معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ عَهِدۡنَآ إِلَىٰٓ ءَادَمَ مِن قَبۡلُ فَنَسِيَ وَلَمۡ نَجِدۡ لَهُۥ عَزۡمٗا} (115)

قوله تعالى :{ ولقد عهدنا إلى آدم من قبل } يعني : أمرناه وأوحينا إليه أن لا يأكل من الشجرة { من قبل } أي من هؤلاء الذين نقضوا عهدك وتركوا الإيمان بي ، وهم الذين ذكرهم الله في قوله تعالى : { لعلهم يتقون } { فنسي } فترك الأمر والمعنى أنهم نقضوا العهد ، فإن آدم أيضاً عهدنا إليه فنسي { ولم نجد له عزماً } قال الحسن : لم نجد له صبراً عما نهى الله عنه . وقال عطية العوفي : حفظاً لما أمر به . وقال ابن قتيبة : رأياً معزوماً حيث أطاع عدوه إبليس الذي حسده وأبى أن يسجد له . والعزم في اللغة : هو توطين النفس على الفعل . قال أبو أمامة الباهلي : لو وزن حلم آدم بحلم جميع ولده لرجح حلمه ، وقد قال الله : { ولم نجد له عزماً } فإن قيل : أتقولون إن آدم كان ناسياً لأمر الله حين أكل من الشجرة ؟ قيل : يجوز أن يكون نسي أمره ، ولم يكن النسيان في ذلك الوقت مرفوعاً عن الإنسان ، بل كان مؤاخذاً به ، وإنما رفع عنا . وقيل : نسى عقوبة الله وظن أنه نهاه تنزيهاً .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ عَهِدۡنَآ إِلَىٰٓ ءَادَمَ مِن قَبۡلُ فَنَسِيَ وَلَمۡ نَجِدۡ لَهُۥ عَزۡمٗا} (115)

{ 115 } { وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا }

أي : ولقد وصينا آدم وأمرناه ، وعهدنا إليه عهدا ليقوم به ، فالتزمه ، وأذعن له وانقاد ، وعزم على القيام به ، ومع ذلك نسي ما أمر به ، وانتقضت عزيمته المحكمة ، فجرى عليه ما جرى ، فصار عبرة لذريته ، وصارت طبائعهم مثل طبيعته ، نسي آدم فنسيت ذريته ، وخطئ فخطئوا ، ولم يثبت على العزم المؤكد ، وهم كذلك ، وبادر بالتوبة من خطيئته ، وأقر بها واعترف ، فغفرت له ، ومن يشابه أباه فما ظلم .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ عَهِدۡنَآ إِلَىٰٓ ءَادَمَ مِن قَبۡلُ فَنَسِيَ وَلَمۡ نَجِدۡ لَهُۥ عَزۡمٗا} (115)

ثم ساق - سبحانه - جانبا من قصة آدم - عليه السلام - فذكر لنا كيف أنه نسى عهد ربه له ، فأكل من الشجرة التى نهاه الله - تعالى - عن الأكل منها ، ومع ذلك فقد قبل - سبحانه - توبته ، وغسل حوبته . . . قال - تعالى - : { وَلَقَدْ عَهِدْنَآ . . . } .

اللام فى قوله - تعالى - : { وَلَقَدْ عَهِدْنَآ . . . } هى الموطئة للقسم ، والمعهود محذوف ، وهو النهى عن الأكل من شجرة معينة ، كما وضحه فى آيات أخرى منها قوله - تعالى - : { وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة فَتَكُونَا مِنَ الظالمين } أى : والله لقد عهدنا إلى آدم - عليه السلام - وأوصيناه ألا يقرب تلك الشجرة { مِن قَبْلُ } أن يخالف أمرنا فيقربها ويأكل منها ، أو من قبل أن نخبرك بذلك - أيها الرسول الكريم - .

والفاء فى قوله { فَنَسِيَ } للتعقيب ، والمفعول محذوف . أى : فنسى العهد الذى أخذناه عليه بعدم الأكل منها .

والنسيان هنا يرى بعضهم أنه بمعنى الترك ، وقد ورد النسيان بمعنى الترك فى كثير من آيات القرآن الكريم . ومن ذلك قوله - تعالى - : { وَقِيلَ اليوم نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا } أى : نترككم كما تركتم لقاء يومكم هذا وهو يوم القيامة .

وعليه يكون المعنى : ولقد عهدنا إلى آدم من قبل بعدم الأكل من الشجرة فترك الوفاء بعهدنا وخالف ما أمرناه به .

وعلى هذا التفسير فلا إشكال فى وصف الله - تعالى - له بقوله : { ءَادَمُ رَبَّهُ فغوى } لأن آدم بمخالفته لما نهاه الله - تعالى - عنه وهو الأكل من الشجرة - صار عاصيا لأمر ربه .

ومن العلماء من يرى أن النسيان هنا على حقيقته ، أى : أنه ضد التذكر فيكون المعنى : ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسى ما عاهدناه عليه ، وغاب عن ذهنه ما نهيناه عنه ، وهو الأكل من الشجرة .

فإن قيل : إن الناسى معذور . فكيف قال الله - تعالى - فى حقه : { وعصى ءَادَمُ رَبَّهُ فغوى } فالجواب : أن آدم - عليه السلام - لم يكن معذورا بالنسيان ، لأن الذر بسبب الخطأ والنسيان والإكراه . من خصائص هذه الأمة الإسلامية ، بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم - : " إن الله تجاوز لى عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه " .

قال القرطبى ما ملخصه : قوله - تعالى - : { وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إلى ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ . . } . للنسيان معنيان : أحدهما : الترك ، أى ترك الأمر والعهد ، وهذا قول مجاهد وأكثر المفسرين ، ومنه { نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ } وثانيهما : قال ابن عباس : " نسى " هنا من السهو والنسيان ، وإنما أخذ الإنسان من أنه عهد إليه فنسى . . . وعلى هذا القول يحتمل أن يكون آدم فى ذلك الوقت مؤاخذا بالنسيان ، وإن كان النسيان عنا اليوم مرفوعا .

والمراد تسلية النبى - صلى الله عليه وسلم - أى : أن طاعة بنى آدم للشيطان أمر قديم أى : إن نقَض هؤلاء - المشركون - العهد ، فإن آدم - أيضا - عهدنا إليه فنسى . . . " .

وقوله : { وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } مقرر لما قبله من غفلة آدم عن الوفاء بالعهد .

قال الجمل : وقوله : { نَجِدْ } يحتمل أنه من الوجدان بمعنى العلم ، فينصب مفعولين ، وهما " له " و " عزما " ويحتمل أنه من الوجود الذى هو ضد العدم فينصب مفعولا وهو { عَزْماً } والجار والمجرور متعلق بنجد .

والعزم : توطين النفس على الفعل ، والتصميم عليه ، والمضى فى التنفيذ للشىء . .

أى : فنسى آدم عهدنا ، ولم نجد له ثبات قدم فى الأمور ، يجعله يصبر على عدم الأكل من الشجرة بل لانت عريكته وفترت همته بسبب خديعة الشيطان له .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ عَهِدۡنَآ إِلَىٰٓ ءَادَمَ مِن قَبۡلُ فَنَسِيَ وَلَمۡ نَجِدۡ لَهُۥ عَزۡمٗا} (115)

قال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سِنَان ، حدثنا أسباط بن محمد ، حدثنا الأعمش ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : إنما سمي الإنسان لأنه عهد إليه فنسي . وكذا رواه علي بن أبي طلحة ، عنه .

وقال مجاهد والحسن : تَرَكَ .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ عَهِدۡنَآ إِلَىٰٓ ءَادَمَ مِن قَبۡلُ فَنَسِيَ وَلَمۡ نَجِدۡ لَهُۥ عَزۡمٗا} (115)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَىَ ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً } .

يقول تعالى ذكره : وإن يضيع يا محمد هؤلاء الذين نصرّف لهم في هذا القرآن من الوعيد عهدي ، ويخالفوا أمري ، ويتركوا طاعتي ، ويتبعوا أمر عدوّهم إبليس ، ويطيعوه في خلاف أمري ، فقديما ما فعل ذلك أبوهم آدم وَلَقَدْ عَهِدْنا إلَيْهِ يقول : ولقد وصينا آدم وقلنا له : إنّ هَذَا عَدُوّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنّكُما منَ الجَنّةِ فوسوس إليه الشيطان فأطاعه ، وخالف أمري ، فحلّ به من عقوبتي ما حلّ .

وعنى جلّ ثناؤه بقوله : مِنْ قَبْلُ هؤلاء الذين أخبر أنه صرف لهم الوعيد في هذا القرآن وقوله : فَنَسِيَ يقول : فترك عهدي ، كما :

حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : " وَلَقَدْ عَهِدْنا إلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ " يقول : فترك .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : فَنَسِيَ قال : ترك أمر ربه .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : " وَلَقَدْ عَهِدْنا إلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْما " قال : قال له " يا آدَمُ إِن هَذَا عَدُوّ لَكَ وَلِزَوْجِك فَلا يُخْرِجَنّكُمَا مِنَ الجَنّةِ فَتَشْقَى " فقرأ حتى بلغ : " لا تَظْمَأُ فِيها وَلا تَضْحَى " ، وقرأ حتى بلغ : " وَمُلْكٍ لا يَبْلَى " قال : فنسي ما عهد إليه في ذلك ، قال : وهذا عهد الله إليه ، قال : ولو كان له عزم ما أطاع عدوّه الذي حسده ، وأبى أن يسجد له مع مَنْ سجد له إبليس ، وعصى الله الذي كرّمه وشرّفه ، وأمر ملائكته فسجدوا له .

حدثنا ابن المثنى وابن بشار قالا : حدثنا يحيى بن سعيد ، وعبد الرحمن ، ومؤمل ، قالوا : حدثنا سفيان ، عن الأعمش ، عن مسلم البطين ، عن سعيد بن جُبير ، عن ابن عباس ، قال : إنما سُمي الإنسان لأنه عهد إليه فنسي .

وقوله : " ولَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْما " اختلف أهل التأويل في معنى العزم ها هنا ، فقال بعضهم : معناه الصبر . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : " ولَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْما " أي صبرا .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا محمد بن جعفر ، قال : حدثنا شعبة ، عن قتادة " ولَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْما " ، قال : صبرا .

حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجَوْزَجاني ، قال : حدثنا أبو النضر ، قال : حدثنا شعبة ، عن قتادة ، مثله .

وقال آخرون : بل معناه : الحفظ ، قالوا : ومعناه : ولم نجد له حفظا لما عهدنا إليه . ذكر من قال ذلك :

حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، عن أبيه ، عن عطية " ولَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْما " قال : حفظا لما أمرته .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هاشم بن القاسم ، عن الأشجعيّ ، عن سفيان ، عن عمرو بن قيس ، عن عطية ، في قوله " ولَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْما " قال : حفظا .

حدثنا عباد بن محمد ، قال : حدثنا قبيصة ، عن سفيان ، عن عمرو بن قيس ، عن عطية ، في قوله " ولَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْما " قال : حفظا لما أمرته به .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : " ولَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْما " يقول : لم نجد له حفظا .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : " ولَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْما " قال : العزم : المحافظة على ما أمره الله تبارك وتعالى بحفظه ، والتمسك به .

حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : " ولَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْما " يقول : لم نجعل له عزما .

حدثني القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : حدثنا الحجاج بن فضالة ، عن لقمان بن عامر ، عن أبي أمامة قال : لو أن أحلام بني آدم جمعت منذ يوم خلق الله تعالى آدم إلى يوم الساعة ، ووضعت في كفة ميزان ، ووضع حلم آدم في الكفة الأخرى ، لرجح حلمه بأحلامهم ، وقد قال الله تعالى : " ولَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْما " .

قال أبو جعفر : وأصل العزم اعتقاد القلب على الشيء ، يقال منه : عزم فلان على كذا : إذا اعتقد عليه ونواه ومن اعتقاد القلب : حفظ الشيء ، ومنه الصبر على الشيء ، لأنه لا يجزع جازع إلا من خور قلبه وضعفه ، فإذا كان ذلك كذلك ، فلا معنى لذلك أبلغ مما بينه الله تبارك وتعالى ، وهو قوله : " ولَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْما " فيكون تأويله : ولم نجد له عزم قلب ، على الوفاء لله بعهده ، ولا على حفظ ما عهد إليه .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ عَهِدۡنَآ إِلَىٰٓ ءَادَمَ مِن قَبۡلُ فَنَسِيَ وَلَمۡ نَجِدۡ لَهُۥ عَزۡمٗا} (115)

قال الطبري المعنى وإن يعرض يا محمد هؤلاء الكفرة عن آياتي ويخالفوا رسلي ويطيعوا إبليس فقدماً فعل ذلك أبوهم آدم ع وهذا التأويل ضعيف ، وذلك أن يكون { آدم } مثالاً للكفار الجاحدين بالله ليس بشيء ، و { آدم } إنما عصى بتأويل ففي هذا غضاضة عليه صلى الله عليه وسلم وأما الظاهر في هذه الآية ، إما أن يكون ابتداء قصص لا تعلق له بما قبله ، وإما أن يجعل تعلقه أنه لما عهد إلى محمد صلى الله عليه وسلم أن لا يعجل بالقرآن مثل له بنبي قبله عهد إليه { فنسي } فعوقب لتكون أشد في التحذير وأبلغ في العهد إلى محمد صلى الله عليه وسلم . و «العهد » هنا في معنى الوصية . و «نسي » معناه ترك ، والنسيان الذهول لكن هنا أنه لا يتعلق بالناسي عقاب ، وقرأ الأعمش «فنسي » بسكون الياء ووجهها طلب الخفة ، و «العزم » المضي على المعتقد في أي شيء كان ، وآدم عليه السلام كان معتقداً لأن لا يأكل من الشجرة لما وسوس إليه إبليس لم يعزم على معتقده ، وعبر بعض المفسرين عن العزم هنا بالصبر وبالحفظ وبغير ذلك مما هو أعم من حقيقة العزم والشيء الذي عهد إلى آدم هو أن يقرب الشجرة وأعلم مع ذلك أن إبليس عدو له ، وقال أبو أمامة لو أن أحلام بني آدم وضعت منذ خلق الله إلى يوم القيامة ووضعت في كفة ميزان ووضع حلم آدم في كفة أخرى لرجحهم ، وقد قال الله له { ولم نجد له عزماً } .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ عَهِدۡنَآ إِلَىٰٓ ءَادَمَ مِن قَبۡلُ فَنَسِيَ وَلَمۡ نَجِدۡ لَهُۥ عَزۡمٗا} (115)

لما كانت قصة موسى عليه السلام مع فرعون ومع قومه ذات عبرة للمكذبين والمعاندين الذين كذبوا النبي صلى الله عليه وسلم وعاندوه ، وذلك المقصود من قَصَصها كما أشرنا إليه آنفاً عند قوله { كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكراً من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزراً } [ طه : 99 ، 100 ] فكأن النبي صلى الله عليه وسلم استحب الزيادة من هذه القِصص ذات العبرة رجاء أن قومه يفيقون من ضلالتهم كما أشرنا إليه قريباً عند قوله { ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه } [ طه : 114 ] ؛ أعقبت تلك القصة بقصة آدم عليه السلام وما عرّض له به الشيطان ، تحقيقاً لفائدة قوله { وقل رب زدني علماً } [ طه : 114 ] . فالجملة عطف قصة على قصة والمناسبة ما سمعتَ .

والكلام معطوف على جملة { كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق } . وافتتاح الجملة بحرف التحقيق ولام القسم لمجرد الاهتمام بالقصة تنبيهاً على قصد التنظير بين القصتين في التفريط في العهد ، لأن في القصة الأولى تفريط بني إسرائيل في عهد الله ، كما قال فيها { ألم يعدكم ربكم وعداً حسناً أفطال عليكم العهد } [ طه : 86 ] ، وفي قصة آدم تفريطاً في العهد أيضاً . وفي كون ذلك من عمل الشيطان كما قال في القصة الأولى { وكذلك سولت لي نفسي } [ طه : 96 ] وقال في هذه { فوسوس إليه الشيطان } [ طه : 120 ] . وفي أن في القصتين نسياناً لما يجب الحفاظ عليه وتذكره فقال في القصة الأولى { فَنَسِيَ } [ طه : 16 ] وقال في هذه القصة { فنسي ولم نجد له عزماً } .

وعليه فقوله { من قبلُ } حُذف ما أضيف إليه ( قبلُ ) . وتقديره : من قبل إرسال موسى أو من قبل ما ذكر ، فإن بناء ( قبلُ ) على الضم علامة حذف المضاف إليه ونيّة معناه . والذي ذكر : إما عهد موسى الذي في قوله تعالى : { وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى } [ طه : 13 ] وقوله { فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى } [ طه : 16 ] ؛ وإما عهد الله لبني إسرائيل الذي ذكّرهم به موسى عليه السلام لما رجع إليهم غضبان أسفاً ، وهو ما في قوله { أفطال عليكم العهد } [ طه : 86 ] الآية .

والمراد بالعهد إلى آدم : العهد إليه في الجنّة التي أنسي فيها .

والنسيان : أطلق هنا على إهمال العمل بالعهد عمداً ، كقوله في قصة السامري { فَنَسي } ، فيكون عصياناً ، وهو الذي يقتضيه قوله تعالى : { وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين } الآية ، وقد مضت في سورة الأعراف ( 20 ، 21 ) . وهذا العهد هو المُبيّن في الآية بقوله { فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك } [ طه : 117 ] الآية .

والعزم : الجزم بالفعل وعدم التردد فيه ، وهو مغالبة ما يدعو إليه الخاطر من الانكفاف عنه لعسر عمله أو إيثار ضده عليه . وتقدم قوله تعالى : { وإن عزموا الطلاق } في سورة البقرة ( 227 ) . والمراد هنا : العزم على امتثال الأمر وإلغاءُ ما يحسِّن إليه عدمَ الامتثال ، قال تعالى : { فإذا عزمت فتوكل على الله } [ آل عمران : 159 ] ، وقال { فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل } [ الأحقاف : 35 ] ، وهم نوح ، وإبراهيم ، وإسماعيل ، ويعقوب ، ويوسف ، وأيوب ، وموسى ، وداوود ، وعيسى عليهم السلام .

واستعمل نفي وجدان العزم عند آدم في معنى عدم وجود العزم من صفته فيما عهد إليه تمثيلاً لحال طلب حصوله عنده بحال الباحث على عزمه فلم يجده عنده بعد البحث .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ عَهِدۡنَآ إِلَىٰٓ ءَادَمَ مِن قَبۡلُ فَنَسِيَ وَلَمۡ نَجِدۡ لَهُۥ عَزۡمٗا} (115)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: وإن يضيع يا محمد هؤلاء الذين نصرّف لهم في هذا القرآن من الوعيد عهدي، ويخالفوا أمري، ويتركوا طاعتي، ويتبعوا أمر عدوّهم إبليس، ويطيعوه في خلاف أمري، فقديما ما فعل ذلك أبوهم آدم "وَلَقَدْ عَهِدْنا "إلَيْهِ يقول: ولقد وصينا آدم وقلنا له: "إنّ هَذَا عَدُوّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنّكُما منَ الجَنّةِ" فوسوس إليه الشيطان فأطاعه، وخالف أمري، فحلّ به من عقوبتي ما حلّ.

وعنى جلّ ثناؤه بقوله: "مِنْ قَبْلُ" هؤلاء الذين أخبر أنه صرف لهم الوعيد في هذا القرآن.

وقوله: "فَنَسِيَ" يقول: فترك عهدي...

وقوله: "ولَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْما" اختلف أهل التأويل في معنى العزم ها هنا؛ فقال بعضهم: معناه الصبر...

وقال آخرون: بل معناه: الحفظ، قالوا: ومعناه: ولم نجد له حفظا لما عهدنا إليه...

وأصل العزم اعتقاد القلب على الشيء، يقال منه: عزم فلان على كذا: إذا اعتقد عليه ونواه، ومن اعتقاد القلب: حفظ الشيء، ومنه الصبر على الشيء، لأنه لا يجزع جازع إلا من خور قلبه وضعفه، فإذا كان ذلك كذلك، فلا معنى لذلك أبلغ مما بينه الله تبارك وتعالى، وهو قوله: "ولَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْما" فيكون تأويله: ولم نجد له عزم قلب، على الوفاء لله بعهده، ولا على حفظ ما عهد إليه.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

إن قوله: {فنسي} أي ضيع، وترك، ليس نسيان السهو، لأنه عوتب عليه، وعوقب به، ولا يعاتب المرء على ما هو حقيقة السهو والنسيان. فدل أنه على التضييع والترك، ليس على النسيان والسهو. إلى هذا يذهب هؤلاء.لكن يقبح هذا: أن يقال في آدم أو في نبي من أنبيائه أو في رسول من رسله صلى الله عليه وسلم إنه ضيع. والنسيان عندنا على قسمين أحدهما: نسيان يكون عن غفلة منه وشغل، ما لولا ذلك الشغل منه والغفلة لحفظه وذكره ولا ينساه. والمعاتبة جائزة على هذا النسيان؛ إذ لو كان تكلف لكان لا ينساه ولا يقع فيه. والثاني: نسيان يقع فيه من غير سبب، كان منه، لا يملك دفعه. وذلك نسيان ما لا يعاتب عليه، ولا يعاقب به.

جهود الإمام الغزالي في التفسير 505 هـ :

اعلم أن العزم عبارة عن القصد المؤكد، قال الله تعالى: {فنسي ولم نجد له عزما} أي قصدا بليغا، وسمي بعض الرسل: أولي العزم لتأكد قصدهم في طلب الحق. والعزيمة في لسان حملة الشرع: عبارة عما لزم العباد بإيجاب الله تعالى.

{المستصفى: 1/98].

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

والمعنى: وأقسم قسماً لقد أمرنا أباهم آدم ووصيناه أن لا يقرب الشجرة، وتوعدناه بالدخول في جملة الظالمين إن قربها، وذلك من قبل وجودهم ومن قبل أن نتوعدهم، فخالف إلى ما نهي عنه، وتوعد في ارتكابه مخالفتهم، ولم يلتفت إلى الوعيد كما لا يلتفتون، كأنه يقول: إنّ أساس أمر بني آدم على ذلك، وعرقهم راسخ فيه.

فإن قلت: ما المراد بالنسيان؟ قلت يجوز أن يراد النسيان الذي هو نقيض الذكر، وأنه لم يعن بالوصية العناية الصادقة، ولم يستوثق منها بعقد القلب عليها وضبط النفس، حتى تولد من ذلك النسيان. وأن يراد الترك وأنه ترك ما وصى به من الاحتراس عن الشجرة وأكل ثمرتها...

العزم: التصميم والمضيّ على ترك الأكل، وأن يتصلب في ذلك تصلباً يؤيس الشيطان من التسويل له. والوجود: يجوز أن يكون بمعنى العلم... وأن يكون نقيض العدم كأنه قال: وعدمنا له عزماً.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

اعلم أن هذا هو المرة السادسة من قصة آدم عليه السلام في القرآن: أولها في سورة البقرة ثم في الأعراف ثم في الحجر ثم في الإسراء ثم في الكهف، ثم ههنا. واعلم أن في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوها...

أنه لما قال: {وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا} أردفه بقصة آدم عليه السلام كأنه قال: إن طاعة بني آدم للشيطان وتركهم التحفظ من وساوسه أمر قديم؛ فإنا قد عهدنا إلى آدم من قبل أي من قبل هؤلاء الذين صرفنا لهم الوعيد وبالغنا في تنبيهه حيث قلنا: {إن هذا عدو لك ولزوجك} ثم إنه مع ذلك نسي وترك ذلك العهد، فأمر البشر في ترك التحفظ من الشيطان أمر قديم...

أنه لما قال لمحمد صلى الله عليه وسلم: {وقل رب زدني علما} ذكر بعده قصة آدم عليه السلام فإنه بعدما عهد الله إليه وبالغ في تجديد العهد وتحذيره من العدو نسي، فقد دل ذلك على ضعف القوة البشرية عن التحفظ فيحتاج حينئذ إلى الاستعانة بربه في أن يوفقه لتحصيل العلم ويجنبه عن السهو والنسيان.

أن محمدا صلى الله عليه وسلم لما قيل له: {ولا تعجل بالقرآن من قبل إن يقضي إليك وحيه} دل على أنه كان في الجد في أمر الدين بحيث زاد على قدر الواجب، فلما وصفه بالإفراط، وصف آدم بالتفريط في ذلك فإنه تساهل في ذلك ولم يتحفظ حتى نسي فوصف الأول بالتفريط والآخر بالإفراط ...

... أن محمدا صلى الله عليه وسلم لما قيل له: {ولا تعجل} ضاق قلبه وقال في نفسه: لولا أني أقدمت على ما لا ينبغي وإلا لما نهيت عنه، فقيل له: إن كنت فعلت ما نهيت عنه فإنما فعلته حرصا منك على العبادة، وحفظا لأداء الوحي وإن أباك أقدم على ما لا ينبغي للتساهل وترك التحفظ فكان أمرك أحسن من أمره...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

{ولقد عهدنا} بما لنا من العظمة {إلى آدم} أبي البشر الذي أطلعناه على كثير منها في النهي عن الأكل من الشجرة {من قبل} أي في زمن من الأزمان الماضية قبل هؤلاء الذين تقدم في هذه السورة ذكر نسيانهم وإعراضهم {فنسي} عهدنا وأكل منها مع علمه من تلك العظمة بما لا ينبغي أن ينسى معه ذلك العهد المؤكد بذلك الجلال، فعددنا عليه وقوعه في ذلك المنهيّ ناسياً ذنباً لعلو رتبته عندنا... {ولم نجد} بالنظر إلى ما لنا من العظمة {له عزماً} أي قصداً صلباً ماضياً وإرادة نافذة لا تردد فيها... والمعنى أنه لم يتعلق علمنا بذلك موجوداً، ومع ذلك عفونا عنه ولم نزحزحه عن رتبة الاصطفاء.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

ثم تجيء قصة آدم، وقد نسي ما عهد الله به إليه؛ وضعف أمام الإغراء بالخلود، فاستمع لوسوسة الشيطان: وكان هذا ابتلاء من ربه له قبل أن يعهد إليه بخلافة الأرض؛ ونموذجا من فعل إبليس يتخذ أبناء آدم منه عبرة. فلما تم الابتلاء تداركت آدم رحمة الله فاجتباه وهداه.. والقصص القرآني يجيء في السياق متناسقا معه. وقصة آدم هنا تجيء بعد عجلة الرسول بالقرآن خوف النسيان، فيذكر في قصة آدم نقطة النسيان. وتجيء في السورة التي تكشف عن رحمة الله ورعايته لمن يجتبيهم من عباده، فيذكر في قصة آدم أن ربه اجتباه فتاب عليه وهداه. ثم يعقبها مشهد من مشاهد القيامة يصور عاقبة الطائعين من أبنائه وعاقبة العصاة. وكأنما هي العودة من رحلة الأرض إلى المقر الأول ليجزى كل بما قدمت يداه...

(ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما)..

وعهد الله إلى آدم كان هو الأكل من كل الثمار سوى شجرة واحدة، تمثل المحظور الذي لا بد منه لتربية الإرادة، وتأكيد الشخصية، والتحرر من رغائب النفس وشهواتها بالقدر الذي يحفظ للروح الإنسانية حرية الانطلاق من الضرورات عندما تريد؛ فلا تستعبدها الرغائب وتقهرها. وهذا هو المقياس الذي لا يخطئ في قياس الرقي البشري، فكلما كانت النفس أقدر على ضبط رغائبها والتحكم فيها والاستعلاء عليها كانت أعلى في سلم الرقي البشري. وكلما ضعفت أمام الرغبة وتهاوت كانت أقرب إلى البهيمية وإلى المدارج الأولى.

من أجل ذلك شاءت العناية الإلهية التي ترعى هذا الكائن الإنساني أن تعده لخلافة الأرض باختبار إرادته، وتنبيه قوة المقاومة فيه، وفتح عينيه على ما ينتظره من صراع بين الرغائب التي يزينها الشيطان، وإرادته وعهده للرحمن. وها هي ذي التجربة الأولى تعلن نتيجتها الأولى: (فنسي ولم نجد له عزما) ثم تعرض تفصيلاتها...

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

... {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا}: ليس عنده عزيمة قوية تعينه على المضي والثبات في الأمر. فالحق – تبارك وتعالى – يريد أن يعطينا فكرة بأنه سبحانه حين يأمر بأمر فيه نفع لك تتهافت عليه، أما إذا أمر بشيء يقيد شهواتك تأبيت وخالفت، ومن هنا احتاج التكليف إلى عزيمة قوية تعينك على المضي فيه والثبات عليه، فإن أقبلت على الأمر الذي يخالف شهوتك نظرت فيه وتأملت: كيف أنه يعطيك شهوة عاجلة زائلة لكن يعقبها ذل آجل مستمر، فالعزم هنا ألا تغريك الشهوة... والعهد الذي أخذه الله على آدم أن يأكل رغدا من كل نعيم الجنة كما يشاء إلا شجرة واحدة حذره من مجرد الاقتراب منها هو وزوجه: {ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين (35)} (البقرة) وهذه المسألة تلفتنا إلى أن المحللات كثيرة لا تعد ولا تحصى أما المحرمات فقليلة معدودة محصورة...

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

ويعود القرآن إلى حديث الإنسان الأوّل آدم مراراً، للإيحاء بالضعف الإنساني الذي يعرّضه للسقوط أمام تجربة الإغراء، حتى يخيّل إليه أنه يمثل الفرصة السانحة السريعة التي إذا لم يستفد منها وينتهزها فإنه يتعرّض للحرمان الأبدي. ولذلك فإنه يبادر إلى انتهازها مدفوعاً بهذا التصور الوهمي، ثم يكتشف بعد الوقوع في المشكلة بأن المسألة ليست بهذه السهولة، وأن النتائج الإيجابية الموعودة ليست بهذا الحجم، فقد كان بإمكانه أن يصبر ويحصل على نتائج جيّدة أفضل، وأكثر دواماً وثباتاً. ثم يطل القرآن دائماً على إبليس باعتباره المظهر الحيّ للانحراف في ما يزينه للإنسان ويوسوس له، ويثير فيه المشاعر الشهوانية التي تنحرف به عن الصراط المستقيم، ليستذكر الإنسان دائماً بأن الشيطان أخرج أباه من الجنة. وقد كان من الممكن، بحسب طبيعة الأشياء، أن يستمر فيها مع أولاده، لولا ثأر الشيطان لطبيعته أمام النشأة الإنسانية الأولى.