحتمل أن يكون المراد من الذل نفسه، أي كن لهما كالمستعين المحتاج إليهما، لا كالمعين لهما قاضي الحاجة، ولكن ذليلا كالمستعين بالآخر رافع الحاجة إليه. ويحتمل أن يكون {الذل} كناية من الرحمة التي تكون في القلب، أي اخضع لهما برحمة القلب والجوارح جميعا... فعلى ذلك يحتمل أن يكون قوله: {جناح الذل} كناية عن الرحمة، فيكون معناه: أن اخضع لهما بالظاهر والباطن جميعا...
قوله تعالى: {وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا} قال بعضهم: {رب ارحمهما كما ربياني صغيرا} ويحتمل أن (يكون) على الإضمار، فيكون والله أعلم، كأنه قال: رب ارحمهما كما رحماني، وربياني صغيرا... وقول أهل التأويل: إن هذا منسوخ، نسخة قوله: {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين} الآية (التوبة: 113) بعيد. وأمكن أن تكون الآية في المؤمنين والكافرين... فالرحمة التي ذكر تكون في الكافرين سؤال الهداية لهم وجعلهم أهلا للرحمة والمغفرة... أو أن يكون من الرحمة التي يتراحم بعضهم لبعض، والشفقة التي تكون بين الناس كما يتراحم للصغار والضعفاء...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
" واخفض لهما جناح الذل "أي تواضع لهما واخضع لهما...
وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا" أي ادع لهما بالمغفرة والرحمة كما ربياك في حال صغرك...
جهود ابن عبد البر في التفسير 463 هـ :
- قال عروة في قوله تعالى: {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة} هو ألا يمنعهما من شيء أراداه. (بهجة المجالس: 2/758)...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ} بحسن المداراة ولين المنطق، والبدار إلى الخدمة، وسرعة الإجابة، وترك البَرَمَ بمطالبهما، والصبر على أمرهما، وألا تَدَّخِرَ عنهما ميسوراً...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
معنى قوله {جَنَاحَ الذل}؟ قلت: فيه وجهان:
أحدهما: أن يكون المعنى: واخفض لهما جناحك كما قال {واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 88] فأضافه إلى الذل أو الذلّ، كما أضيف حاتم إلى الجود على معنى: واخفض لهما جناحك الذليل أو الذلول.
والثاني: أن تجعل لذله أو لذله لهما جناحاً خفيضاً... مبالغة في التذلل والتواضع لهما.
{مِنَ الرحمة} من فرط رحمتك لهما وعطفك عليهما، لكبرهما وافتقارهما اليوم إلى من كان أفقر خلق الله إليهما بالأمس، ولا تكتف برحمتك عليهم التي لا بقاء لها وادع الله بأن يرحمهما رحمته الباقية، واجعل ذلك جزاء لرحمتهما عليك في صغرك وتربيتهما لك.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{واخفض لهما جناح الذل من الرحمة} استعارة أي اقطعهما جانب الذل منك ودمث لهما نفسك وخلقك، وبولغ بذكر {الذل} هنا ولم يذكر في قوله {واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين} وذلك بحسب عظم الحق هنا... والمعنى يتقارب وينبغي بحكم هذه الآية أن يجعل الإنسان نفسه مع أبويه في خير ذلة في أقواله واستكانته ونظره ولا يحد إليهما بصره فإن تلك هي نظرة الغاضب... وقوله {من الرحمة}، {من} هنا لبيان الجنس أي إن هذا الخفض يكون من الرحمة المستكنة في النفس لا بأن يكون ذلك استعمالاً، ويصح أن يكون لابتداء الغاية... ثم أمر الله عباده بالترحم على آبائهم وذكر منتهما عليه في التربية ليكون تذكر تلك الحالة مما يزيد الإنسان إشفاقاً لهما وحناناً عليهما، وهذا كله في الأبوين المؤمنين، وقد نهى القرآن عن الاستغفار للمشركين الأموات ولو كانوا أولي قربى، وذكر عن ابن عباس هنا لفظ النسخ، وليس هذا موضع نسخ...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ من الرَّحْمَةِ}: الْمَعْنَى تَذَلَّلْ لَهُمَا تَذْلِيلَ الرَّعِيَّةِ لِلْأَمِيرِ، وَالْعَبِيدِ لِلسَّادَةِ؛ وَضَرَبَ خَفْضَ الْجَنَاحِ وَنَصْبَهُ مَثَلًا لِجَنَاحِ الطَّائِرِ حِينَ يَنْتَصِبُ بِجَنَاحِهِ لِوَلَدِهِ أَوْ لِغَيْرِهِمْ من شِدَّةِ الْإِقْبَالِ. وَالذُّلُّ هُوَ اللِّينُ وَالْهَوْنُ فِي الشَّيْءِ...
{وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}: مَعْنَاهُ: اُدْعُ لَهُمَا فِي حَيَاتِهِمَا وَبَعْدَ مَمَاتِهِمَا بِأَنْ يَكُونَ الْبَارِئُ يَرْحَمُهُمَا كَمَا رَحِمَاك، وَتَرَفَّقْ بِهِمَا كَمَا رَفَقَا بِك؛ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يُجْزِي الْوَالِدَ عَنْ الْوَلَدِ؛ إذْ لَا يَسْتَطِيعُ الْوَلَدُ كِفَاءً عَلَى نِعْمَةِ وَالِدِهِ أَبَدًا...
{واخفض لهما جناح الذل من الرحمة} والمقصود منه المبالغة في التواضع... وذكر القفال رحمه الله في تقريره وجهين:
الأول: أن الطائر إذا أراد ضم فرخه إليه للتربية خفض له جناحه، ولهذا السبب صار خفض الجناح كناية عن حسن التربية، فكأنه قال للولد: اكفل والديك بأن تضمهما إلى نفسك كما فعلا ذلك بك حال صغرك.
والثاني: أن الطائر إذا أراد الطيران والارتفاع نشر جناحيه وإذا أراد ترك الطيران وترك الارتفاع خفض جناحه. فصار خفض الجناح كناية عن فعل التواضع من هذا الوجه...
{من الرحمة} معناه: ليكن خفض جناحك لهما بسبب فرط رحمتك لهما وعطفك عليهما بسبب كبرهما وضعفهما...
{وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا} وفيه مباحث:
البحث الأول: قال القفال رحمه الله تعالى: إنه لم يقتصر في تعليم البر بالوالدين على تعليم الأقوال بل أضاف إليه تعليم الأفعال وهو أن يدعو لهما بالرحمة فيقول: {رب ارحمهما} ولفظ الرحمة جامع لكل الخيرات في الدين والدنيا. ثم يقول: {كما ربياني صغيرا} يعين رب افعل بهما هذا النوع من الإحسان كما أحسنا إلي في تربيتهما إياي، والتربية هي التنمية... اختلف المفسرون في هذه الآية على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنها منسوخة بقوله تعالى: {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين} فلا ينبغي للمسلم أن يستغفر لوالديه إذا كانا مشركين، ولا يقول: رب ارحمهما.
والقول الثاني: أن هذه الآية غير منسوخة، ولكنها مخصوصة في حق المشركين، وهذا أولى من القول الأول لأن التخصيص أولى من النسخ.
والقول الثالث: أنه لا نسخ ولا تخصيص لأن الوالدين إذا كانا كافرين فله أن يدعو لهما بالهداية والإرشاد، وأن يطلب الرحمة لهما بعد حصول الإيمان...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وقل رب} أي أيها المحسن إليّ بعطفهما عليّ حتى ربياني وكانا يقدماني على أنفسهما {ارحمهما} بكرمك برحمتك الباقية وجودك كما رحمتهما أنا برحمتي القاصرة مع بخلي وما فيّ من طبع اللوم {كما ربياني} برحمتهما لي {صغيراً}... ولقد أبلغ سبحانه في الإيصاء بهما حيث بدأه بأن شفع الإحسان إليهما بتوحيده ونظمه في سلكه، وختمه بالتضرع في نجاتهما، جزاء على فعلهما وشكراً لهما، وضيق الأمر في مراعاتهما حتى لم يرخص في أدنى شيء من امتهانهما، مع موجبات الضجر ومع أحوال لا يكاد يدخل الصبر إليها في حد الاستطاعة إلا بتدريب كبير...
فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني 1250 هـ :
ولقد بالغ سبحانه في التوصية بالوالدين مبالغة تقشعرّ لها جلود أهل العقوق وتقف عندها شعورهم...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
أي: تواضع لهما ذلا لهما ورحمة واحتسابا للأجر لا لأجل الخوف منهما أو الرجاء لما لهما، ونحو ذلك من المقاصد التي لا يؤجر عليها العبد. {وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا} أي: ادع لهما بالرحمة أحياء وأمواتا، جزاء على تربيتهما إياك صغيرا. وفهم من هذا أنه كلما ازدادت التربية ازداد الحق، وكذلك من تولى تربية الإنسان في دينه ودنياه تربية صالحة غير الأبوين فإن له على من رباه حق التربية.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(واخفض لهما جناح الذل من الرحمة) وهنا يشف التعبير ويلطف، ويبلغ شغاف القلب وحنايا الوجدان. فهي الرحمة ترق وتلطف حتى لكأنها الذل الذي لا يرفع عينا، ولا يرفض أمرا. وكأنما للذل جناح يخفضه إيذانا بالسلام والاستسلام...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{واخفض لهما جناح الذل من الرحمة} فكان ذكر رحمة العبد مناسبة للانتقال إلى رحمة الله، وتنبيهاً على أن التخلق بمحبة الولد الخير لأبويه يدفعه إلى معاملته إياهما به فيما يعلمانه وفيما يخفى عنهما حتى فيما يصل إليهما بعد مماتهما... وفي الآية إيماء إلى أن الدعاء لهما مستجاب لأن الله أذن فيه... وحكم هذا الدعاء خاص بالأبوين المؤمنين بأدلة أخرى دلت على التخصيص كقوله: {ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين} [التوبة: 113] الآية...
والمقصود منه تمثيل حالة خاصة فيها الإشارة إلى تربية مكيفة برحمة كاملة فإن الأبوة تقتضي رحمة الولد، وصغر الولد يقتضي الرحمة به ولو لم يكن ولداً فصار قوله: {كما ربياني صغيراً} قائماً مقام قوله كما ربياني ورحماني بتربيتهما. فالتربية تكملة للوجود، وهي وحدها تقتضي الشكر عليها. والرحمة حفظ للوجود من اجتناب انتهاكه وهو مقتضى الشكر، فجمع الشكر على ذلك كله بالدعاء لهما بالرحمة...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
الجناح هنا هو الحياطة والرعاية، وشبهت هذه المعاني بالجناح الذي يكون له قوة الطائر، وإضافة الذل إليه لتكون الرعاية ذلا لهما، وتواضعا من غير استكبار، وإن ذلك التطامن والانكسار من الرحمة لا من الذلة، وكان خفض جناح من ذل، لا من الذلة، بل من الرحمة، وفرق بين ذل الرحمة، فهو عطف ورفق وتطامن، وذل الاستخذاء والمذلة، فهو ذل خنوع، وضعف من غير قوة...
{قل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا}، أي إنك لا تملك أن تصنع لهما ما صنعاه وأنت صغير، فقد حدبا عليك في محبة يريدان بقائك وأنت لا تملك هذا فتملك ما يقبله الله منك، وهو الكريم اللطيف الخبير، وهو الدعاء لهما بالرحمة مخلصا طيب النفس راضيا لعشرتهما مهما تكن حالهما من ضعف...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وبذلك نفهم كيف لا يريد الله للولد أن يستثير حسّ الكرامة في نفسه تجاه أبويه كما يستثيره تجاه الآخرين، بل لا بد له من أن يشعر بالذل الناشىء من الشعور بالرحمة لهما، لا من الشعور بالانسحاق الذاتي والانحطاط الروحي، كما يخضع الإنسان لمن يحبه حباً له ورحمةً به، فيتحمل منه ما لا يتحمله من غيره... حدود طاعة الوالدين وهكذا نجد أن الله يريد أن يعمِّق الشعور الإنساني في نفس الولد تجاه أبويه بالرحمة والمحبة والإحسان، ليشعرا بأن هذا الجهد الذي بذلاه لم يذهب سدىً، فهناك نوعٌ من التعويض الروحي قد حصلا عليه. وعلى ضوء ذلك، فإن الطاعة التي يريدها الإسلام في طاعة الولد للوالدين، هي طاعة الإحسان والشفقة وليست طاعة المسؤولية من خلال طبيعة المضمون الذي تحتويه أوامرهما ونواهيهما، كما هو الحال في طاعة الله والرسول وأولي الأمر. فلو أمراه بما هو على خلاف المصلحة في دينه أو دنياه، أو بما فيه المفسدة في ذلك، فلا يجب عليه إطاعتهما، ولكن لا بد له من أن يواجه الموقف بكثيرٍ من المرونة في الجوّ والأسلوب عند إرادة المعصية...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
فثمّة ملاحظة لطيفة أُخرى يطويها التعبير القرآني، هذه الملاحظة خطاب للإِنسان يقول: إِذا أصبح والداك مُسِنَيّن وضعيفين وكهلين لا يستطيعان الحركة أو رفع الخبائث عنهما، فلا تنس أنّك عندما كُنت صغيراً كُنت على هذه الشاكلة أيضاً، ولكن والديك لم يقصرا في مداراتك والعناية بك، لذا فلا تقصَّر أنت في مداراتهم ومحبتهم.