{ فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ } عند استجابتنا له ، سببا ووسيلة للنجاة ، قبل وقوع أسبابه ، { أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ } أي : السفينة { بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا } أي : بأمرنا لك ومعونتنا ، وأنت في حفظنا وكلاءتنا بحيث نراك ونسمعك .
{ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا } بإرسال الطوفان الذي عذبوا به { وَفَارَ التَّنُّورُ } أي : فارت الأرض ، وتفجرت عيونا ، حتى محل النار ، الذي لم تجر العادة إلا ببعده عن الماء ، { فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ } أي : أدخل في الفلك من كل جنس من الحيوانات ، ذكرا وأنثى ، تبقى مادة النسل لسائر الحيوانات ، التي اقتضت الحكمة الربانية إيجادها في الأرض ، { وَأَهْلَكَ } أي : أدخلهم { إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ } كابنه ، { وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا } أي : لا تدعني أن أنجيهم ، فإن القضاء والقدر ، قد حتم أنهم مغرقون .
وقد أجاب الله - تعالى - دعاء عبده نوح فقال : { فَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ } أى : فأوحينا إليه فى أعقاب دعائه وتضرعه .
{ أَنِ اصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا } أى : أوحينا إليه أن ابتدىء يا نوح فى صنع السفينة وأنت تحت رعايتنا وحفظنا ، وسنرسل إليك وحينا ليرشدك إلى ما أنت فى حاجة إليه من إتقان صنع السفينة ، ومن غير ذلك من شئون .
وفى التعبير بقوله - سبحانه - { أَنِ اصنع } إشارة إلى أن نوحاً - عليه السلام - قد باشر بنفسه صنع السفينة التى هى وسيلة النجاة له وللؤمنين معه .
وقى قوله - تعالى - : { بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا } إشارة إلى أن نوحاً بجانب مباشرته للصنع بنفسه ، كان مزوداً من الله - تعالى - بالعناية والرعاية وبحسن التوجيه والإرشاد عن طريق الوحى الأمين .
وذلك لأن سنة الله - تعالى - قد اقتضت أن لا يضيع عمل عباده المخلصين ، الذين يبذلون أقصى جهدهم فى الوصول إلى غاياتهم الشريفة .
والباء فى قوله { بِأَعْيُنِنَا } للملابسة ، والجار والمجرور فى موضع الحال من ضمير " اصنع " .
والفاء فى قوله - سبحانه - { فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا } لترتيب مضمون ما بعدها على إتمام صنع السفينة .
والمراد بالأمر هنا : العذاب الذى أعده الله - تعالى - لهؤلاء الظالمين من قوم نوح - عليه السلام - . ويشهد لذلك قوله - سبحانه - فى آية أخرى : { لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ } أى : من عذابه { إِلاَّ مَن رَّحِمَ } والمراد بمجىء هذا الأمر : اقتراب وقته ، ودنو ساعته ، وظهور علاماته وقوله - تعالى : { وَفَارَ التنور } بيان وتفسير لمجىء هذا الأمر ، وحلول وقت إهلاكهم .
وقوله : { فَارَ } من الفوران : بمعنى شدة الغليان للماء وغيره . يقال للماء فار إذا اشتد غليانه . ويقال للنار فارت إذا عظم هيجانها . ومنه قوله - تعالى - { إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ } وللمفسرين فى المراد بلفظ { التنور } أقوال منها : أن المراد به الشىء الذى يخبز فيه الخبز ، وهو ما يسمى بالموقد أو الفرن .
ومنها أن المراد به وجه الأرض . أو موضع اجتماع الماء فى السفينة ، أو طلوع الفجر . . . وقد رجح الإمام ابن جرير القول الأول فقال : وألوى الأقوال بالصواب قول من قال : وهو التنور الذى يخبر فيه ، لأن هذا هو المعروف من كلام العرب . . .
ويبدو أن فوران التنور كان علامة لنوح على أن موعد إهلاك الكافرين من قومه قد اقترب .
أى : فإذا اقترب موعد إهلاك قومك الظالمين يا نوح ، ومن علامة ذلك أن ينبع الماء من التنور ويفوز فوراناً شديداً { فاسلك فِيهَا } فأدخل فى السفينة { مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين } ولفظ { زَوْجَيْنِ } تثنية زوج . والمراد به هنا : الذكر والأنثى من كل نوع .
وقراءة الجمهور : { مِن كُلِّ زَوْجَيْنِ اثنين } بدون تنوين للفظ كل ، وبإضافته إلى زوجين . .
وقرأ حفص { مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين } بتنوين كل ، وهو تنوين عوض عن مضاف إليه . والتقدير : فأدخل فى السفينة من كل نوع من أنواع المخلوقات التى أنت فى حاجة إليها ذكراً وأنثى ، ويكون لفظ { زَوْجَيْنِ } مفعولاً لقوله { فاسلك } ولفظ اثنين : صفة له .
والمراد بأهله فى قوله - تعالى - { وَأَهْلَكَ } : أهل بيته كزوجته وأولاده المؤمنين ، ويدخل فيهم كل من آمن به - عليه السلام - سواء أكان من ذوى قرابته أم من غيرهم ، بدليل قوله - تعالى - فى سورة هود : { قُلْنَا احمل فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول وَمَنْ آمَنَ وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ } وجملة : { إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول مِنْهُمْ } استثناء من الأهل . والمراد بمن سبق عليه القول منهم : من بقى على كفره ولم يؤمن برسالة نوح - عليه السلام - كزوجته وابنه كنعان .
أى : أدخل فى السفينة ذكراص وأنثى من أنواع المخلوقات ، وأدخل فيها - أيضاً - المؤمنين من أهلك ومن غيرهم ، إلا الذين سبق منا القول بهلاكهم بسبب إصرارهم على الكفر . فلا تدخلهم فى السفينة ، بل اتركهم خارجها ليغرقوا مع المغرقين .
قال الآلوسى : وجىء بعلى فى قوله : { إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول مِنْهُمْ } لكون السابق ضارا ، كما جىء باللام فى قوله : { إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى } لكون السابق نافعاً .
وقوله - تعالى - : { وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الذين ظلموا إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ } نهى منه - سبحانه - لنوح - عليه السلام - عن الشفاعة لهؤلاء الكافرين ، أو عن طلب تأخير العذاب المهلك لهم .
أى : اترك يا نوح هؤلاء الظالمين ، ولا تكملنى فى شأنهم ، كأن تطلب الشفاعة لهم أو تأخير العذاب عنهم ، فإنهم مقضى عليهم بالإغراق لا محالة . ولا مبدل لحكمى أو إرادتى .
ويبدو - والله أعلم - أن هذه الجملة الكريمة ، كانت نهيا من الله - تعالى - لنوح عن الشفاعة فى ابنه الذى غرق مع المغرقين ، والذى حكى القرآن فى سورة هود أن نوحاً قد قال فى شأنه :
{ رَبِّ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين }
( فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا ، فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين ، وأهلك - إلا من سبق عليه القول منهم - ولا تخاطبني في الذين ظلموا . إنهم مغرقون ) . .
وهكذا مضت سنة الله في تطهير الطريق من العقبات المتحجرة لتمضي الحياة في طريقها المرسوم . ولما كانت البشرية قد أسنت على عهد نوح ، وجمدت كالشجرة الناشئة تعوقها الآفة عن النمو فتيبس وتعجز وهي رقيقة العود . . كان العلاج هو الطوفان ، الذي يجتب كل شيء ، ويجرف كل شيء . ويغسل التربة ، لتعاد بذرة الحياة السليمة من جديد ، فتنشأ على نظافة ، فتمد وتكبر حتى حين :
( فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا ) . . والفلك وسيلة للنجاة من الطوفان ، ولحفظ بذور الحياة السليمة كيما يعاد بذرها من جديد . وقد شاء الله أن يصنع نوح الفلك بيده ، لأنه لا بد للإنسان من الأخذ بالأسباب والوسائل ، وبذل آخر ما في طوقه ، ليستحق المدد من ربه . فالمدد لا يأتي للقاعدين المستريحين المسترخين ، الذين ينتظرون ولا يزيدون شيئا على الانتظار ! ونوح قدر الله له أن يكون أبا البشر الثاني ؛ فدفع به إلى الأخذ بالأسباب ؛ مع رعاية الله له ، وتعليمه صناعة الفلك ، ليتم أمر الله ، وتتحقق مشيئته عن هذا الطريق .
وجعل الله له علامة للبدء بعملية التطهير الشاملة لوجه الأرض المؤوف : ( فإذا جاء أمرنا وفار التنور ) ، وانبجس منه الماء ، فتلك هي العلامة ليسارع نوح ، فيحمل في السفينة بذور الحياة : ( فاسلك فيها من كل زوجين اثنين ) . . من أنواع الحيوان و الطيور والنبات المعروفة لنوح في ذلك الزمان ، الميسرة كذلك لبني الإنسان ( وأهلك إلا من سبق عليه القول منهم )وهم الذين كفروا وكذبوا ، فاستحقوا كلمة الله السابقة ، وسنته النافذة ، وهي الهلاك للمكذبين بآيات الله .
وصدر الأمر الأخير لنوح ألا يجادل في أمر أحد ، ولا يحاول إنقاذ أحد - ولو كان أقرب الأقربين إليه - ممن سبق عليهم القول .
( ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون ) .
فسنة الله لا تحابي ، ولا تنحرف عن طريقها الواحد المستقيم ، من أجل خاطر ولي ولا قريب !
جملة { أن اصنع } جملة مفسره لِجملة { أوحينا } لأن فعل { أوحينا } فيه معنى القول دون حروفه ، وتقدم نظير جملة { واصنع الفلك بأعيننا ووحينا } في سورة هود ( 37 ) .
وفرع على الأمر بصنع الفلك تفصيل ما يفعله عند الحاجة إلى استعمال الفلك فوُقِّت له استعماله بوقت الاضطرار إلى إنجاء المؤمنين والحيوان .
وتقدم الكلام على معنى { فار التنور } ومعنى { زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول } في سورة هود ( 40 ) .
والزوج : اسم لكل شيء له شيء آخر متصل به بحيث يجعله شَفعا في حالة مَّا . وتقدم في سورة هود .
وإنما عبر هنالِك بقوله : { قلنا احمل فيها } [ هود : 40 ] وهنَا بقوله : { فاسلُك فيها } لأن آية سورة هود حكت ما خاطبه الله به عند حدوث الطوفان وذلك وقت ضيق فأُمرّ بأن يحمل في السفينة من أراد الله إبقاءهم ، فأسند الحمل إلى نوح تمثيلاً للإسراع بإركاب ما عُيِّن له في السفينة حتَّى كأنّ حاله في إدخاله إيَّاهم حالُ من يحمل شيئاً ليضعه في موضع ، وآية هذه السورة حكت ما خاطبه الله به من قبل حدوث الطوفان إنباء بما يفعله عند حدوث الطوفان فأمَره بأنه حينئذ يدخل في السفينة من عَيَّن الله إدخالهم ، مع ما في ذلك من التفنن في حكاية القصة .
ومعنى { اسلك } أدخِل ، وفعل ( سلك ) يكون قاصراً بمعنى دخل ومتعدياً بمعنى أدخل ومنه قوله تعالى : { ما سَلَكَكُم في سَقَر } [ المدثر : 42 ] . وقول الأعشى :
كما سلَك السَّكِّيَّ في الباب فَيْتَقُ
وتقدم الكلام على مثل قوله : { ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون } في سورة هود ( 37 ) .
وقرأ الجمهور { من كل زوجين } بإضافة { كل } إلى { زوجين } . وقرأه حفص بالتنوين { كلَ } على أن يكون { زوجين } مفعولَ { فاسلك } ، وتنوين { كل } تنوين عوض يُشعرُ بمحذوف أضيف إليه { كل } . وتقديره : من كل ما أمرتك أن تحمله في السفينة .