اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَنَضَعُ ٱلۡمَوَٰزِينَ ٱلۡقِسۡطَ لِيَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ فَلَا تُظۡلَمُ نَفۡسٞ شَيۡـٔٗاۖ وَإِن كَانَ مِثۡقَالَ حَبَّةٖ مِّنۡ خَرۡدَلٍ أَتَيۡنَا بِهَاۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَٰسِبِينَ} (47)

قوله : { وَنَضَعُ الموازين القسط } قال الزجاج : ذوات القسط{[28565]} ، ووَضْعُها إحضارها . ( وإنما جمع «المَوَازِينَ » لكثرة من توزن أعمالهم ، وهو جمع تفخيم . ويجوز أن يرجع إلى الموزونات{[28566]} ){[28567]} . وفي نصب «القِسْطَ » وجهان :

أحدهما : أنه نعت للموازين ، وعلى هذا فلم أُفردَ ؟ وعنه جوابان :

أحدهما : أنه في الأصل مصدر ، والمصدر يوحّد{[28568]} مطلقاً .

والثاني : أنه على حذف مضاف{[28569]} .

الوجه الثاني : أنه مفعول من أجله أي : لأجل القسط{[28570]} ، إلا أن في هذا نظراً{[28571]} ، من حيث إن المفعول له إذا كان معرّفاً ب ( أل ) يقل تجرّده من حرف العلة{[28572]} تقول : جئت للإكرام ، ويقل : جئت الإكرام ، كقوله :

3719- لاَ أَقْعُدُ الجُبْنَ عَنِ الهَيْجَاءِ *** وَلَوْ تَوَالَتْ زُمَرُ الأَعْدَاءِ{[28573]}

وقرئ : القِصْطَ بالصاد{[28574]} ، لأجل الطاء{[28575]} . وقد تقدّم .

قوله : «لِيَوْمِ القِيَامَة » في هذه اللام أوجه :

أحدها : قال الزمخشري : مثلها في قولك : جئت لخمس خلون من الشهر{[28576]} ومنه بيت النابغة :

3720- تَوَهَّمْتُ{[28577]} آيَاتٍ فَعَرَفْتُهَا *** لِسِتَّةِ أَعْوَامٍ وَذَا العَامِ سَابِعُ{[28578]} {[28579]}

والثاني : أنها بمعنى ( في ) وإليه ذهب بن قتيبة وابن مالك وهو رأي الكوفيين{[28580]} ومنه عندهم : «لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا »{[28581]} وكقول{[28582]} مسكين الدارمي :

3721- أُوْلَئِكَ قَوْمِي قَدْ مَضَوا لسبيلِهِمْ *** كَمَا قَدْ مَضَى مِنْ قَبْل عَادٌ وَتُبَّعُ{[28583]}

وكقول الآخر :

3722- وَكُلَّ أب وابن وإن عمرا معاً *** مقيمين مفقود لوقت وفاقد{[28584]}

والثالث : أنها على بابها من التعليل ولكن على حذف مضاف أي : لحساب يوم القيامة و «شَيْئاً » يجوز أن يكون مفعولاً ثانياً ، وأن يكون مصدراً ، لأي : شيئاً من الظلم{[28585]} .

فصل{[28586]}

في وضع الموازين{[28587]} قولان :

أحدهما : قال مجاهد : هذا مثل ، والمراد بالموازين العدل ، ويروى مثله عن قتادة والضحاك ، والمراد بالوزن : القسط بينهم في الأعمال ، فمن أحاطت حسناته بسيئاته ثقلت موازينه أي : ذهبت سيئاته وحسناته حكاه ابن جرير{[28588]} عن ابن عباس .

والثاني : أنَّ الموازين توضع حقيقة ويوزن بها الأعمال ، روي عن الحسن أنه ميزان له كفتان ولسان وهو بيد جبريل - عليه السلام{[28589]} - يروى «أنَّ داود - عليه السلام-{[28590]} سأل ربه أنْ يُرِيَهُ الميزان ، فأراه كل كفة ما بين المشرق والمغرب فغشي عليه ، ثم أفاق ، فقال : إلهي من الذي يقدر أن يملأ كفته حسنات ، فقال : يا داود إنّي إذا{[28591]} رضيت عن عد ملأتها بتمرة »{[28592]} .

وعلى هذا القول في كيفية وزن الأعمال طريقان :

أحدهما : أن توزن صحائف الأعمال .

والثاني : أن يجعل في كفة الحسنات جواهر بيض مشرقة ، وفي كفة السيئات جواهر سود{[28593]} مظلمة فإن قيل : أهل القيامة إمّا أن يكونوا عالمين بكونه - تعالى- عادلاً غير ظالم أو لا يعلمون ذلك . فإن علموا كان مجرد حكمه{[28594]} كافياً في معرفة أنَّ الغالب هو الحسنات أو السيئات فلا فائدة في وضع الميزان . وإن لم يعلموا ذلك لم تحصل الفائدة في وزن الصحائف ، لاحتمال أنه جعل إحدى الصحيفتين أثقل أو{[28595]} أخف ظلماً ، فلا فائدة في وضع الميزان على كلا التقديرين .

والجواب : قال ابن الخطيب : أما على قولنا { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ }{[28596]} وأيضاً ففيه ظهور حال الولي من{[28597]} العدو في مجمع الخلائق ، فيكون لأحد القبيلين{[28598]} في ذلك أعظم السرور والأخرى أعظم الغم ، ويكون ذلك بمنزلة نشر الصحف وغيره . وإذا ثبت ذلك فالدليل على وجود الموازين الحقيقة أن حمل لفظ الميزان على مجرد العدل مجاز وصرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز من غير دليل غير جائز لا سيما وقد جاءت الأحاديث الكثيرة بالأسانيد الصحيحة{[28599]} في ذلك{[28600]} .

قوله : { وَإِن كَانَ مِثْقَالَ } قرأ نافع هنا{[28601]} وفي لقمان{[28602]} برفع «مِثْقَال »{[28603]} على أن «كَانَ » تامة ، أي : وإنْ وجد مثقال{[28604]} . والباقون بالنصب{[28605]} على أنها ناقصة واسمها مضمر ، أي : وإنْ كان العمل{[28606]} . و «مِنْ خَرْدَلٍ » صفة ل «حَبَّةٍ »{[28607]} . وقرأ العامة «أَتَيْنَا » من الإتيان بقصر الهمزة أي جئنا بها{[28608]} .

وفي حرف{[28609]} أبي " جئنا " {[28610]} ، وكذا قرأ ابن مسعود ، وهو تفسير معنى لا تلاوة .

وقرأ ابن عباس ومجاهد وسعيد وابن أبي إسحاق والعلاء بن سيابة{[28611]} ، وجعفر بن محمد " آتينا " بمد الهمزة{[28612]} ، وفيه أوجه :

أصحها : أنَّه ( فَاعَلْنَا ) من المواتاة وهي المجازاة والمكافأة ، والمعنى : جازينا بها ، ولذلك تعدى بالباء{[28613]} .

الثاني : أنَّها ( مفاعلة ){[28614]} من الإتيان بمعنى المجازاة والمكافأة ، لأنهم أتوه بالأعمال وأتاهم بالجزاء ، قاله الزمخشري{[28615]} .

الثالث : أنه أفعل من الإيتاء ، كذا توهم وهو غلط . قال ابن عطية : ولو كان آتينا : أعطينا لما تَعَدَّتْ بحرف جر ، وَيُوهِنُ هذه لقراءة أنَّ إبدال{[28616]} الواو المفتوحة همزة ليس بمعروف ، وإنما يُعْرَفُ ذلك في المضمومة والمكسورة{[28617]} يعني : أنه كان من حق هذا القارئ أن يقرأ «وَأَتَيْنا » مثل وأعطينا ، لأنها من المواتاة على الصحيح ، فأبدل هذا القارئ الواو المفتوحة همزة وهو قليل ومنه أحد وأناة{[28618]} .

قال أبو البقاء : ويُقْرَأُ بالمد بمعنى جَازَيْنَا بها ، فهو يَقْرُبُ من معنى أعطينا ، لأنَّ الجزاء إعطاء ، وليس منقولاً من أتينا ، لأن ذلك لم يُنْقَلْ عنهم{[28619]} .

وقرأ حُمَيْدُ «أثَبْنَا » من الثواب{[28620]} ، والضمير في «بِهَا »{[28621]} عائد على المثقال وأنّث ضميره لإضافته لمؤنث{[28622]} ، فهو كقوله :

3723- كَمَا شَرِقَتْ صَدْرُ القَنَاةِ مِنَ الدَّمِ{[28623]} *** . . .

في اكتسابه التأنيث بالإضافة .

فصل

زعم الجبائي أنَّ من استحق مائة جزء من العقاب فأتى بطاعة يستحق بها خمسين جزءاً من الثواب فهذا الأقل ينحبط بالأكثر ، فيبقى الأكثر كما كان{[28624]} .

وهذه الآية تبطل قوله ، لأن الله تعالى تمدح بأنَّ اليسير من الطاعة لا يسقط ولو كان الأمر كما قال الجبائي لسقطت الطاعة من غير فائدة{[28625]} . فإن قيل : الحبة أعظم من الخردلة فكيف قال : «حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ » ؟ فالوجه فيه أن تفرض الخردلة كالدينار ثم تعتبر الحبة من ذلك الدينار . والغرض المبالغة في أنَّ شيئاً من الأعمال صغيراً كان أو كبيراً غير ضائع عند الله{[28626]} . ثم قال : { وكفى بِنَا حَاسِبِينَ } .

قال السّديّ : مُحْصِينَ{[28627]} . والحَسبُ : معناه العد . قال ابن عباس : عالمين حافظين ، لأنَّ من حسب{[28628]} شيئاً علمه وحفظه{[28629]} .

والغرض منه التحذير فإنَّ المحاسب إذا كان عالماً بحيث لا يمكن أن يفوته شيء ، وكان في القدرة بحيث لا يعجز عن شيء فحقيق بالعاقل أن يكون شديد الخوف منه{[28630]} .


[28565]:معاني القرآن وإعرابه 3/394.
[28566]:انظر الفخر الرازي 22/177.
[28567]:ما بين القوسين سقط من الأصل.
[28568]:في ب: يوجب. وهو تحريف.
[28569]:والتقدير: ذوات القسط. انظر الكشاف 3/13، التبيان 2/919، البحر المحيط 6/316.
[28570]:انظر البحر المحيط 6/316.
[28571]:في ب: نظر.
[28572]:أي حرف الجر، وهو اللام.
[28573]:رجز مجهول القائل. الهيجاء: الحرب. الزّمر جمع زمرة وهي الجماعة. والشاهد فيه قوله: "الجبن" حيث وقع مفعولا له وهو مقرون بـ (أل) وجاء منصوبا على قلة، والأكثر فيه أن يكون مجرورا، لأن المفعول له إذا كان معروفا بـ (أل) يقل تجرده من حرف الجر. وقد تقدم.
[28574]:البحر المحيط 6/316.
[28575]:وذلك إذا كان بعد السين غين أو خاء أو قاف أو طاء جاز قلبها صادا على لغة بني العنبر. قالوا في: أسبغ: أصبغ، وسخّر: صخر، وسقت: صقت، وسراط: صراط. انظر الكتاب 4/479-481، الأصول 3/431، سر صناعة الإعراب 1/211-212.
[28576]:أي: أن اللام بمعنى (عند).
[28577]:في الكشاف: ترسمت.
[28578]:البيت من بحر الطويل قاله النابغة الذبياني، وهو في ديوانه (30) ، والكتاب 2/86، والمقتضب 4/322. والمقرب 271، البحر المحيط 6/316، والمقاصد النحوية 4/482. وشرح شواهد الكشاف 73. توهمها: لم يعرفها إلا توهما لخفاء معالمها وانطماسها. الآيات: علامات الدار التي تعرف بها. لستة أعوام: يريد بعد ستة أعوام، والشاهد فيه مجيء اللام في قوله (لستة أعوام) بمعنى عند.
[28579]:الكشاف 3/13.
[28580]:انظر التبيان 2/919، البحر المحيط 6/316.
[28581]:من قوله تعالى: {يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجلّيها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض} [الأعراف: 187].
[28582]:في ب: ولقول. وهو تحريف.
[28583]:البيت من بحر الطويل قاله مسكين الدارمي وهو في الديوان (50) برواية: أولئك قوم قد مضوا لسبيلهم *** كما مات لقمان بن عاد وتبع والبحر المحيط 6/316، والخزانة 4/101. تبع: واحد التبابعة، وهم ملوك اليمن، سموا بذلك، لأنه يتبع بعضهم بعضا كلما هلك واحد قام مقامه آخر تابعا له على مثل سيرته. والشاهد فيه مجيء اللام بمعنى (في) والتقدير: قد مضوا في سبيلهم.
[28584]:البيت من بحر الطويل وهو في البحر المحيط 6/316، والشاهد فيه كالشاهد في البيت السابق، وهو مجيء اللام بمعنى (في).
[28585]:انظر البحر المحيط 6/316.
[28586]:هذا الفصل نقله ابن عادل عن الفخر الرازي 22/176-177.
[28587]:في ب: الميزان.
[28588]:جامع البيان 17/25.
[28589]:في ب: عليه الصلاة والسلام.
[28590]:في الأصل: حكم. وهو تحريف.
[28591]:في ب: أنا. وهو تحريف.
[28592]:انظر البغوي 5/491.
[28593]:الأصل: بيض. وهو تحريف.
[28594]:في الأصل: حكم. وهو تحريف.
[28595]:في ب: و. وهو تحريف.
[28596]:من قوله تعالى: {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} [الأنبياء: 23].
[28597]:في ب: إلى.
[28598]:في ب: القبيلتين.
[28599]:الصحيحة: سقط من ب.
[28600]:الفخر الرازي 22/176-177.
[28601]:في الأًصل: وهنا. وهو تحريف.
[28602]:في قوله تعالى: {يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السماوات أو في الأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير} [لقمان: 16].
[28603]:السبعة: (429،513)، الكشف 2/111، 188، والنشر 2/324، الإتحاف (310).
[28604]:فتكتفي بالفاعل ولا تحتاج إلى المنصوب. انظر الكشف 2/111، ومشكل إعراب القرآن 2/84، البيان 2/161، التبيان 2/919 والكشاف 3/13، البحر المحيط 6/316.
[28605]:السبعة (429،513) والكشف 2/111، 188، النشر 324، الإتحاف (311).
[28606]:انظر الكشف 2/111، ومشكل إعراب القرآن 2/84، البيان 2/161، التبيان 2/919 والبحر المحيط 6/316.
[28607]:انظر التبيان 2/919، وجوز أبو البقاء أيضا أن يكون (من خردل) صفه لـ مثقال).
[28608]:انظر البحر المحيط 6/316.
[28609]:حرف: سقط من ب.
[28610]:المختصر (92)، الكشاف 3/13، البحر المحيط 6/316.
[28611]:لم أقف له على ترجمة فيما رجعت إليه من مراجع.
[28612]:الكشاف 3/13، البحر المحيط 6/316.
[28613]:انظر البحر المحيط 6/316.
[28614]:في النسختين: فاعلة. وهو تحريف.
[28615]:الكشاف 3/13.
[28616]:في الأصل: بدل وهو تحريف.
[28617]:تفسير ابن عطية 10/159.
[28618]:أصل أحد وأناة: وحد وأناة، فإبدال الواو هنا همزة سماعيّ.
[28619]:التبيان 2/919.
[28620]:المختصر (92)، الكشاف 3/13، البحر المحيط 6/316.
[28621]:في ب: باها. وهو تحريف.
[28622]:انظر الكشاف 3/13، البحر المحيط 6/316.
[28623]:عجز بيت من الطويل قاله الأعشى وصدره: وتشرق بالقول الذي قد أذعته وسبق تخريجه.
[28624]:انظر الفخر الرازي 22/177.
[28625]:المرجع السابق.
[28626]:المرجع السابق.
[28627]:انظر البغوي 5/491.
[28628]:في الأصل: لأن من حفظ حسب.
[28629]:انظر البغوي 5/491.
[28630]:انظر الفخر الرازي 22/177-178.