مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَلَقَدۡ عَهِدۡنَآ إِلَىٰٓ ءَادَمَ مِن قَبۡلُ فَنَسِيَ وَلَمۡ نَجِدۡ لَهُۥ عَزۡمٗا} (115)

قوله تعالى :{ ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما ، وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى ، فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى ، إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى ، وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى }

اعلم أن هذا هو المرة السادسة من قصة آدم عليه السلام في القرآن : أولها في سورة البقرة ثم في الأعراف ثم في الحجر ثم في الإسراء ثم في الكهف ، ثم ههنا . واعلم أن في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوها . أحدها : أنه تعالى لما قال : { كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق } ثم إنه عظم أمر القرآن وبالغ فيه ذكر هذه القصة انجازا للوعد في قوله : { كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق } . وثانيها : أنه لما قال : { وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا } أردفه بقصة آدم عليه السلام كأنه قال : إن طاعة بني آدم للشيطان وتركهم التحفظ من وساوسه أمر قديم فإنا قد عهدنا إلى آدم من قبل أي من قبل هؤلاء الذين صرفنا لهم الوعيد وبالغنا في تنبيهه حيث قلنا : { إن هذا عدو لك ولزوجك } ثم إنه مع ذلك نسي وترك ذلك العهد فأمر البشر في ترك التحفظ من الشيطان أمر قديم . وثالثها : أنه لما قال لمحمد صلى الله عليه وسلم : { وقل رب زدني علما } ذكر بعده قصة آدم عليه السلام فإنه بعدما عهد الله إليه وبالغ في تجديد العهد وتحذيره من العدو نسي ، فقد دل ذلك على ضعف القوة البشرية عن التحفظ فيحتاج حينئذ إلى الاستعانة بربه في أن يوفقه لتحصيل العلم ويجنبه عن السهو والنسيان . ورابعها : أن محمدا صلى الله عليه وسلم لما قيل له : { ولا تعجل بالقرآن من قبل إن يقضي إليك وحيه } دل على أنه كان في الجد في أمر الدين بحيث زاد على قدر الواجب فلما وصفه بالإفراط وصف آدم بالتفريط في ذلك فإنه تساهل في ذلك ولم يتحفظ حتى نسي فوصف الأول بالتفريط والآخر بالإفراط ليعلم أن البشر لا ينفك عن نوع زلة . وخامسها : أن محمدا صلى الله عليه وسلم لما قيل له : { ولا تعجل } ضاق قلبه وقال في نفسه : لولا أني أقدمت على ما لا ينبغي وإلا لما نهيت عنه فقيل له : إن كنت فعلت ما نهيت عنه فإنما فعلته حرصا منك على العبادة ، وحفظا لأداء الوحي وإن أباك أقدم على ما لا ينبغي للتساهل وترك التحفظ فكان أمرك أحسن من أمره ، أما قوله تعالى : { ولقد عهدنا إلى آدم من قبل } فلا شك أن المراد بالعهد أمر من الله تعالى أو نهي منه كما يقال في أوامر الملوك ووصاياهم أشار الملك إليه وعهد إليه . قال المفسرون : عهدنا إليه أن لا يأكل من الشجرة ولا يقربها ، وفي قوله تعالى : { من قبل } وجوه . أحدها : من قبل هؤلاء الذين صرفنا لهم الوعيد في القرآن . وثانيها : قال ابن عباس : من قبل أن يأكل من الشجرة عهدنا إليه أن لا يأكل منها . وثالثها : أي من قبل محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن وهو قول الحسن ، أما قوله : { فنسي } فقد تكلمنا فيه على سبيل الاستقصاء في سورة البقرة ، ونعيد ههنا منه شيئا قليلا ، وفي النسيان قولان : أحدهما : المراد ما هو نقيض الذكر ، وإنما عوتب على ترك التحفظ والمبالغة في الضبط حتى تولد منه النسيان ، وكان الحسن رحمه الله يقول : والله ما عصى قط إلا بنسيان . والثاني : أن المراد بالنسيان الترك وأنه ترك ما عهد إليه من الاحتراز عن الشجرة وأكل من ثمرتها ، وقرئ : فنسي أي فنساه الشيطان ، وعلى هذا التقدير يحتمل أن يقال : أقدم على المعصية من غير تأويل وأن يقال : أقدم عليها مع التأويل ، والكلام فيه قد تقدم في سورة البقرة ، وأما قوله : { ولم نجد له عزما } ففيه أبحاث :

البحث الأول : الوجود يجوز أن يكون بمعنى العلم ومنه ولم نجد له عزما وأن يكون نقيض العدم كأنه قال : وعدمنا له عزما .

البحث الثاني : العزم هو التصميم والتصلب ، ثم قوله : { ولم نجد له عزما } يحتمل ولم نجد له عزما على القيام على المعصية فيكون إلى المدح أقرب ، ويحتمل أن يكون المراد ولم نجد له عزما على ترك المعصية أو لم نجد له عزما على التحفظ والاحتراز عن الغفلة ، أو لم نجد له عزما على الاحتياط في كيفية الاجتهاد إذا قلنا : إنه عليه السلام إنما أخطأ بالاجتهاد .