البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{إِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَٰدِعُهُمۡ وَإِذَا قَامُوٓاْ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ يُرَآءُونَ ٱلنَّاسَ وَلَا يَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ إِلَّا قَلِيلٗا} (142)

الكسل : التثاقل ، والتثبط ، والفتور عن الشيء .

ويقال : أكسل الرجل إذا جامع فأدركه الفتور ولم ينزل .

{ إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم } تقدم تفسير يخادعون الله في أوّل البقرة .

ومعنى وهو خادعهم : أي منزل الخداع بهم ، وهذه عبارة عن عقوبة سماها باسم الذنب .

فعقوبتهم في الدنيا ذلهم وخوفهم ، وفي الآخرة عذاب جهنم قاله ابن عطية .

وقال الحسن ، والسدي ، وابن جريج ، وغيرهم من المفسرين : هذا الخداع هو أنه تعالى يعطي هذه الأمّة يوم القيامة نوراً لكل إنسان مؤمن أو منافق ، فيفرح المنافقون ويظنون أنهم قد نجوا ، فإذا جاؤوا إلى الصراط طفىء نور كل منافق ، ونهض المؤمنون .

وذلك قول المنافقين : انظرونا نقتبس من نوركم وذلك هو الخداع الذي يجري على المنافقين .

وقال الزمخشري : وهو خادعهم ، وهو فاعل بهم ما يفعل الغالب في الخداع ، حيث تركهم معصومين الدماء والأموال في الدنيا ، وأعد لهم الدرك الأسفل من النار في الآخرة ، ولم يخلهم في العاجل من فضيحة وإحلال بأس ونقمة ورعب دائم .

والخادع من خدعته إذا غلبته ، وكنت أخدع منه انتهى .

وبعضه مسترق من كلام الزجاج .

قال الزجاج : لما أمر بقبول ما أظهروا كان خادعاً لهم بذلك .

وقرأ مسلمة بن عبد الله النحوي : خادعْهم بإسكان العين على التخفيف ، واستثقال الخروج من كسر إلى ضم .

وهذه الجملة معطوفة على خبر إن .

وقال أبو البقاء : هو في موضع الحال .

{ وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى } أي متوانين لا نشاط لهم فيها ، لأنهم إنما يصلون تستراً وتكلفاً ، وينبغي للمؤمن أن يتحرز من هذه الخصلة التي ذمّ المنافقون ، وأن يقبل إلى صلاته بنشاط وفرغ قلب وتمهل في فعلها ، ولا يتقاعس عنها فعل المنافق الذي يصلي على كرهٍ لاعن طيب نفس ورغبة .

وما زال في كل عصر منافقون يتسترون بالإسلام ، ويحضرون الصلوات كالمتفلسفين الموجودين في عصرنا هذا ، وقد أشار بعض علمائنا إليهم في شعر قاله وضمن فيه بعض الآية ، فقال في أبي الوليد بن رشد الحفيد وأمثاله من متفلسفة الإسلام :

لأشياع الفلاسفة اعتقاد *** يرون به عن الشرح انحلالا

أباحوا كل محظور حرام *** وردّوه لأنفسهم حلالا

وما انتسبوا إلى الإسلام إلا *** لصون دمائهم أن لا تسالا

فيأتون المناكر في نشاط *** ويأتون الصلاة وهم كسالى

وقرأ الجمهور : كسالى بضم الكاف ، وهي لغة أهل الحجاز .

وقرأ الأعرج : كسالى بفتح الكاف وهي لغة تميم وأسد .

وقرأ ابن المسيمفع : كسلى على وزن فعلى ، وصف بما يوصف به المؤنث المفرد على مراعاة الجماعة كقراءة .

{ وترى الناس سكرى } { يراؤُون الناس } أي يقصدون بصلاتهم الرياء والسمعة وأنهم مسلمون .

وهي من باب المفاعلة ، يرى المرائي الناس تجمله بأفعال الطاعة ، وهم يرونه استحسان ذلك العمل .

وقد يكون من باب فاعل بمعنى فعل ، نحو نعمة وناعمة .

وروى أبو زيد : رأت المرأة المرآة إذا أمسكتها لترى وجهها .

وقرئ : يرؤن بهمزة مضمومة مشددة بين الراء والواو .

وقال ابن عطية : وهي أقوى في المعنى من يراؤون ، لأن معناها يحملون الناس على أن يروهم ويتظاهرون لهم بالصلاة وهم يبطنون النفاق .

ونسب الزمخشري هذه القراءة لابن أبي إسحاق إلا أنه قال قرأ : يرؤنهم همزة مشددة مثل : يرعونهم أي يبصرونهم أعمالهم ، ويراؤونهم كذلك .

{ ولا يذكرون الله إلا قليلاً } قال الحسن : قل لأنه كان يعمل لغير الله .

وقال قتادة : ما معناه إنما قل لكونه لم يقبله ، وما رده الله فكثيره قليل ، وما قبله فقليله كثير .

وقال غيره : قل بالنسبة إلى خوضهم في الباطل وقولهم الزور والكفر .

وقال الزمخشري : إلا قليلاً ، لأنهم لا يصلون قط غائبين عن عيون الناس إلا ما يجاهرون به ، وما يجاهرون به قليل ، لأنهم ما وجدوا مندوحة من تكلف ما ليس في قلوبهم لم يتكلفوه ، أولا يذكرون الله بالتسبيح والتهليل إلا ذكراً قليلاً .

ويجوز أن يراد بالقلة العدم انتهى .

ولا يجوز أنْ يراد به العدم ، لأن الاستثناء يأباه ، وقد رددنا هذا القول عليه وعلى ابن عطية في هذه السورة .

وقيل : قل لأنهم قصدوا به الدنيا وزهرتها ، وذلك فإنّ متاع الدنيا قليل ، وقيل في الكلام حذف تقديره : ولا يذكرون عقاب الله وثوابه إلا قليلاً لاستغراقهم في الدنيا ، وغلبة الغفلة على قلوبهم .

والظاهر أنّ الذكر هنا هو باللسان ، وأنهم قلَّ أن يذكروا الله بخلاف المؤمن المخلص ، فإنه يغلب على أحواله ذكر الله تعالى .

/خ159