قوله تعالى : { ونضع الموازين القسط } أي ذوات القسط ، والقسط : العدل ، { ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً } لا ينقص من ثواب حسناتها ولا يزاد على سيئاتها ، وفي الأخبار : أن الميزان له لسان وكفتان . روي أن داود عليه السلام سأل ربه أن يريه الميزان ، فأراه كل كفة ما بين المشرق والمغرب ، فغشي عليه ، ثم أفاق فقال : يا إلهي من الذي يقدر أن يملأ كفته حسنات ، فقال : يا داود إني إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة { وإن كان } الشيء { مثقال حبة } أي : زنة مثقال حبة{ من خردل } قرأ أهل المدينة ( مثقال ) برفع اللام هاهنا ، وفي سورة لقمان يعني : وإن وقع مثقال حبة من خردل ، ونصبها الآخرون على معنى : وإن كان ذلك الشيء مثقال حبة يعني : زنة مثقال حبة من خردل ، { أتينا بها } أحضرناها لنجازي بها { وكفى بنا حاسبين } قال السدي : محصين ، والحسب معناه : العد ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : عالمين حافظين ، لأن من حسب شيئاً علمه وحفظه .
{ 47 ْ } { وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ْ }
يخبر تعالى عن حكمه العدل ، وقضائه القسط بين عباده إذا جمعهم في يوم القيامة ، وأنه يضع لهم الموازين العادلة ، التي يبين فيها مثاقيل الذر ، الذي توزن بها الحسنات والسيئات ، { فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ ْ } مسلمة أو كافرة { شَيْئًا ْ } بأن تنقص من حسناتها ، أو يزاد في سيئاتها .
{ وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ ْ } التي هي أصغر الأشياء وأحقرها ، من خير أو شر { أَتَيْنَا بِهَا ْ } وأحضرناها ، ليجازى بها صاحبها ، كقوله : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ْ }
وقالوا { يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ْ }
{ وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ ْ } يعني بذلك نفسه الكريمة ، فكفى به حاسبا ، أي : عالما بأعمال العباد ، حافظا لها ، مثبتا لها في الكتاب ، عالما بمقاديرها ومقادير ثوابها وعقابها واستحقاقها ، موصلا للعمال جزاءها .
ثم بين - سبحانه - مظهرا من مظاهر عدله مع عباده يوم القيامة فقال : { وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً . . . } .
أى : ونحضر الموازين العادلة لمحاسبة الناس على أعمالهم يوم القيامة ولإعطاء كل واحد منهم ما يستحقه من ثواب أو عقاب ، دون أن يظلم ربك أحداً من خلقه .
{ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وكفى بِنَا حَاسِبِينَ } أى : وإن كانت الأعمال التى عملها الإنسان فى الدنيا فى نهاية الحقارة والقلة ، أتينا بها فى صحيفة عمله لتوزن ، وكفى بنا عادِّين ومحصين على الناس أعمالهم ، إذ لا يخفى علينا شىء منها سواء أكان قليلا أم كثيراً .
قال ابن كثير : قوله : { وَنَضَعُ الموازين } الأكثر على أنه ميزان واحد ، وإنما جمع باعتبار تعدد الأعمال الموزونة فيه .
وقال القرطبى : " الموازين : جمع ميزان ، فقيل : إنه يدل بظاهره على أن لكل مكلف ميزانا توزن به أعماله ، فتوضع الحسنات فى كفة ، والسيئات فى كفة .
وقيل : يجوز أن يكون هناك موازين للعامل الواحد ، يوزن بكل ميزان منها صنف من أعماله . . . وقيل : ذِكْر الميزان مثَل وليس ثَمَّ ميزان وإنما هو العدل ، والذى وردت به الأخبار ، وعليه السواد الأعظم القول الأول . و " القسط " صفة الموازين ووحد لأنه مصدر . . .
واللام فى قوله { لِيَوْمِ القيامة } قيل للتوقيت . أى للدلالة على الوقت ، كقولهم : جاء فلان لخمس ليال بقين من الشهر . وقيل هى لام كى ، أى : لأجل يوم القيامة ، أو بمعنى فى أى : في يوم القيامة .
وقوله - سبحانه - { فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً } بيان للعدل الإلهى ، وأنه - سبحانه - لا يظلم أحدا شيئا مما له أو عليه ، أى : فلا تظلم نفس شيئا من الظلم لا قليلا ولا كثيراً .
وقوله { وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا } تصوير لدقة الحساب ، وعدم مغادرته لشىء من أعمال الناس ، إذ الخردل حب فى غاية الصغر والدقة . ومثقال الشىء : وزنه .
وأنث الضمير فى قوله " بها " وهو راجع إلى المضاف الذى هو " حبة من خردل " .
وقوله - سبحانه - : { وكفى بِنَا حَاسِبِينَ } بيان لإحاطة الله - تعالى - : بعلم كل شىء . كما قال - تعالى - { إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء } وفى معنى هذه الآية وردت آيات كثيرة منها قوله - تعالى - : { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً } وقوله - سبحانه - : { يابني إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السماوات أَوْ فِي الأرض يَأْتِ بِهَا الله إِنَّ الله لَطِيفٌ خَبِيرٌ } وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد ذكرت أولئك المشركين بجانب من نعم الله - تعالى - عليهم ، وحضهم على التدبر والاتعاظ ، وأنذرتهم بسوء العاقبة إذا ما استمروا فى كفرهم وشركهم ، وصورت لهم دقة الحساب يوم القيامة ، وأن كل إنسان سيحاسب على عمله سواء أكان صغيرا أم كبيرا ، ولا يظلم ربك أحدا .
ويختم الشوط بالإيقاع الأخير من مشاهد يوم الحساب :
( ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا . وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها . وكفى بنا حاسبين ) . .
والحبة من خردل تصور أصغر ما تراه العيون وأخفه في الميزان ، وهي لا تترك يوم الحساب ولا تضيع . والميزان الدقيق يشيل بها أو يميل !
فلتنظر نفس ما قدمت لغد . وليصغ قلب إلى النذير . وليبادر الغافلون المعرضون المستهزئون قبل أن يحق النذير في الدنيا أو في الآخرة . فإنهم إن نجوا من عذاب الدنيا فهناك عذاب الآخرة الذي تعد موازينه ، فلا تظلم نفس شيئا ، ولا يهمل مثقال حبة من خردل .
وهكذا ترتبط موازين الآخرة الدقيقة ، بنواميس الكون الدقيقة ، بسنن الدعوات ، وطبائع الحياة والناس . وتلتقي كلها متناسقة موحدة في يد الإرادة الواحدة مما يشهد لقضية التوحيد وهي محور السورة الأصيل .
لما توعدهم بنفحة من عذاب الدنيا عقب ذلك بتوعد بوضع { الموازين } وإنما جمعها وهو ميزان واحد من حيث لكل أحد وزن يخصه ووحد { القسط } وهو جاء بلفظ { الموازين } مجموعاً من حيث { القسط } مصدر وصف به كما تقول قوم عدل ورضى وقرأت فرقة «القصط » بالصاد ، وقوله تعالى : { ليوم القيامة } أي لحساب يوم القيامة أو لحكم يوم القيامة فهو بتقدير حذف مضاف والجمهور على أن الميزان في يوم القيامة بعمود وكفتين توزن به الأعمال ليبين المحسوس المعروف عندهم ، والخفة والثقل متعلقة بأجسام ويقرنها الله تعالى يومئذ بالأعمال فإما أن تكون صحف الأعمال أو مثالات تخلق أو ما شاء الله تعالى . وقرأ نافع وحده «مثقالُ » بالرفع على أن تكون { كان } تامة ، وقرأ الجمهور الناس «مثقالَ » بالنصب على معنى وأن كان الشيء أو العمل ، وقرأ الجمهور «أتينا » على معنى جئنا ، وقرأ ابن عباس ومجاهد وغيرهما «آتينا » على معنى «وآتينا » من المواتاة{[8238]} ولا يقدر تفسير آتينا بأعطينا لما تعدت بحرف جر .
قال القاضي أبو محمد : ويوهن هذه القراءة أن بدل الواو المفتوحة همزة ليس بمعروف وإنما يعرف ذلك في المضمومة والمكسورة ، وفي قوله { وكفى بنا حاسبين } توعد .