الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَنَضَعُ ٱلۡمَوَٰزِينَ ٱلۡقِسۡطَ لِيَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ فَلَا تُظۡلَمُ نَفۡسٞ شَيۡـٔٗاۖ وَإِن كَانَ مِثۡقَالَ حَبَّةٖ مِّنۡ خَرۡدَلٍ أَتَيۡنَا بِهَاۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَٰسِبِينَ} (47)

قوله : { الْقِسْطَ } : في نصب " القِسْطَ " وجهان أحدهما : أنه نعتٌ للموازين ، وعلى هذا : فلِمَ أُفْرِد ؟ وعنه جوابان ، أحدهما : أنه في الأصلِ مصدرٌ ، والمصدر يوحَّد مطلقاً . والثاني : أنَّه على حَذْفِ مضاف . الوجه الثاني : أنه مفعولٌ من أجله أي : لأجلِ القسطِ . إلاَّ أنَّ في هذا نظراً من حيث إن المفعولَ له إذا كان معرَّفاً بأل يَقِلُّ تجرُّده من حرف العلة تقول : جئتُ للإِكرام ، ويَقِلُّ : جئت الإِكرامَ ، كقول الآخر :

لا أَقْعُدُ الجبنَ عن الهَيْجاءِ *** ولو توالَتْ زُمَرُ الأعداءِ

وقرىء " القِصْطَ " بالصاد لأجل الطاء ، وقد تقدم .

قوله : { لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ } في هذه اللام أوجه ، أحدها : قال الزمخشري : " مثلُها في قولك : جِئْتُ لخمسٍ خَلَوْنَ من الشهر ، ومنه بيتُ النابغة .

تَوَهَّمْتُ آياتٍ لها فَعَرَفْتُها *** لستةِ أعوام وذا العامُ سابعُ

والثاني : أنها بمعنى في . وإليه ذهب ابن قتيبة وابن مالك . وهو رأيُ الكوفيين ومنه عندهم :

{ لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ } [ الأعراف : 187 ] وكقول مسكين الدارمي :

أولئك قومي قد مضَوْا لسبيلِهم *** كما قد مضى مِنْ قبلُ عادٌ وتُبَّعُ وكقول الآخر :

وكلُّ أبٍ وابنٍ وإنْ عُمِّرا معاً *** مُقِيْمَيْنِ مفقودٌ لوقتٍ وفاقدُ

والثالث : أنَّها على بابِها مِنَ التعليل ، ولكنْ على حَذْفِ مضاف .

أي : لحسابِ يومِ القيامة .

قوله : { شَيْئاً } يجوز أن يكون مفعولاً ثانياً ، وأن يكون مصدراً ، أي : شيئاً من الظلم .

قوله : { مِثْقَال } قرأ نافعٌ هنا وفي لقمان برفع " مِثْقال " على أنَّ " كان " تامة ، أي : وإنْ وُجِد مثقال . والباقون بالنصب على أنَّها ناقصةٌ ، واسمها مضمر أي : وإنْ [ كان ] العملُ . و { مِّنْ خَرْدَلٍ } صفةٌ لحَبَّة .

وقرأ العامَّة " أَتَيْنَا " من الإِتيان بقَصْرِ الهمزة أي : جِئْنا بها ، وكذا قرأ ابن مسعود وهو تفسيرُ معنى لا تلاوة . وقرأ ابنُ عباس ومجاهدٌ وسعيد وابن أبي إسحاق والعلاء بن سيابة وجعفر بن محمدٍ " آتَيْنا " بمدِّ الهمزة وفيها أوجهٌ ، أحدُها : وهو الصحيحُ أنه فاعَلْنا من المؤاتاة وهي المجازاةُ والمكافَأَة . والمعنى : جازَيْنا بها ، ولذلك تَعَدَّى بالباء . الثاني : أنها مُفاعَلَةٌ من الإِتيان بمعنى المجازاة والكافأةِ لأنهم أَتَوْه بالأعمال وأتاهم بالجزاءِ ، قاله الزمخشري . الثالث : أنه أفْعَل من الإِيتاء . كذا توهَّمَ بعضُهم وهو غلطٌ . قال ابن عطية : " ولو كان آتَيْنا أعطينا لَما تعدَّى بحرفِ جرّ . ويُوْهِنُ هذه القراءةَ أنَّ بدلَ الواوِ المفتوحةِ همزةً ليس بمعروفٍ ، وإنما يُعْرَفُ ذلك في المضمومةِ والمكسورة " يعني أنَّه كان مِنْ حَقِّ هذا القارىءِ أَنْ يَقْرَأَ " واتَيْنا " مثل واظَبْنا ؛ لأنها من المُواتاةِ على الصحيح ، فأبدل هذا القارِىءُ الواوَ المفتوحةًَ همزةَ . وهو قليلٌ ومنه أَخَذَ " واتاه " .

وقال أبو البقاء : " ويُقرأ بالمدِّ بمعنى جازَيْنا بها ، فهو يَقْرُبُ مِنْ معنى أَعْطَيْنا ؛ لأنَّ الجزاءَ إعطاءٌ ، وليس منقولاً مِنْ أَتَيْنا ، لأن ذلك لم يُنْقَلْ عنهم .

وقرأ حميد " أَثَبْنا " من الثواب . والضمير في " بها " عائد على المِثْقال ، وأنَّث ضميرَه لإِضافتِه لمؤنث فهو كقوله :

3348 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** كما شَرِقَتْ صدرُ القناةِ من الدَّمِ

في اكتسابِه بالإِضافةِ التأنيثَ .