معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَكُلَّ إِنسَٰنٍ أَلۡزَمۡنَٰهُ طَـٰٓئِرَهُۥ فِي عُنُقِهِۦۖ وَنُخۡرِجُ لَهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ كِتَٰبٗا يَلۡقَىٰهُ مَنشُورًا} (13)

قوله عز وجل : { وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه } ، قال ابن عباس : عمله وما قدر عليه فهو ملازمه أينما كان . وقال الكلبي و مقاتل : خيره وشره معه لا يفارقه حتى يحاسبه به . وقال الحسن : يمنه وشؤمه . وعن مجاهد : ما من مولود إلا في عنقه ورقة مكتوب فيها شقي أو سعيد . وقال أهل المعاني : أراد بالطائر ما قضى الله عليه أنه عامله وما هو صائر إليه من سعادة أو شقاوة سمي طائراً على عادة العرب فيما كانت تتفاءل وتتشاءم به من سوانح الطير وبوارحها . وقال أبو عبيدة و القتيبي : أراد بالطائر حظه من الخير والشر ، من قولهم : طار سهم فلان بكذا ، وخص العنق من بين سائر الأعضاء لأنه موضع القلائد والأطواق وغيرهما مما يزين أو يشين ، فجرى على كلام العرب بتشبيه الأشياء اللازمة إلى الأعناق . { ونخرج له } ، يقول الله تعالى : ونحن نخرج له ، { يوم القيامة كتاباً } ، وقرأ الحسن و مجاهد و يعقوب : { ونخرج له } بفتح الياء وضم الراء ، معناه : ويخرج له الطائر يوم القيامة كتاباً . وقرأ أبو جعفر يخرج بالياء وضمها وفتح الراء . { يلقاه } ، قرأ ابن عامر و أبو جعفر يلقاه بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف ، يعني : يلقى الإنسان ذلك الكتاب ، أي : يؤتاه . وقرأ الباقون بفتح الياء خفيفة أي لا يراه { منشوراً } ، وفي الآثار : إن الله تعالى يأمر الملك بطي الصحيفة إذا تم عمر العبد فلا تنشر إلى يوم القيامة .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَكُلَّ إِنسَٰنٍ أَلۡزَمۡنَٰهُ طَـٰٓئِرَهُۥ فِي عُنُقِهِۦۖ وَنُخۡرِجُ لَهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ كِتَٰبٗا يَلۡقَىٰهُ مَنشُورًا} (13)

{ 13-14 } { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا }

وهذا إخبار عن كمال عدله أن كل إنسان يلزمه طائره في عنقه ، أي : ما عمل من خير وشر يجعله الله ملازما له لا يتعداه إلى غيره ، فلا يحاسب بعمل غيره ولا يحاسب غيره بعمله .

{ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا } فيه ما عمله من الخير والشر حاضرا صغيره وكبيره ويقال له : { اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا }

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَكُلَّ إِنسَٰنٍ أَلۡزَمۡنَٰهُ طَـٰٓئِرَهُۥ فِي عُنُقِهِۦۖ وَنُخۡرِجُ لَهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ كِتَٰبٗا يَلۡقَىٰهُ مَنشُورًا} (13)

ثم ساق - سبحانه - صورة من صور هذا التفصيل المحكم فى كل شئ فقال - تعالى - : { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ } .

والمراد بطائره : عمله الصادر عنه باختياره وكسبه ، حسبما قدره الله - تعالى - عليه من خير وشر .

أى : وألزمنا كل إنسان مكلف عمله الناتج عنه ، إلزاما لا فكاك له منه ، ولا قدرة له على مفارقته .

وعبر - سبحانه - عن عمل الإِنسان بطائره ، لأن العرب كانوا - كما يقول الآلوسى - يتفاءلون بالطير ، فإذا سافروا ومر بهم الطير زجروه ، فإن مر بهم سانحا - أى من جهة الشمال إلى اليمين - تيمنوا وتفاءلوا ، وإن مر بارحا ، أى : من جهة اليمين الى الشمال تشاءموا ، فلما نسبوا الخير والشر إلى الطائر ، استعير استعارة تصريحية ، لما يشبههما من قدر الله - تعالى - وعمل العبد ، لأنه سبب للخير والشر .

وقوله - سبحانه - : { فى عنقه } تصوير لشدة اللزوم وكمال الارتباط بين الإِنسان وعمله .

وخص - سبحانه - العنق بالذكر من بين سائر الأعضاء ، لأن اللزوم فيه أشد ، ولأنه العضو الذى تارة يكون عليه ما يزينه كالقلادة وما يشبهها ، وتارة يكون فيه ما يشينه كالغل والقيد وما يشبههما .

قال الامام ابن كثير : وطائره : هو ما طار عنه من عمله كما قال ابن عباس ومجاهد ، وغير واحد - من خير أو شر ، يلزم به ويجازى عليه : كما قال - تعالى - : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } وكما قال - تعالى - : { إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } والمقصود أن عمل ابن آدم محفوظ عليه ، قليله وكثيره : ويكتب عليه ليلا ونهارا ، صباحا ومساء .

وقوله - سبحانه - : { وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً } بيان لحاله فى الآخرة بعد بيان حاله فى الدنيا .

والمراد بالكتاب هنا صحائف أعماله التى سجلت عليه فى الدنيا .

أى : ألزمنا كل إنسان مكلف عمله الصادر عنه فى الدنيا ، وجعلناه مسئولا عنه دون غيره . أما فى الآخرة فسنخرج له ما عمله من خير أو شر " في كتاب يلقاه منشورا " أى : مفتوحا بحيث يستطيع قراءته ، ومكشوفا بحيث لا يملك إخفاء شئ منه ، أو تجاهله ، أو المغالطة فيه .

كتاب ظهرت فيه الخبايا والأسرار ظهورا يغنى عن الشهود والجدال .

كتاب مشتمل على كل صغيرة وكبيرة من أعمال الإِنسان ، كما قال - تعالى - : { وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وكفى بِنَا حَاسِبِينَ }

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَكُلَّ إِنسَٰنٍ أَلۡزَمۡنَٰهُ طَـٰٓئِرَهُۥ فِي عُنُقِهِۦۖ وَنُخۡرِجُ لَهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ كِتَٰبٗا يَلۡقَىٰهُ مَنشُورًا} (13)

يقول تعالى بعد ذكر الزمان وذكر ما يقع فيه من أعمال بني آدم : { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ } وطائره : هو ما طار عنه من عمله ، كما قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد : من خير وشر ، يُلزم به ويجازى عليه { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } [ الزلزلة : 5 ، 6 ] ، وقال تعالى : { عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ ق : 17 ، 18 ] ، وقال تعالى : { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ إِنَّ الأبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } [ الانفطار : 10 - 14 ] ، قال : { إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الطور : 16 ] وقال : { مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ } [ النساء : 123 ] .

والمقصود أن عمل ابن آدم محفوظ عليه ، قليله وكثيره ، ويكتب عليه ليلا ونهارًا ، صباحًا ومساء .

وقال الإمام أحمد : حدثنا قتيبة ، حدثنا ابن لَهِيعة ، عن أبى الزبير ، عن جابر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لَطَائر كل إنسان في عنقه " . قال ابن لهيعة : يعني الطيرة{[17250]} .

وهذا القول من ابن لهيعة في تفسير هذا الحديث ، غريب جدًا ، والله أعلم .

وقوله [ تعالى ]{[17251]} { وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا } أي : نجمع له عمله كله في كتاب يعطاه يوم القيامة ، إما بيمينه إن كان سعيدًا ، أو بشماله إن كان شقيًا { مَنْشُورًا } أي : مفتوحًا يقرؤه هو وغيره ، فيه جميع عمله من أول عمره إلى آخره { يُنَبَّأُ الإنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ } [ القيامة : 13 - 15 ] ، ولهذا قال تعالى : { اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا } أي : إنك{[17252]} تعلم أنك لم تظلم ولم يكتب عليك غير ما عملت ؛ لأنك ذكرت جميع ما كان منك ، ولا ينسى أحد شيئًا مما كان منه ، وكل أحد يقرأ كتابه من كاتب وأمي .

وقوله [ تعالى ]{[17253]} { أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ } إنما ذكر العنق ؛ لأنه عضو لا نظير له في{[17254]} الجسد ، ومن ألزم بشيء فيه فلا محيد له عنه ، كما قال الشاعر :{[17255]} .

اذهب بها اذهب بها *** طوقتها طوق الحمامة

قال قتادة ، عن جابر بن عبد الله ، رضي الله عنه{[17256]} عن نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا عَدْوَى ولا طيرَة وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه " . كذا رواه ابن جرير{[17257]} .

وقد رواه الإمام عبد بن حميد ، رحمه الله ، في مسنده متصلا فقال : حدثنا الحسن بن موسى ، حدثنا ابن لهيعة ، عن أبي الزبير ، عن جابر [ رضي الله عنه ]{[17258]} قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " طير كل عبد في عنقه " {[17259]} .

وقال الإمام أحمد : حدثنا علي بن إسحاق ، حدثنا عبد الله ، حدثنا ابن لهيعة ، حدثني يزيد : أن أبا الخير حدثه : أنه سمع عقبة بن عامر [ رضي الله عنه ]{[17260]} يحدث ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ليس من عمل يوم إلا وهو يختم عليه ، فإذا مرض المؤمن قالت الملائكة : يا ربنا ، عبدك فلان ، قد حبسته ؟ فيقول الرب جل جلاله : اختموا له على مثل عمله ، حتى يبرأ أو يموت " {[17261]} .

إسناده جيد قوي ، ولم يخرجوه .

وقال مَعْمَر ، عن قتادة : { أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ } قال : عمله . { وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } قال : نخرج ذلك العمل { كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا } قال معمر : وتلا الحسن البصري { عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ } [ ق : 17 ] يا ابن آدم ، بسطت لك صحيفتك{[17262]} ووكل بك ملكان كريمان ، أحدهما عن يمينك والآخر عن يسارك فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك ، وأما الذي عن يسارك فيحفظ سيئاتك ، فاعمل{[17263]} ما شئت ، أقلل أو أكثر ، حتى إذا مت طويت صحيفتك فجعلت في عنقك معك في قبرك ، حتى تخرج يوم القيامة كتابًا تلقاه منشورًا


[17250]:المسند (3/360)، وقال الهيثمي في المجمع (7/49): "فيه ابن لهيعة وحديثه حسن وفيه ضعف وبقية رجاله رجال الصحيح".
[17251]:زيادة من ت.
[17252]:في ت، ف: "أي أنت".
[17253]:زيادة من ت.
[17254]:في ت، أ: "من".
[17255]:هو أبو أحمد بن جحش، والأبيات في السيرة النبوية لابن هشام (1/500).
[17256]:في ف، أ: "عنهما".
[17257]:تفسير الطبري (15/39).
[17258]:زيادة من ف، أ.
[17259]:المنتخب لعبد بن حميد برقم (1053).
[17260]:زيادة من ف، أ.
[17261]:المسند (4/146).
[17262]:في ت، ف، أ: "صحيفة".
[17263]:في ت، ف، أ: "فاملك".
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَكُلَّ إِنسَٰنٍ أَلۡزَمۡنَٰهُ طَـٰٓئِرَهُۥ فِي عُنُقِهِۦۖ وَنُخۡرِجُ لَهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ كِتَٰبٗا يَلۡقَىٰهُ مَنشُورًا} (13)

{ وكل إنسان ألزمناه طائره } عمله وما قدر له كأنه طير إليه من عش الغيب ووكر القدر ، لما كانوا يتيمنون ويتشاءمون بسنوح الطائر وبروحه ، استعير لما هو سبب الخير والشر من قدر الله تعالى وعمل العبد . { في عُنقه } لزوم الطوق في عنقه . { ونخرج له يوم القيامة كتابا } هي صحيفة عمله أو نفسه المنتقشة بآثار أعماله ، فإن الأعمال الاختيارية تحدث في النفس أحوالا ولذلك يفيد تكريرها لها ملكات ، ونصبه بأنه مفعول أو حال من مفعول محذوف ، وهو ضمير الطائر ويعضده قراءة يعقوب ، و " يخرج " من خرج و " يخرج " وقرئ و " يخرج " أي الله عز وجل { يلقاه منشورا } لكشف الغطاء ، وهما صفتان للكتاب ، أو { يلقاه } صفة و{ منشورا } حال من مفعوله . وقرأ ابن عامر " يلقاه " على البناء للمفعول من لقيته كذا .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَكُلَّ إِنسَٰنٍ أَلۡزَمۡنَٰهُ طَـٰٓئِرَهُۥ فِي عُنُقِهِۦۖ وَنُخۡرِجُ لَهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ كِتَٰبٗا يَلۡقَىٰهُ مَنشُورًا} (13)

وقوله { وكل إنسان ألزمناه طائره } الآية ، قوله { كل } منصوب بفعل مقدر ، وقرأ الحسن وأبو رجاء ومجاهد ؛ «طيره في عنقه » ، قال ابن عباس { طائره } ما قدر له وعليه ، وخاطب الله العرب في هذه الآية بما تعرف ، وذلك أنه كان من عادتها التيمن والتشاؤم بالطير في كونها سانحة وبارحة{[7488]} وكثر ذلك حتى فعلته بالظبا وحيوان الفلاة ، وسميت ذلك كله تطيراً ، وكانت تعتقد أن تلك الطيرة قاضية بما يلقى الإنسان من خير وشر ، فأخبرهم الله تعالى في هذه الآية في أوجز لفظ وأبلغ إشارة أن جميع ما يلقى الإنسان من خير وشر قد سبق به القضاء . وألزم حظه وعمله وتكسبه في عنقه ، وروى جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «لا عدوى ولا طيرة » { وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه } فعبر عن الحظ والعمل إذ هما متلازمان ب «الطائر » ، قال مجاهد وقتادة بحسب معتقد العرب في التطير ، وقولهم في أمور على الطائر الميمون ، وبأسعد طائر ومنه طار في المحاجة والسهم{[7489]} كقول أم العلا الأنصارية فطار لنا من القادمين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة عثمان بن مظعون{[7490]} ، أي كان ذلك حظنا ، وأصل هذا كله من الطير التي تقضي عندهم بلقاء الخير والشر وأبطل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم «لا عدوى ولا طيرة »{[7491]} ، وقوله { في عنقه } جرى أيضاً على مقطع العرب في أن تنسب ما كان إلزاماً وقلادة وأمانة ونحو هذا إلى العنق كقولهم : دمي في عنق فلان وكقول الأعشى :

والشعر قلدته سلامة ذا . . . فائش والشيء حيثما جعلا{[7492]}

وهذا كثير ، ونحوه جعلهم ما كان تكسباً وجناية وإثماً منسوباً إلى اليد إذ هي الأصل في التكسب ، وقرأ أبو جعفر ونافع والناس «ونخرج » بنون العظمة «كتاباً » بالنصب ، وقرأ الحسن ومجاهد وابن محيصن : و «يخرُج » بفتح الياء وضم الراء على الفعل المستقبل «كتاباً » أي طائره الذي كني به عن عمله يخرج له ذا كتاب ، وقرأ الحسن من هؤلاء «كتابٌ » بالرفع ، وقرأ أبو جعفر أيضاً «ويُخرَج » بضم الياء وفتح الراء على ما لم يسم فاعله ، «كتاباً » أي طائره ، وقرأ أيضاً «كتاباً » وقرأت فرقة «ويُخرِج » بضم الياء وكسر الراء أي يخرج الله ، وفي مصحف أبي بن كعب «في عنقه يقرؤه يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً » ، وهذا الكتاب هو عمل الإنسان وخطيئاته{[7493]} ، وقرأ الجمهور «يَلْقاه » بفتح الياء وسكون اللام وخفة القاف ، وقرأ ابن عامر{[7494]} وحده ، «يُلَقّاه » بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف وهي قراءة الحسن بخلاف ، وأبي جعفر والجحدري ،


[7488]:السانح: ما أتاك عن يمينك من ظبي أو طائر أو غير ذلك، والبارح: ما أتاك من ذلك عن يسارك.
[7489]:أي في الاقتسام والتخصيص، أو في الاختيار وفي حديث رويفع: إن كان أحدنا ليطير له النصل وللآخر القدح، معناه أن الرجلين كانا يقتسمان السهم، فيقع لأحدهما نصله وللآخر قدحه.
[7490]:حديث أم العلاء أخرجه البخاري في الجنائز والتعبير، وأحمد (6ـ436)، ففي البخاري، عن ابن شهاب، قال: أخبرني خارجة بن زيد بن ثابت أن أم العلاء – امرأة من الأنصار – بايعت النبي صلى الله عليه وسلم، أخبرته أنه اقتسم المهاجرون قرعة، فطار لنا عثمان بن مظعون، فأنزلناه في أبياتنا، فوجع وجعه الذي توفي فيه، فلما توفي وغسل وكفن في أثوابه دخل رسول الله عليه وسلم، فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب فشهادتي عليك لقد أكرمك الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وما يدريك أن الله أكرمه؟ فقلت: بأبي أنت يا رسول الله، فمن يكرمه الله؟ فقال عليه الصلاة والسلام: أما هو فقد جاءه اليقين، والله إني لأرجو له الخير، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي، قالت: فوالله لا أزكي أحدا بعده أبدا.
[7491]:أخرجه البخاري في الطب، ومسلم في السلام، وأبو داود في الطب، وابن ماجه في المقدمة والطب، وأحمد في مواضع كثيرة من مسنده، ولفظه كما في بعض روايات مسلم، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل، قال: قيل: وما الفـأل؟ قال: الكلمة الطيبة)، وفي رواية: (وأحب الفأل الصالح).
[7492]:البيت من قصيدة للأعشى يمدح سلامة ذا فائش، ومطلعها: إن محلا وإن مرتحلا وإن في السفر ما مضى مهلا وقبله يقول: يا خير من يركب المطي و لا يشرب كأسا بكف من بخلا. والتفضال: الإحسان، وأن يكون للإنسان فضل على غيره في القدر والمنزلة.
[7493]:قال الطبري: "وأولى القراءات في ذلك بالصواب قراءة من قرأ: [ونخرج] بالنون وضمها ؛ لأن الخبر جرى قبل ذلك عن الله تعالى أنه الذي ألزم خلقه ما ألزم من ذلك، فالصواب أن يكون الذي يليه خبرا عنه، أنه هو الذي يخرجه لهم يوم القيامة، أن يكون بالنون كما كان الخبر الذي قبله بالنون".
[7494]:أي : قرأ وحده من السبعة، وإلا فقد قرأ بها غيره كالحسن، والجحدري.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَكُلَّ إِنسَٰنٍ أَلۡزَمۡنَٰهُ طَـٰٓئِرَهُۥ فِي عُنُقِهِۦۖ وَنُخۡرِجُ لَهُۥ يَوۡمَ ٱلۡقِيَٰمَةِ كِتَٰبٗا يَلۡقَىٰهُ مَنشُورًا} (13)

لما كان سياق الكلام جارياً في طريق الترغيب في العمل الصالح والتحذير من الكفر والسيئات ابتداء من قوله تعالى : { إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين } إلى قوله تعالى : { عذاباً أليماً } [ الإسراء : 9 10 ] وما عقبه مما يتعلق بالبشارة والنذارة وما أدمج في خلال ذلك من التذكير ثم بما دل على أن علم الله محيط بكل شيء تفصيلاً ، وكان أهم الأشياء في هذا المقام إحاطة علمه بالأعمال كلها ، فأعقب ذكر ما فصله الله من الأشياء بالتنبيه على تفصيل أعمال الناس تفصيلاً لا يقبل الشك ولا الإخفاء وهو التفصيل المشابه للتقييد بالكتابة ، فعطف قوله : { وكل إنسان } الخ على قوله : { وكل شيء فصلناه تفصيلاً } [ الإسراء : 12 ] عطف خاص على عام للاهتمام بهذا الخاص . والمعنى : وكل إنسان قدرنا له عمله في علمنا فهو عامل به لا محالة وهذا من أحوال الدنيا .

والطائر : أطلق على السهم ، أو القرطاس الذي يُعين فيه صاحب الحَظّ في عطاء أو قرعة لقسمة أو أعشار جزور الميسر ، يقال : اقتسموا الأرض فطار لفلان كذا ، ومنه قول أم العَلاء الأنصارية في حديث الهجرة : اقتسم الأنصارُ المهاجرين فطار لنا عُثمان بن مظعون . . . وذكرت قصة وفاته .

وأصل إطلاق الطائر على هذا : إما لأنهم كانوا يرمون السهام المرقومة بأسماء المتقاسمين على صبر الشيء المقسوم المعدة للتوزيع . فكل من وقع السهم المرقوم باسمه على شيء أخذَه . وكانوا يطلقون على رمي السهم فعل الطيران لأنهم يجعلون للسهم ريشاً في قُذذه ليخف به اختراقه الهواء عند رميه من القوس ، فالطائر هنا أطلق على الحظ من العمل مثل ما يطلق اسم السهم على حظ الإنسان من شيء ما .

وإما من زجر الطير لمعرفة بختِ أو شُؤم الزاجر من حالة الطير التي تعترضه في طريقه ، والأكثر أن يفعلوا ذلك في أسفارهم ، وشاع ذلك في الكلام فأطلق الطائر على حظ الإنسان من خير أو شر .

والإلزام : جعله لازماً له ، أي غير مفارق ، يقال : لَزمه إذا لم يفارقه .

وقوله : { في عُنُقِهِ } يجوز أن يكون كناية عن الملازمة والقرب ، أي عمله لازم له لزوم القلادة . ومنه قول العرب تقلدها طَوْقَ الحمامة ، فلذلك خصت بالعنق لأن القلادة توضع في عنق المرأة . ومنه قول الأعشى :

والشِعْرَ قلدتُه سَلامَةَ ذَا فا *** ئش والشيءُ حيثما جُعلا{[269]}

ويحتمل أن يكون تمثيلاً لحالة لعلها كانت معروفة عند العرب وهي وضع علامات تعلق في الرقاب للذين يعيّنون لعمل ما أو ليؤخذ منهم شيء ، وقد كان في الإسلام يجعل ذلك لأهل الذمة ، كما قال بشار

كَتب الحبُّ لها في عُنقي *** مَوْضِعَ الخَاتم من أهله الذِمم

ويجوز أن يكون { في عنقه } تمثيلاً بالبعير الذي يوسم في عنقه بسمة كيلا يختلط بغيره ، أو الذي يوضع في عنقه جلجل لكيلا يضل عن صاحبه .

والمعنى على الجميع أن كل إنسان يعامل بعمله من خير أو شر لا يُنقص له منه شيء . وهذا غير كتابة الأعمال التي ستذكر عقب هذا بقوله : { ونخرج له يوم القيامة كتاباً } الآية .

وعَطف جملة { ونخرج له يوم القيامة كتاباً } إخبار عن كون تلك الأعمال المعبر عنها بالطائر تظهر يوم القيامة مفصلة معينة لا تغادَر منها صغيرةٌ ولا كبيرة إلا أحصيت للجزاء عليها .

وقرأ الجمهور { ونخرج } بنون العظمة وبكسر الراء ، وقرأه يعقوب بياء الغيبة وكسر الراء ، والضمير عائد إلى الله المعلوم من المقام ، وهو التفات . وقرأه أبو جعفر بياء الغيبة في أوله مبنياً للنائب على أن { له } نائب فاعل و { وكتاباً } منصوباً على المفعولية وذلك جائز .

والكتاب : ما فيه ذكر الأعمال وإحصاؤها . والنشر : ضد الطي .

ومعنى { يلقاه } يجده . استعير فعل يلقى لمعنى يَجد تشبيهاً لوجدان النسبة بلقاء الشخص . والنشر كناية عن سرعة اطلاعه على جميع ما عمله بحيث إن الكتاب يحضر من قبل وصُول صاحبه مفتوحاً للمطالعة .

وقرأ ابن عامر ، وأبو جعفر { يُلَقّاه بضم الياء وتشديد ، القاف مبنياً للمجهول على أنه مضاعف لقي تضعيفاً للتعدية ، أي يجعله لاقياً كقوله : { ولقاهم نضرة وسروراً } [ الإنسان : 11 ] . وأسند إلى المفعول بمعنى يجعله لاقياً . كقوله : { وما يلقاها إلا الذين صبروا } [ فصّلت : 35 ] وقوله : { ويلقون فيها تحية وسلاما } [ الفرقان : 75 ] .

ونشر الكتاب إظهاره ليقرأ ، قال تعالى : { وإذا الصحف نشرت } [ التكوير : 10 ] .


[269]:- كذا في تفسير ابن عطية والذي في ديوان الأعشى: قلدته الشعر يا سلامة ذا *** التفضال والشيء حيثما جعلا