قوله تعالى : { إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم } ، أي يعاملونه معاملة المخادعين ، { وهو خادعهم } ، أي : مجازيهم على خداعهم ، وذلك أنهم يعطون نوراً يوم القيامة ، كما للمؤمنين ، فيمضي المؤمنون بنورهم على الصراط ويطفأ نور المنافقين .
قوله تعالى : { وإذا قاموا إلى الصلاة } ، يعني : المنافقين .
قوله تعالى : { قاموا كسالى } أي : متثاقلين لا يريدون بها الله ، فإن رآهم أحد صلوا ، وإلا انصرفوا فلا يصلون .
قوله تعالى : { يراؤون الناس } أي : يفعلون ذلك مراءاةً للناس لا اتباعاً لأمر الله .
قوله تعالى : { ولا يذكرون الله إلا قليلاً } ، قال ابن عباس رضي الله عنهما والحسن : إنما قال ذلك لأنهم يفعلونها رياءً وسمعة ، ولو أرادوا بذلك القليل وجه الله تعالى لكان كثيراً ، وقال قتادة : إنما قل ذكر المنافقين لأن الله تعالى لم يقبله ، وكل ما قبل الله فهو كثير .
{ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا * مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا }
يخبر تعالى عن المنافقين بما كانوا عليه ، من قبيح الصفات وشنائع السمات ، وأن طريقتهم مخادعة الله تعالى ، أي : بما أظهروه من الإيمان وأبطنوه من الكفران ، ظنوا أنه يروج على الله ولا يعلمه ولا يبديه لعباده ، والحال أن الله خادعهم ، فمجرد وجود هذه الحال منهم ومشيهم عليها ، خداع لأنفسهم . وأي : خداع أعظم ممن يسعى سعيًا يعود عليه بالهوان والذل والحرمان ؟ "
ويدل بمجرده على نقص عقل صاحبه ، حيث جمع بين المعصية ، ورآها حسنة ، وظنها من العقل والمكر ، فلله ما يصنع الجهل والخذلان بصاحبه "
ومن خداعه لهم يوم القيامة ما ذكره الله في قوله : { يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ } إلى آخر الآيات .
" وَ " من صفاتهم أنهم { إِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ } -إن قاموا- التي هي أكبر الطاعات العملية { قَامُوا كُسَالَى } متثاقلين لها متبرمين من فعلها ، والكسل لا يكون إلا من فقد الرغبة من قلوبهم ، فلولا أن قلوبهم فارغة من الرغبة إلى الله وإلى ما عنده ، عادمة للإيمان ، لم يصدر منهم الكسل ، { يُرَاءُونَ النَّاسَ } أي : هذا الذي انطوت عليه سرائرهم وهذا مصدر أعمالهم ، مراءاة الناس ، يقصدون رؤية الناس وتعظيمهم واحترامهم ولا يخلصون لله ، فلهذا { لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا } لامتلاء قلوبهم من الرياء ، فإن ذكر الله تعالى وملازمته لا يكون إلا من مؤمن ممتلئ قلبه بمحبة الله وعظمته .
ثم تمضى السورة الكريمة بعد هذا الوعد المطمئن لقلوب المؤمنين ، فى رسم صورة أخرى للمنافقين مبالغة فى الكشف عن قابئحهم وفى التحذير من شرورهم فتقول : { إِنَّ المنافقين يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قاموا إِلَى الصلاة قَامُواْ كسالى يُرَآءُونَ الناس وَلاَ يَذْكُرُونَ الله إِلاَّ قَلِيلاً مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هؤلاء وَلاَ إِلَى هؤلاء وَمَن يُضْلِلِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } .
وقوله : { يُخَادِعُونَ } من الخداع وهو أن يظهر الشخص من الأفعال ما يخفى أمره ، ويستر حقيقته .
قال الراغب : الخداع : إنزال الغير عما هو بصدده بأمر يبديه على خلاف ما يخفيه . . . . .
ويقال : طريق خادع ويخدع . أى : مضل كأنه يخدع سالكه . وفى الحديث : " بين يدى الساعة سنون خداعة " أى : محتالة لتلونها بالجدب مرة وبالخصب مرة .
وقوله : { خَادِعُهُمْ } اسم فاعل من خادعته فخدعته إذا غلبته وكنت أخدع منه .
والمعنى : إن المنافقين لسوء طواياهم ، وخبث نواياهم { يُخَادِعُونَ الله } أى : يفعلون ما يفعل المخادع بأن يظهروا الإِيمان ويبطنوا الكفر { وَهُوَ خَادِعُهُمْ } أى : وهو فاعل بهم ما يفعله الذى يغلب غيره فى الخداع ، حيث تركهم فى الدنيا معصومى الدماء والأموال . وأعد لهم فى الآخرة الدرك الأسفل من النار .
ومنهم من جعل المراد بمخادعتهم لله مخادعتهم لرسوله وللمؤمنين فيكون الكلام على حذف مضاف . أى : إن المنافقين يخادعون رسول الله والمؤمنين وهو - سبحانه - خادعهم فهو كقوله - تعالى - { إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله } وعبر - سبحانه - عن خداعهم بصيغة تدل على المشاركة والمغالبة وهى قوله { يُخَادِعُونَ } ، للإِشعار بأنهم قد ينجحون فى خداعهم وقد لا ينجحون .
وعبر - سبحانه - عن خداعه لهم بصيغة اسم الفاعل ، للدلالة على الغلب والقهر . لأن الله - تعالى - كاشف أمرهم ، ومزيل مغبة خداعهم ، ومحاسبهم حسابا عسيرا على ما ارتكبوه من جنايات وسيئات .
وقوله : { وَإِذَا قاموا إِلَى الصلاة قَامُواْ كسالى } بيان للون آخر من قبائحهم . و { كسالى } جمع كسلان وهو الذى يعتريه الفتور فى أفعاله لكراهيته لها أو عدم اكتراثه بها . وهى حال لازمة من ضمير قاموا أى : إن هؤلاء المنافقين إذا قاوموا إلى الصلاة ، قاموا متثاقلين متباطئين لا نشاط عندهم لأدائها ، ولا رغبة لهم فى القيام بها ، لأنهم لا يعتقدون ثوابا فى فعلها ، ولا عقابا على تركها .
وقوله { يُرَآءُونَ الناس } حال من الضمير المستكن فى كسالى . أو جملة مستأنفة جوابا لمن يسأل : وما قصدهم من القيام للصلاة مع هذا التثاقل والتكاسل عنها ؟ فكان الجواب : يراءون الناس .
أى : يقصدون بصلاتهم الرياء والسمعة والخداع .
قال ابن كثير : وقوله : { وَإِذَا قاموا إِلَى الصلاة قَامُواْ كسالى } هذه صفة المنافقين فى أشرف الأعمال وأفضلها وخيرها . وهى الصلاة . إذا قاموا إليها قاموا وهم كسالى عنها ، لأنهم لا نية لهم فيها ، ولا إيمان لهم بها ، ولا خشية ، ولا يعقلون معناها . وهذه صفة ظواهرهم .
ثم ذكر - سبحانه - صفة بواطنهم الفاسدة فقال : { يُرَآءُونَ الناس } أى : إخلاص لهم ولا معاملة مع الله ، بل إنما يشهدون الناس تقية لهم ومصانعة ولهذا يتخلفون كثيرا من الصلاة التى لا يرون فيها غالبا كصلاة العشاء فى وقت العتمة وصلاة الصبح فى وقت الغلس كما ثبت فى الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبوا " وروى الحافظ ألو ليلى عن عبد الله قال : من أحسن الصلاة حيث يراه الناس ، وأساءها حيث يخلو ، فتلك استهانة . استهان بها ربه - عز وجل - .
وقوله : { وَلاَ يَذْكُرُونَ الله إِلاَّ قَلِيلاً } معطوف على { يُرَآءُونَ } أى : أن من صفات المنافقين أنهم إذا قاموا إلى الصلاة قاموا متباطئين متقاعسين يقصدون الرياء والسمعة بصلاتهم ، ولا يذكرون الله فى صلاتهم إلا ذكرا قليلا أو وقتا قليلا ؛ لأنهم لا يخشعون ولا يدرون ما يقولون ، بل هم فى صلاتهم ساهمون لاهون .
روى الإِمام مالك عن العلاء بن عبد الرحمن عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " تلك صلاة المنافق - تلك صلاة المنافق . يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرنى الشيطان ، قام فنقر أربعا ، لا يذكر الله فيها إلا قليلا " .
قال ابن كثير : وكذا رواه مسلم والترمذى والنسائى من حديث إسماعيل بن جعفر المدنى عن العلاء بن عبد الرحمن . وقال الترمذى : حسن صحيح .
ومنهم من فسر قوله { وَلاَ يَذْكُرُونَ الله إِلاَّ قَلِيلاً } أى : ولا يصلون إلا قليلا . لأنهم إنما يصلون رياء فإذا خلوا بأنفسهم لم يصلوا . والأول أولى لأنه أعم وأشمل .
قال صاحب الكشاف : قوله { وَلاَ يَذْكُرُونَ الله إِلاَّ قَلِيلاً } أى : ولا يصلون إلا قليلا ، لأنهم لا يصلون قط غائبين عن عيون الناس إلا ما يجاهرون به . وما يجاهرون به قليل أيضا ، لأنهم ما وجدوا مندوحة من تكلف ما ليس فى قلوبهم لم تكلفوه . أو لا يذكرون الله بالتسبيح والتهليل إلا ذكرا قليلا فى الندرة ، وهكذا ترى كثيرا من المتظاهرين بالإِسلام لو صحبته الأيام والليالى لم تسمع منه تهليلة ولا تسبيحة ولا تحميدة ، ولكن حيث الدنيا يستغرق به أوقاته لا يفتر عنه . . .
فإن قلت ما معنى المراءاة وهى مفالعة من الرؤية ؟ قلت : فيها وجهان :
أحدهما : أن المرائى يريهم عمله وهم يرونه استحسانه .
والثانى : أن يكون من المفاعلة بمعنى التفعيل . فيقال : راءى الناس . يعنى رآهم كقولك نعمه وناعمه . . . روى أبو زيد : رأت المرأة المرآة الرجل : إذا أمسكها لترى وجهه . . .
ثم يمضي السياق بعد هذا الوعد القاطع المطمئن للمؤمنين ، المخذل للمنافقين الذين يتولون الكافرين يبتغون عندهم العزة . . يمضي فيرسم صورة زرية أخرى للمنافقين ، مصحوبة بالتهوين من شأنهم ، وبوعيد الله لهم :
( إن المنافقين يخادعون الله - وهو خادعهم - وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس . ولا يذكرون الله إلا قليلا . مذبذبين بين ذلك . لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء . ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلًا ) .
وهذه لمسة أخرى من لمسات المنهج للقلوب المؤمنة . فإن هذه القلوب لا بد أن تشمئز من قوم يخادعون الله . فإن هذه القلوب تعرف أن الله سبحانه - لا يخدع - وهو يعلم السر وأخفى وهي تدرك أن الذي يحاول أن يخدع الله لا بد أن تكون نفسه محتوية على قدر من السوء ومن الجهل ومن الغفلة كبير . ومن ثم تشمئز وتحتقر وتستصغر كذلك هؤلاء المخادعين !
ويقرر عقب هذه اللمسة أنهم يخادعون الله ( وهو خادعهم ) . . أي مستدرجهم وتاركهم في غيهم ؛ لا يقرعهم بمصيبة تنبههم ؛ ولا يوقظهم بقارعة تفتح عيونهم . . تاركهم يمضون في طريق الهاوية حتى يسقطوا . . وذلك هو خداع الله - سبحانه - لهم . . فالقوارع والمحن كثيرا ما تكون رحمة من الله ، حين تصيب العباد ، فتردهم سريعا عن الخطأ ؛ أو تعلمهم ما لم يكونوا يعلمون . . وكثيرا ما تكون العافية والنعمة استدراجا من الله للمذنبين الغاوين ؛ لأنهم بلغوا من الإثم والغواية ما يستحقون معه أن يتركوا بلا قارعة ولا نذير ؛ حتى ينتهوا إلى شر مصير .
ثم يستمر السياق يرسم لهم صورا زرية شائنة ؛ لا تثير في قلوب المؤمنين إلا الاشمئزاز والاحتقار :
( وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس . ولا يذكرون الله إلا قليلًا ) فهم لا يقومون إلى الصلاة بحرارة الشوق إلى لقاء الله ، والوقوف بين يديه ، والاتصال به ، والاستمداد منه . . إنما هم يقومون يراءون الناس . ومن ثم يقومون كسالى ، كالذي يؤدي عملا ثقيلا ؛ أو يسخر سخرة شاقة ! وكذلك هم لا يذكرون الله إلا قليلا . فهم لا يتذكرون الله إنما يتذكرون الناس ! وهم لا يتوجهون إلى الله إنما هم يراءون الناس .
وهي صورة كريهة - ولا شك - في حس المؤمنين . تثير في نفوسهم الاحتقار والاشمئزاز ، ومن شأن هذا الشعور أن يباعد بينهم وبين المنافقين ؛ وأن يوهن العلائق الشخصية والمصلحية . . وهي مراحل في المنهج التربوي الحكيم ؛ للبت بين المؤمنين والمنافقين !
{ إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم } سبق الكلام فيه أول سورة البقرة . { وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى } متثاقلين كالمكره على الفعل ، وقرئ { كسالى } بالفتح وهما جمعا كسلان . { يراءون الناس } ليخالوهم مؤمنين المراءاة مفاعلة بمعنى التفعيل كنعم وناعم أو للمقابلة فإن المرائي يري من يرائيه عمله وهو يريه استحسانه . { ولا يذكرون الله إلا قليلا } إذ المرائي لا يفعل إلا بحضرة من يرائيه ، وهو أقل أحواله أو لأن ذكرهم باللسان قليل بالإضافة إلى الذكر بالقلب . وقيل المراد بالذكر الصلاة . وقيل الذكر فيها فإنهم لا يذكرون فيها غير التكبير والتسليم .
ومخادعة المنافقين هي لأولياء الله تعالى ، إذ يظنونهم غير أولياء ، ففي الكلام حذف مضاف ، وإلزام ذنب اقتضته أفعالهم ، وإن كانت نياتهم لم تقتضه ، لأنه لا يقصد أحد من البشر مخادعة الله تعالى وقوله { وهو خادعهم } أي منزل الخداع بهم وهذه عبارة عن عقوبة سماها باسم الذنب ، فعقوبتهم في الدنيا ذلهم وخوفهم وغم قلوبهم ، وفي الآخرة عذاب جهنم ، وقال السدي وابن جريج والحسن وغيرهم من المفسرين : إن هذا الخدع هو أن الله تعالى يعطي لهذه الأمة يوم القيامة نوراً لكل إنسان مؤمن أو منافق ، فيفرح المنافقون ويظنون أنهم قد نجوا ، فإذا جاؤوا إلى الصراط طفىء نور كل منافق ، ونهض المؤمنون بذاك ، فذلك قول المنافقين «انظرونا نقتبس من نوركم »{[4341]} وذلك هو الخدع الذي يجري على المنافقين ، وقرأ مسلمة بن عبد الله النحوي «وهو خادعْهم » بإسكان العين وذلك على التخفيف ثم ذكر تعالى كسلهم في القيام إلى الصلاة ، وتلك حال كل من يعمل العمل كارهاً غير معتقد فيه الصواب تقية أو مصانعة ، وقرأ ابن هرمز الأعرج «كَسالى » بفتح الكاف ، وقرأ جمهور الناس «يرءّون » بهمزة مضمومة مشددة بين الراء والواو دون ألف ، وهي تعدية رأى بالتضعيف وهي أقوى في المعنى من { يراءون } لأن معناها يحملون الناس على أن يروهم ، ويتظاهرون لهم بالصلاة وهم يبطنون النفاق ، وتقليله ذكرهم يحتمل وجهين ، قال الحسن : قل لأنه كان لغير الله ، فهذا وجه ، والآخر أنه قليل بالنسبة إلى خوضهم في الباطل وقولهم الزور والكفر .
استئناف ابتدائي ، فيه زيادة بيان لمساويهم . والمناسبةُ ظاهرة . وتأكيد الجملة بحرف ( إنّ ) لتحقيق حالتهم العجيبة وتحقيق ما عقبها من قوله : { وهو خادعهم } .
وتقدّم الكلام على معنى مخادعة المنافقين الله تعالى في سورة البقرة ( 9 ) عند قوله : { يخادعون الله والذين آمنوا } وزادت هذه الآية بقوله : { وهو خادعهم } أي فقابلهم بمثل صنيعهم ، فكما كان فعلهم مع المؤمنين المتبعين أمر الله ورسوله خداعاً لله تعالى ، كان إمْهال الله لهم في الدنيا حتى اطمأنّوا وحسبوا أن حيلتهم وكيدهم راجَا على المسلمين وأنّ الله ليس ناصرهم ، وإنذارهُ المؤمنين بكيدهم حتّى لا تنطلي عليهم حيلهم ، وتقديرُ أخذه إيّاهم بأخَرَة ، شبيهاً بفعل المخادع جزءاً وفاقاً . فإطلاق الخداع على استدراج الله إيّاهم أستعارة تمثيلية ، وحسنَّتَهْا المشاكلة ؛ لأنّ المشاكلة لا تعدو أن تكون استعارة لفظ لغير معناه مع مزيد مناسبة مع لفظ آخر مثل اللفظ المستعار . فالمشاكلة ترجع إلى التلميح ، أي إذا لم تكن لإطلاق اللفظ على المعنى المراد علاقةٌ بين معنى اللفظ والمعنى المراد إلاّ محاكاة اللفظ ، سميّت مشاكلة كقول أبي الرقَعْمَق .
اقترحْ شيئاً نجد لك طبخه *** قلتُ : أطبخوا لي جُبَّةً وقَميصاً
و« كُسالى » جمع كسلان على وزن فُعالى ، والكَسلان المتّصف بالكسل ، وهو الفتور في الأفعال لسآمةٍ أو كراهية . والكسل في الصلاة مؤذن بقلّة اكتراث المصلّي بها وزهده في فعلها ، فلذلك كان من شيم المنافقين . ومن أجل ذلك حذّرت الشريعة من تجاوز حدّ النشاط في العبادة خشية السآمة ، ففي الحديث " عليكم من الأعمال بما تطيقون فإنّ الله لا يَمَلُّ حتّى تَمَلّوا " . ونهى على الصلاة والإنسان يريد حاجته ، وعن الصلاة عند حضور الطعام ، كلّ ذلك ليكون إقبال المؤمن على الصلاة بِشَرهٍ وعزم ، لأنّ النفس إذا تطرّقتها السآمة من الشيء دبّت إليها كراهيته دبيباً حتّى تتمكّن منها الكراهِية ، ولا خطَر على النفس مثلُ أن تكره الخير .
و« كسالى » حال لازمة من ضمير { قاموا } ، لأنّ قاموا لا يصلح أن يقع وحده جواباً ل« إذا » التي شرطها « قاموا » ، لأنّه لو وقع مجرّداً لكان الجواب عين الشرط ، فلزم ذكر الحال ، كقوله تعالى : { وإذا مرّوا باللغو مرّوا كراماً } [ الفرقان : 72 ] وقول الأحوص الأنصاري :
فإذا تَزُولُ تَزُولُ عن مُتَخَمِّطٍ *** تُخْشَى بَوادره على الأقران
وجملة { يراءَون الناس } حال ثانية ، أو صفة ل ( كسالى ) ، أو جملة مستأنفة لبيان جواب من يسأل : ماذا قَصْدُهم بهذا القيام للصلاة وهلاّ تركوا هذا القيام من أصله ، فوقع البيان بأنّهم يُراءون بصلاتهم الناس . { ويُراءون } فعل يقتضي أنّهم يُرون الناس صلاتهم ويُريهم الناس . وليس الأمر كذلك ، فالمفاعلة هنا لمجرد المبالغة في الإراءة ، وهذا كثير في باب المفاعلة .
وقوله : { ولا يذكرون الله إلاّ قليلاً } معطوف على { يُراءُون } إن كان { يراءون } حالاً أو صفة ، وإن كان { يراءون } استئناف فجملة { ولا يذكرون } حال ، والواو واو الحال ، أي : ولا يذكرون الله بالصلاة ألاّ قليلاً .
فالاستثناء إمّا من أزمنة الذكر ، أي إلاّ وقتاً قليلاً ، وهو وقت حضورهم مع المسلمين إذ يقومون إلى الصلاة معهم حينئذٍ فيذكرون الله بالتكبير وغيره ، وإمّا من مصدر { يذكرون } ، أي إلاّ ذكراً قليلاً في تلك الصلاة التي يُراءون بها ، وهو الذكر الذي لا مندوحة عن تركه مثل : التأمين ، وقول ربنا لك الحمد ، والتكبير ، وما عدا ذلك لا يقولونه من تسْبيحِ الركوع ، وقراءةِ ركعات السرّ . ولك أن تجعل جملة { ولا يذكرون } معطوفة على جملة { وإذا قاموا } ، فهي خبر عن خصالهم ، أي هم لا يذكرون الله في سائر أحوالهم إلاّ حالا قليلاً أو زمناً قليلاً وهو الذكر الذي لا يخلو عنه عبد يحتاج لربّه في المنشط والمكره ، أي أنّهم ليسوا مثل المسلمين الذين يذكرون الله على كلّ حال ، ويكثرون من ذكره ، وعلى كلّ تقدير فالآية أفادت عبوديتهم وكفرَهم بنعمة ربّهم زيادة على كفرهم برسوله وقرآنه .