فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَنَضَعُ ٱلۡمَوَٰزِينَ ٱلۡقِسۡطَ لِيَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ فَلَا تُظۡلَمُ نَفۡسٞ شَيۡـٔٗاۖ وَإِن كَانَ مِثۡقَالَ حَبَّةٖ مِّنۡ خَرۡدَلٍ أَتَيۡنَا بِهَاۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَٰسِبِينَ} (47)

{ ونضع الموازين القسط } العادلة { ليوم القيامة } أي لأهلها ، وقيل اللام بمعنى في ، أي في يوم القيامة ، والموازين جمع ميزان ، وهو يدل على أن هناك موازين ، ويمكن أن يراد ميزان عبر عنه بلفظ الجمع للتعظيم أو باعتبار أجزائه فإن الصحيح أنه ميزان واحد لجميع الأمم ولجميع الأعمال .

وقد ورد في السنة في صفة الميزان ما فيه كفاية ، وقد مضى في ( الأعراف ) ، وفي ( الكهف ) في هذا ما يغني عن الإعادة ، والقسط صفة للموازين وصف به مبالغة ، قال الزجاج : قسط مصدر يوصف به ، تقول : ميزان قسط ، وموازين قسط ؛ والمعنى ذوات قسط ، والقسط العدل وصف به الموازين ، لأن الميزان قد يكون مستقيما ، وقد يكون غير مستقيم ، فبين الله أن تلك الموازين تجري على حد العدل .

وقرئ القصط بالصاد والطاء ، وأما ماهية جرمه من أي الجوهر ، وأنه موجود الآن أو سيوجد فنمسك عن تعيينه ولا يكون الوزن في حق كل أحد ، لأن من لا حساب عليه لا يوزن له كالأنبياء والملائكة ، والوزن يكون للمكلفين من الجن والإنس ، وقد يوزن العبد نفسه " كما ورد عن النبي ( صلى الله عليه وسلم ) لرجل عبد الله بن مسعود في الميزان أثقل من جبل أحد " {[1203]} " ومن مات له ولد يجعل ذلك الولد في الميزان " {[1204]} وكيفيته ثقلا وخفة مثلها في الدنيا .

{ فلا تظلم نفس شيئا } أي لا ينقص من إحسان محسن ولا يزاد في إساءة مسيء { وإن كان مثقال حبة من خردل } أي إن كان العمل المدلول عليه بوضع الموازين مثقال حبة ، كذا قال الزجاج .

وقال أبو علي الفارسي : وإن كان الظلامة مثقال حبة ، قال الواحدي : وهذا أحسن لتقدم قوله : فلا تظلم نفس شيئا ، وقرئ برفع { مثقال } على أن كان تامة أي إن وقع أو إن وجد مثقال حبة ، ومثقال الشيء ميزانه أي وإن كان في غاية الخفة والقلة الحقارة ، فإن حبة الخردل مثل في الصغر .

{ أتينا بها } أي أحضرناها وجئنا بها أي بموزونها للمجازة عليها ، وقرئ آتينا بالمد على معنى جازينا بها يقال آتى يؤاتي مؤاتاة جازى { وكفى بنا حاسبين } أي محصنين في كل شيء ، والحسب في الأصل معناه ، العدّ ، وقيل عالمين لأن من حسب شيئا علمه وحفظه ، وقيل مجازين على ما قدموه من خير وشر والغرض منه التحذير ، فإن المحاسب إذا كان في العلم بحيث لا يمكن أن يشتبه عليه شيء ، وفي القدرة بحيث لا يعجز عن شيء فحقيق بالعاقل أن يكون على أشد الخوف منه .

وقد أخرج أحمد والترمذي وابن جرير في تهذيبه والبيهقي وغيرهم عن عائشة أن رجلا قال : يا رسول الله إن لي مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني وأضربهم وأشتمهم فكيف أنا منهم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافا لا عليك ولا لك ، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم اقتص لهم منك الفضل ) فجعل الرجل يبكي ويهتف ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( أما تقرأ كتاب الله ) { ونضع الموازين القسط } إلى قوله { حاسبين } فقال الرجل : يا رسول الله ما أجد لي ولهم خيرا من مفارقتهم أشهدك أنهم أحرار . {[1205]} وفي معناه أحاديث ، وروي عن الشبلي أنه رؤى في المنام ، فقيل له : ما فعل الله بك ؟ فقال :

حاسبونا فدققوا ثم منوا فأعتقوا

وكذا كل مالك بالمماليك يرفق

ثم شرع الله سبحانه في تفصيل ما أجمله سابقا بقوله { وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم } وذكر عشر قصص ، الأولى قصة موسى ، ثم إبراهيم ثم لوط ثم نوح ثم داود وسليمان ثم أيوب ثم إسماعيل وإدريس وذي الكفل ، ثم يونس ثم زكريا ثم مريم وابنها عيسى فقال :


[1203]:الإمام أحمد 1/114-1/421-5/131.
[1204]:البخاري كتاب الجنائز باب 6.
[1205]:الترمذي تفسير سورة 21/2-الإمام أحمد 6/280.