البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَنَضَعُ ٱلۡمَوَٰزِينَ ٱلۡقِسۡطَ لِيَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ فَلَا تُظۡلَمُ نَفۡسٞ شَيۡـٔٗاۖ وَإِن كَانَ مِثۡقَالَ حَبَّةٖ مِّنۡ خَرۡدَلٍ أَتَيۡنَا بِهَاۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَٰسِبِينَ} (47)

ولما ذكر حالهم في الدنيا إذا أصيبوا بشيء استطرد لما يكون في الآخرة التي هي مقر الثواب والعقاب ، فأخبر تعالى عن عدله وأسند ذلك إلى نفسه بنون العظمة فقال { ونضع الموازين } وتقدم الكلام في الموازين في أول الأعراف ، واختلاف الناس في ذلك هل ثم ميزان حقيقة وهو قول الجمهور أو ذلك على سبيل التمثيل عن المبالغة في العدل التام وهو قول الضحاك وقتادة ؟ قالا : ليس ثم ميزان ولكنه العدل والقسط مصدر وصفت به الموازين مبالغة كأنها جعلت في أنفسها القسط ، أو على حذف مضاف أي ذوات { القسط } ويجوز أن يكون مفعولاً لأجله أي لأجل { القسط } .

وقرىء القصط بالصاد .

واللام في { ليوم القيامة } قال الزمخشري : مثلها في قولك : جئت لخمس ليال خلون من الشهر .

ومنه بيت النابغة :

ترسمت آيات لها فعرفتها *** لستة أعوام وذا العام سابع

انتهى .

وذهب الكوفيون إلى أن اللام تكون بمعنى في ووافقهم ابن قتيبة من المتقدمين ، وابن مالك من أصحابنا المتأخرين ، وجعل من ذلك قوله { القسط ليوم القيامة } أي في يوم ، وكذلك لا يجليها لوقتها إلاّ هو أي في وقتها وأنشد شاهداً على ذلك لمسكين الدارمي :

أولئك قومي قد مضوا لسبيلهم *** كما قد مضى من قبل عاد وتبع

وقول الآخر :

وكل أب وابن وإن عمرا معاً *** مقيمين مفقود لوقت وفاقد

وقيل اللام هنا للتعليل على حذف مضاف ، أي لحساب يوم القيامة و { شيئاً } مفعول ثان أو مصدر .

وقرأ الجمهور : { مثقال } بالنصب خبر { كان } أي وإن كان الشيء أو وإن كان العمل وكذا في لقمان ، وقرأ زيد بن عليّ وأبو جعفر وشيبة ونافع { مثقال } بالرفع على الفاعلية و { كان } تامة .

وقرأ الجمهور { أتينا } من الإتيان أي جئنا بها ، وكذا قرأ أُبي أعني جئنا وكأنه تفسير لأتينا .

وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن جبير وابن أبي إسحاق والعلاء بن سيابة وجعفر بن محمد وابن شريح الأصبهاني آتينا بمده على وزن فاعلنا من المواتاة وهي المجازاة والمكافأة ، فمعناه جازينا بها ولذلك تعدى بحرف جر ، ولو كان على أفعلنا من الإيتاء بالمد على ما توهمه بعضهم لتعدى مطلقاً دون جاز قاله أبو الفضل الرّازي .

وقال الزمخشري : مفاعلة من الإتيان بمعنى المجازاة والمكافأة لأنهم أتوه بالأعمال وأتاهم بالجزاء انتهى .

وقال ابن عطية على معنى : و { أتينا } من المواتاة ، ولو كان آتينا أعطينا لما تعدت بحرف جرّ ، ويوهن هذه القراءة أن بدل الواو المفتوحة همزة ليس بمعروف ، وإنما يعرف ذلك في المضمومة والمكسورة انتهى .

وقرأ حميد : أثبنا بها من الثواب وأنث الضمير في { بها } وهو عائد على مذكر وهو { مثقال } لإضافته إلى مؤنث { كفى بنا حاسبين } فيه توعد وهو إشارة إلى ضبط أعمالهم من الحساب وهو العدّ والإحصاء ، والمعنى أنه لا يغيب عنا شيء من أعمالهم .

وقيل : هو كناية عن المجازاة ، والظاهر أن { حاسبين } تمييز لقبوله من ، ويجوز أن يكون حالاً .