الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{إِنَّ ٱلۡمُنَٰفِقِينَ يُخَٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَٰدِعُهُمۡ وَإِذَا قَامُوٓاْ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ قَامُواْ كُسَالَىٰ يُرَآءُونَ ٱلنَّاسَ وَلَا يَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ إِلَّا قَلِيلٗا} (142)

وقوله تعالى : { يُخَادِعُونَ } : قد تقدَّم اشتقاقُه ومعنى المفاعلة فيه اول البقرة قوله : { وَهُوَ خَادِعُهُمْ } فيها ثلاثةُ أوجه أحدها : - ذكره أبو البقاء- وهو أنَّها نصبُ على الحال . والثاني : أنها في محل رفع عطفاً على خبر " إنَّ " والثالث : أنها استئناف إخبار بذلك . قال الزمخشري : " وخادِع " اسمُ فاعل من خادَعْتُه فَخَدَعْتُه إذا غلبتَه وكنتَ أخدعَ منه . قوله : " وإذا قاموا " عطفٌ على خبرِ " إنَّ " أخبر عنهم بهذه الصفاتِ الذَّميمة . و " كُسالى " نصبٌ على الحال من ضمير " قاموا " الواقع جواباً . والجمهورُ على ضم الكاف ، وهي لغة أهل الحجاز . وقرأ الأعرج بفتحها ، وهي لغةُ تميم وأسدٍ ، وقرأ ابن السَّمَيْفَع : " كَسْلى " وَصَفَهم بما تُوصف به المؤنثة المفردةُ اعتباراً بمعنى الجماعة كقوله : { وتَرَى الناسَ سَكْرى } والكسلُ : الفتورُ والتواني ، وأَكْسَل : إذا جامَعَ وفَتَر ولم يُنْزِل .

قوله : { يراؤون } في هذه الجملةِ ثلاثةُ أوجهٍ ، أحدُهما : أنها حالٌ من الضمير المستتر في " كُسالى " الثاني : أنها بدلٌ من " كُسالى " ذكره أبو البقاء ، فيكونُ حالاً من فاعل " قاموا " وفيه نظرٌ ، لأنَّ الثاني ليس الأولَ ولا بعضه ولا مشتملاً عليه . الثالث : أنها مستأنفةٌ أَخْبر عنهم بذلك . وأصلُ يُراؤُون : يُرائِيوُن فأُعِلَّ كنظائرِه . والجمهور على " يُراؤُون " من المفاعلةِ قال الزمخشري : فإنْ قلت : ما معنى المراءاة وهي مُفَاعَلَة من الرؤية ؟ قلت : لها وجهان أحدها : أنَّ المرائِيَ يُريهم عمله وهم يُرُوْنه الاستحسانَ . والثاني : أنْ تكونَ من المفاعلة بمعنى التفعيل ، يقال : نعَّمه وناعمه ، وفَنَّقه وفانَقَه ، وعيش مُفَانِق ، وروى أبو زيد : " رأَّت المَرْأةُ المِرْآة " إذا أَمْسَكَتْها له ليرى وجهه ، ويدل عليه قراءةُ ابن أبي اسحاق : " يُرَؤُّونهم " بهمزةٍ مشددةٍ مثلَ : يُدَعُّونهم ، أي : يُبَصِّرونهم ويُرَاؤُوْنهم كذلك ، يعني أنّ قراءةَ " يُرَؤُّونَهم " مِنْ غير ألفٍ بل بهمزةٍ مضمومةٍ مشددةٍ توضِّح أنَّ المُفَاعلةَ هنا بمعنى التفعيل . قال ابن عطية : " وهي - يعني هذه القراءة - أقوى من " يراؤون " في المعنى ؛ لأنَّ معناها يَحْمِلُون الناسَ على أَنْ يَرَوْهم ، ويتظاهرون لهم بالصلاة ويُبْطُنون النفاقَ " وهذا منه ليس بجيد ؛ لأنَّ المفاعلة إنْ كانت على بابها فهي أبلغُ لِما عُرِفَ غيرَ مرة ، وإنْ كانت بمعنى التفعيل فهي وافيةٌ بالمعنى الذي أرداه ، وكأنه لم يعرف أنَّ المفاعلة قد تجيء بمعنى التفعيل . ومتعلِّقُ المراءاةِ محذوفٌ لِيَعُمَّ كلَّ ما يُراءَى به . والأحسن أن تُقَدِّر يُراؤون الناسَ بأعمالهم .

وقوله : { قَلِيلاً } نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ أو لزمان محذوف أي : ذكراً قليلاً أو زماناً قليلاً ، والقلةُ هنا على بابِها ، وجَوَّز الزمخشري وابن عطية أن تكون بمعنى العَدَم ، ويأباه كونُه مستثنى ، وقد تقدَّم الردُّ عليهما في ذلك . وقوله : { وَلاَ يَذْكُرُونَ } يجوز أن يكونَ عطفاً على " يُراؤُون " وأن يكون حالاً من فاعل " يُراؤون " وهو ضعيفٌ لأنَّ المضارع المنفي ب " لا " كالمثبت ، والمُثْبَتُ إذا وَقَع حالاً لا يَقْتَرِنُ بالواوِ ، فإنْ جَعَلَها عاطفةً جاز .