القول في تأويل قوله تعالى : { وَكُلّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً } .
يقول تعالى ذكره : وكلّ إنسان ألزمناه ما قضى له أنه عامله ، وهو صائر إليه من شقاء أو سعادة بعمله في عنقه لا يفارقه . وإنما قوله ألْزَمْناهُ طائِرَهُ مثل لما كانت العرب تتفاءل به أو تتشاءم من سوانح الطير وبوارحها ، فأعلمهم جلّ ثناؤه أن كلّ إنسان منهم قد ألزمه ربه طائره في عنقه نحسا كان ذلك الذي ألزمه من الطائر ، وشقاء يورده سعيرا ، أو كان سعدا يورده جنات عدن . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن بشار ، قال : حدثنا معاذ بن هشام ، قال : ثني أبي ، عن قتادة ، عن جابر بن عبد الله أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال : «لا عَدْوَى وَلا طِيَرَةَ وكُلّ إنْسانٍ ألْزَمْناهُ طائِرَه فِي عُنُقِهِ » .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس وكُلّ إنْسانٍ ألْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ قال : الطائر : عمله ، قال : والطائر في أشياء كثيرة ، فمنه التشاؤم الذي يتشاءم به الناس بعضهم من بعض .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عطاء الخراساني عن ابن عباس ، قوله : وكُلّ إنْسانٍ ألْزمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ قال : عمله وما قدر عليه ، فهو ملازمه أينما كان ، فزائل معه أينما زال . قال ابن جريج : وقال : طائره : عمله .
قال : ابن جريج : وأخبرني عبد الله بن كثير ، عن مجاهد ، قال : عمله وما كتب الله له .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : طائره : عمله .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان وحدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عمرو جميعا عن منصور ، عن مجاهد وكُلّ إنْسانٍ ألْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ قال : عمله .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن مجاهد ، مثله .
حدثني واصل بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن الحسن بن عمرو الفقيمي ، عن الحكم ، عن مجاهد ، في قوله : وكُلّ إنْسانٍ ألْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ قال : ما من مولدو يولد إلا وفي عنقه ورقة مكتوب فيها شقيّ أو سعيد . قال : وسمعته يقول : أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب ، قال : هو ما سبق .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وكُلّ إنْسانٍ ألْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ : إي والله بسعادته وشقائه بعمله .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : طائره : عمله .
فإن قال قائل : وكيف قال : ألزمناه طائره في عنقه إن كان الأمر على ما وصفت ، ولم يقل : ألزمناه في يديه ورجليه أو غير ذلك من أعضاء الجسد ؟ قيل : لأن العنق هو موضع السمات ، وموضع القلائد والأطوقة ، وغير ذلك مما يزين أو يشين ، فجرى كلام العرب بنسبة الأشياء اللازمة بني آدم وغيرهم من ذلك إلى أعناقهم وكثر استعمالهم ذلك حتى أضافوا الأشياء اللازمة سائر الأبدان إلى الأعناق ، كما أضافوا جنايات أعضاء الأبدان إلى اليد ، فقالوا : ذلك بما كسبت يداه ، وإن كان الذي جرّ عليه لسانه أو فرجه ، فكذلك قوله ألْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : ونُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ كتابا يَلْقاهُ مَنْشُورا فقرأه بعض أهل المدينة ومكة ، وهو نافع وابن كثير وعامة قرّاء العراق ونُخْرِجُ بالنون لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ كِتابا يَلْقاه مَنْشُورا بفتح الياء من يَلْقاه وتخفيف القاف منه ، بمعنى : ونخرج له نحن يوم القيامة ردّا على قوله ألْزَمْناهُ ونحن نخرج له يوم القيامة كتاب عمله منشورا . وكان بعض قرّاء أهل الشام يوافق هؤلاء على قراءة قوله ونُخْرِجُ ويخالفهم في قوله يَلْقاهُ فيقرؤه : «يُلَقّاهُ » بضم الياء وتشديد القاف ، بمعنى : ونخرج له نحن يوم القيامة كتابا يلقاه ، ثم يردّه إلى ما لم يسمّ فاعله ، فيقول : يلقى الإنسان ذلك الكتاب منشورا . وذكر عن مجاهد ما :
حدثنا أحمد بن يوسف ، قال : حدثنا القاسم ، قال : حدثنا يزيد ، عن جرير بن حازم عن حميد ، عن مجاهد أنه قرأها ، «وَيَخْرَجُ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ كِتابا » قال : يزيد : يعني يَخرج الطائر كتابا ، هكذا أحسبه قرأها بفتح الياء ، وهي قراءة الحسن البصري وابن محيصن وكأن من قرأ هذه القراءة وجّه تأويل الكلام إلى : ويخرج له الطائر الذي ألزمناه عنق الإنسان يوم القيامة ، فيصير كتابا يقرؤه منشورا .
وقرأ ذلك بعض أهل المدينة : «ويُخَرجُ لَهُ » بضم الياء على مذهب ما لم يسمّ فاعله ، وكأنه وجّه معنى الكلام إلى ويخرج له الطائر يوم القيامة كتابا ، يريد : ويخرج الله ذلك الطائر قد صيره كتابا ، إلا أنه نحاه نحو ما لم يسمّ فاعله .
وأولى القراءات في ذلك بالصواب ، قراءة من قرأه : ونُخْرِجُ بالنون وضمها لَهُ يَوْمَ القيامَةِ كِتابا يَلقاهُ منْشُورا بفتح الياء وتخفيف القاف ، لأن الخبر جري قبل ذلك عن الله تعالى أنه الذي ألزم خلقه ما ألزم من ذلك فالصواب أن يكون الذي يليه خبرا عنه ، أنه هو الذي يخرجه لهم يوم القيامة ، أن يكون بالنون كما كان الخبر الذي قبله بالنون . وأما قوله : يَلقاهُ فإنّ في إجماع الحجة من القرّاء على تصويب ما اخترنا من القراءة في ذلك ، وشذوذ ما خالفه الحجة الكافية لنا على تقارب معنى القراءتين : أعني ضمّ الياء وفتحها في ذلك ، وتشديد القاف وتخفيفها فيه فإذا كان الصواب في القراءة هو ما اخترنا بالذي عليه دللنا ، فتأويل الكلام : وكلّ إنسان منكم يا معشر بني آدم ، ألزمناه نحسه وسعده ، وشقاءه وسعادته ، بما سبق له في علمنا أنه صائر إليه ، وعامل من الخير والشرّ في عنقه ، فلا يجاوز في شيء من أعماله ما قضينا عليه أنه عامله ، وما كتبنا له أنه صائر إليه ، ونحن نخرج له إذا وافانا كتابا يصادفه منشورا بأعماله التي عملها في الدنيا ، وبطائره الذي كتبنا له ، وألزمناه إياه في عنقه ، قد أحصى عليه ربه فيه كلّ ما سلف في الدنيا . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، ونُخرِجُ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ كِتابا يَلقاهُ مَنْشُورا قال : هو عمله الذي عمل أحصي عليه ، فأخرج له يوم القيامة ما كتب عليه من العمل يلقاه منشورا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ونُخرِجُ لَهُ يَوْمَ القِيامَةِ كِتابا يَلقاهُ مَنْشُورا : أي عمله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا أبو سفيان ، عن معمر ، عن قتادة ألزَمناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ قال : عمله ونُخرِجُ لَهُ قال : نخرج ذلك العمل كِتابا يَلقاهُ مَنْشُورا قال معمر : وتلا الحسن : عَنِ اليَمِينِ وَعَنِ الشّمالِ قَعِيدٌ يا ابن آدم بسطت لك صحيفتك ، ووكل بك ملَكان كريمان ، أحدهما عن يمينك ، والاَخر عن يسارك . فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك . وأما الذي عن شمالك فيحفظ سيئاتك ، فاعمل ما شئت ، أقلل أو أكثر ، حتى إذا متّ طُويت صحيفتك ، فجعلت في عنقك معك في قبرك ، حتى تخرج يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كِتابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ اليَوْمَ عَلَيكَ حَسِيبا قد عدل والله عليك من جعلك حسيب نفسك .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : طائره : عمله ، ونخرج له بذلك العمل كتابا يلقاه منشورا .
وقد كان بعض أهل العربية يتأوّل قوله وكُلّ إنْسانٍ ألزَمناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ : أي حظه ، من قولهم : طار سهم فلان بكذا : إذا خرج سهمه على نصيب من الأنصباء وذلك وإن كان قولاً له وجه ، فإن تأويل أهل التأويل على ما قد بينت ، وغير جائز أن يتجاوز في تأويل القرآن ما قالوه إلى غيره ، على أن ما قاله هذا القائل ، إن كان عنى بقوله حظه من العمل والشقاء والسعادة ، فلم يبعد معنى قوله من معنى قولهم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.