ثم بين سبحانه وتعالى أن جميع ما ينزل بهم في الآخرة لا يكون إلا عدلا فهم وإن ظلموا أنفسهم في الدنيا فلن يظلموا في الآخرة وهذا معنى قوله سبحانه وتعالى : { ونضع الموازين القسط } وصفها الله تعالى بذلك لأن الميزان قد يكون مستقيما وقد يكون بخلافه ، فبين أن تلك الموازين تجري على حد العدل والقسط ، وأكد ذلك بقوله : { فلا تظلم نفس شيئا } وههنا مسائل :
المسألة الأولى : معنى وضعها إحضارها ، قال الفراء : القسط صفة الموازين وإن كان موحدا وهو كقولك للقوم : أنتم عدل ، وقال الزجاج : ونضع الموازين ذوات القسط وقوله : { ليوم القيامة } قال الفراء في يوم القيامة وقيل لأهل يوم القيامة .
المسألة الثانية : في وضع الموازين قولان : أحدهما : قال مجاهد هذا مثل والمراد بالموازين العدل ويروى مثله عن قتادة والضحاك والمعنى بالوزن القسط بينهم في الأعمال فمن أحاطت حسناته بسيئاته ثقلت موازينه يعني أن حسناته تذهب بسيئاته ومن أحاطت سيئاته بحسناته ( فقد خفت موازينه ) أي أن سيئاته تذهب بحسناته ، حكاه ابن جرير هكذا عن ابن عباس رضي الله عنهما . الثاني : وهو قول أئمة السلف أنه سبحانه يضع الموازين الحقيقية فتوزن بها الأعمال ، وعن الحسن : هو ميزان له كفتان ولسان وهو بيد جبريل عليه السلام . ويروى :« أن داود عليه السلام سأل ربه أن يريه الميزان فلما رآه غشي عليه ، فلما أفاق قال : يا إلهي من الذي يقدر أن يملأ كفته حسنات ، فقال : يا داود إني إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة » ثم على هذا القول في كيفية وزن الأعمال طريقان . أحدهما : أن توزن صحائف الأعمال . والثاني : يجعل في كفة الحسنات جواهر بيض مشرقة وفي كفة السيئات جواهر سود مظلمة فإن قيل : أهل القيامة إما أن يكونوا عالمين بكونه سبحانه وتعالى عادلا غير ظالم أو لا يعلمون ذلك . فإن علموا ذلك كان مجرد حكمه كافيا في معرفة أن الغالب هو الحسنات أو السيئات فلا يكون في وضع الميزان فائدة ألبتة ، وإن لم يعلموا لم تحصل الفائدة في وزن الصحائف لاحتمال أنه سبحانه جعل إحدى الصحيفتين أثقل أو أخف ظلما فثبت أن وضع الميزان على كلا التقديرين خال عن الفائدة . وجوابه على قولنا قوله تعالى : { لا يسأل عما يفعل وهم يسألون } وأيضا ففيه ظهور حال الولي من العدو في مجمع الخلائق ، فيكون لأحد القبيلين في ذلك أعظم السرور وللآخر أعظم الغم ، ويكون ذلك بمنزلة نشر الصحف وغيره . إذا ثبت هذا فنقول : الدليل على وجود الموازين الحقيقية أن حمل هذا اللفظ على مجرد العدل مجاز وصرف اللفظ عن الحقيقة إلى المجاز من غير ضرورة غير جائز ، لا سيما وقد جاءت الأحاديث الكثيرة بالأسانيد الصحيحة في هذا الباب .
المسألة الثالثة : قال قوم : إن هذه الآية يناقضها قوله تعالى : { فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا } ، والجواب : أنه لا يكرمهم ولا يعظمهم .
المسألة الرابعة : إنما جمع الموازين لكثرة من توزن أعمالهم وهو جمع تفخيم ، ويجوز أن يرجع إلى الموزونات .
أما قوله تعالى : { وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها } فالمعنى أنه لا ينقص من إحسان محسن ولا يزاد في إساءة مسيء ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرئ : { مثقال حبة } على كان التامة كقوله تعالى : { وإن كان ذو عسرة } وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما { أتينا بها } وهي مفاعلة من الإتيان بمعنى المجازاة والمكافأة لأنهم أتوه بالأعمال وأتاهم بالجزاء ، وقرأ حميد : أثبنا بها من الثواب ، وفي حرف أبي جئنا بها .
المسألة الثانية : لم أنث ضمير المثقال ؟ قلنا : لإضافته إلى الحبة كقولهم ذهبت بعض أصابعه .
المسألة الثالثة : زعم الجبائي أن من استحق مائة جزء من العقاب فأتى بطاعة يستحق بها خمسين جزءا من الثواب فهذا الأقل يتحبط بالأكثر ويبقى الأكثر كما كان . واعلم أن هذه الآية تبطل قوله لأن الله تعالى تمدح بأن اليسير من الطاعة لا يسقط ولو كان الأمر كما قال الجبائي لسقطت الطاعة من غير فائدة .
المسألة الرابعة : قالت المعتزلة قوله : { فلا تظلم نفس شيئا } فيه دلالة على أن مثل ذلك لو ابتدأه الله تعالى لكان قد ظلم ، فدل هذا الوجه على أنه تعالى لا يعذب من لا يستحق ولا يفعل المضار في الدنيا إلا للمنافع والمصالح . والجواب : الظلم هو التصرف في ملك الغير وذلك في حق الله تعالى محال لأنه المالك المطلق ، ثم الذي يدل على استحالة الظلم عليه عقلا أن الظلم عند الخصم مستلزم للجهل أو الحاجة المحالين على الله تعالى ومستلزم المحال محال ، فالظلم على الله تعالى محال . وأيضا فإن الظالم سفيه خارج عن الإلهية فلو صح منه الظلم لصح خروجه عن الإلهية ، فحينئذ يكون كونه إلها من الجائزات لا من الواجبات ، وذلك يقدح في إلهيته .
المسألة الخامسة : إن قيل الحبة أعظم من الخردلة ، فكيف قال حبة من خردل ؟ قلنا : الوجه فيه أن تفرض الخردلة كالدينار ثم تعتبر الحبة من ذلك الدينار . والغرض المبالغة في أن شيئا من الأعمال صغيرا كان أو كبيرا غير ضائع عند الله تعالى .
أما قوله تعالى : { وكفى بنا حاسبين } فالغرض منه التحذير فإن المحاسب إذا كان في العلم بحيث لا يمكن أن يشتبه عليه شيء ، وفي القدرة بحيث لا يعجز عن شيء ، حقيق بالعاقل أن يكون في أشد الخوف منه ، ويروي عن الشبلي رحمه الله تعالى أنه رئي في المنام فقيل له : ما فعل الله بك فقال :
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.