قوله تعالى : { ولقد آتينا داود منا فضلاً } يعني النبوة والكتاب ، وقيل : الملك . وقيل : جميع ما أوتي من حسن الصوت وتليين الحديد وغير ذلك مما خص به ، { يا جبال } أي : وقلنا يا جبال ، { أوبي } أي : سبحي ، { معه } إذا سبح ، وقال القتيبي : أصله من التأويب في السير ، وهو أن يسير النهار كله وينزل ليلاً كأنه قال أوبي النهار كله بالتسبيح معه . وقال وهب : نوحي معه . { والطير } عطف على موضع الجبال ، لأن كل منادى في موضع النصب . وقيل : معناه : وسخرنا وأمرنا الطير أن تسبح معه ، وقرأ يعقوب : والطير بالرفع رداً على الجبال ، أي : أوبي أنت والطير . وكان داود إذا نادى بالناحية أجابته الجبال بصداها وعكفت الطير عليه من فوقه ، فصدى الجبال الذي يسمعه الناس اليوم من ذلك . وقيل : كان داود إذا تخلل الجبال فسبح الله جعلت الجبال تجاوبه بالتسبيح نحو ما يسبح . وقيل : كان داود عليه السلام إذا لحقه فتور أسمعه الله تسبيح الجبال تنشيطاً له . { وألنا له الحديد } حتى كان الحديد في يده كالشمع والعجين يعمل فيه ما يشاء من غير نار ولا ضرب مطرقة . وكان سبب ذلك على ما روي في الأخبار : أن داود عليه السلام لما ملك بني إسرائيل كان من عادته أن يخرج للناس متنكراً ، فإذا رأى رجلاً لا يعرفه تقدم إليه وسأله عن داود ويقول له : ما تقول في داود واليكم هذا أي رجل هو ؟ فيثنون عليه ، ويقولون خيراً ، فقيض الله له ملكاً في صورة آدمي ، فلما رآه داود تقدم إليه على عادته فسأله ، فقال الملك : نعم الرجل هو لولا خصلة فيه ، فراع داود ذلك وقال : ما هي يا عبد الله ؟ قال : إنه يأكل ويطعم عياله من بيت المال ، قال فتنبه لذلك وسأل الله أن يسبب له سبباً يستغني به عن بيت المال ، فيتقوت منه ويطعم عياله ، فألان الله تعالى له الحديد وعلمه صنعة الدرع ، وأنه أول من اتخذها . ويقال : إنه كان يبيع كل درع بأربعة آلاف درهم ، فيأكل ويطعم منها عياله ويتصدق منها على الفقراء والمساكين . ويقال إنه كان يعمل كل يوم درعاً يبيعها بستة آلاف درهم ، فينفق ألفين منها على نفسه وعياله ، ويتصدق بأربعة آلاف على فقراء بني إسرائيل ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كان داود عليه السلام لا يأكل إلا من عمل يده " .
{ 10 - 11 } { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }
أي : ولقد مننا على عبدنا ورسولنا ، داود عليه الصلاة والسلام ، وآتيناه فضلا من العلم النافع ، والعمل الصالح ، والنعم الدينية والدنيوية ، ومن نعمه عليه ، ما خصه به من أمره تعالى الجمادات ، كالجبال والحيوانات ، من الطيور ، أن تُؤَوِّب معه ، وتُرَجِّع التسبيح بحمد ربها ، مجاوبة له ، وفي هذا من النعمة عليه ، أن كان ذلك من خصائصه التي لم تكن لأحد قبله ولا بعده ، وأن ذلك يكون منهضا له ولغيره على التسبيح إذا رأوا هذه الجمادات والحيوانات ، تتجاوب بتسبيح ربها ، وتمجيده ، وتكبيره ، وتحميده ، كان ذلك مما يهيج على ذكر اللّه تعالى .
ومنها : أن ذلك - كما قال كثير من العلماء ، أنه طرب لصوت داود ، فإن اللّه تعالى ، قد أعطاه من حسن الصوت ، ما فاق به غيره ، وكان إذا رجَّع التسبيح والتهليل والتحميد بذلك الصوت الرخيم الشجيِّ المطرب ، طرب كل من سمعه ، من الإنس ، والجن ، حتى الطيور والجبال ، وسبحت بحمد ربها .
ومنها : أنه لعله ليحصل له أجر تسبيحها ، لأنه سبب ذلك ، وتسبح تبعا له .
ومن فضله عليه ، أن ألان له الحديد ، ليعمل الدروع السابغات ،
وعلمه تعالى كيفية صنعته ، بأن يقدره في السرد ، أي : يقدره حلقا ، ويصنعه كذلك ، ثم يدخل بعضها ببعض .
قال تعالى : { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ }
ولما ذكر ما امتن به عليه وعلى آله ، أمره بشكره ، وأن يعملوا صالحا ، ويراقبوا اللّه تعالى فيه ، بإصلاحه وحفظه من المفسدات ، فإنه بصير بأعمالهم ، مطلع عليهم ، لا يخفى عليه منها شيء .
أما النموذج الأول فنراه فى شخص النبيين الكريمين داود وسليمان - عليهما السلام - فقد قال - سبحانه - فى شأنهما : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً . . . العذاب المهين } .
وقوله - سبحانه - : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً } بيان لما مَنّ الله - تعالى - به على عبده داود - عليه السلام - من خير وبركة .
أى : ولقد آتينا عبدنا فضلا عظيما ، وخيرا وفيرا ، وملكا كبيرا ، بسبب إنابته إلينا ، وطاعته لنا .
ثم فصل - سبحانه - مظاهر هذا الفضل فقال : { ياجبال أَوِّبِي مَعَهُ } والتأويب الترديد والترجيع . يقال : أوَّب فلان تأويبا إذا رَجَّع مع غيره ما يقوله .
والجملة مقول لقول محذوف : أى : وقلنا يا جبال رددى ورجعى مع عبدنا داود تسبيحه لنا ، وتقديسه لذاتنا ، وثناءه علينا ، كما قال - تعالى - : { إِنَّا سَخَّرْنَا الجبال مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بالعشي والإشراق } وقوله : { والطير } بالنصب عطفا على قوله { فَضْلاً } أى : وسخرنا له الطير لتسبح معه بحمدنا . أو معطوف على محل { ياجبال } أى : ودعونا الجبال والطير إلى التسبيح معه .
قال الإِمام ابن كثير - رحمه الله : يخبر - تعالى - عما به على عبده ورسوله داود - عليه السلام - مما آتاه من الفضل المبين ، وجمع له بين الانبوة والملك المتكن ، والجنود ذوى العَدَد والعُدَد ، وما أعطاه ومنحه من الصوت العظيم ، الذى كان إذا سبح به ، تسبح معه الجبال الراسيات ، الصم الشامخات ، وتقف له الطيور السارحات . والغاديات الرائحات ، وتجاوبه بأنواع اللغات .
وفى الصحيح " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع صوت أبى موسى الأشعرى يقرأ من الليل ، فوقف فاستمع لقراءته ثم قال : " لقد أوتى هذا مزمارا من مزامير آل داود " " .
وقال صاحب الكشاف : فإن قلت : أى فريق بين هذا النظم وبين أن يقال : { آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً } تأويب الجبال معه والطير ؟
قلت : كم بينهما من الفرق ؟ ألا ترى إلى ما فيه من الفخامة التى لا تخفى ، من الدلالة على عزة الربوبية وكبرياء الألوهية ، حيث جعلت الجبال مُنَزْلَةَّ مَنزِلَةَ العقلاء ، الذين إذا أمرهم أطاعوا وأذعنوا ، وإذا دعاهم سمعوا وأجابوا ، إشعارا بأنه ما من حيوان وجماد وناطق وصامت إلا وهو منقاد لمشيئته ، غير ممتنع على إرادته .
وقوله - تعالى - : { وَأَلَنَّا لَهُ الحديد } ، بيان لنعمة أخرى من النعم التى أنعم بها - سبحانه - عليه .
أى : وصيرنا الحديد لينا فى يده ، بحيث يصبح - مع صلابته وقوته - كالعجيبن فى يده ، يشسكله كيف يشاء ، من غير أن يدخله فى نار ، أو أن يطرقه بمطرقة .
فالجملة الكريمة معطوفة على قوله { آتَيْنَا } ، وهى من جملة الفضل الذى منحه - سبحانه - لنبيه داود - عليه السلام - .
( ولقد آتينا داود منا فضلاً . يا جبال أوبي معه والطير . وألنا له الحديد أن اعمل سابغات ، وقدّر في السرد ، واعملوا صالحاً . إني بما تعملون بصير ) . .
وداود عبد منيب ، كالذي ختم بذكره الشوط الأول : ( إن في ذلك لآية لكل عبد منيب ) . . والسياق يعقب بقصته بعد تلك الإشارة ؛ ويقدم لها بذكر ما آتاه الله له من الفضل . ثم يبين هذا الفضل :
( يا جبال أوبي معه والطير ) . .
وتذكر الروايات أن داود عليه السلام أوتي صوتاً جميلاً خارقاً في الجمال ؛ كان يرتل به مزاميره ، وهي تسابيح دينية ، ورد منها في كتاب " العهد القديم " ما الله أعلم بصحته . وفي الصحيح أن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] سمع صوت أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - يقرأ من الليل فوقف فاستمع لقراءته . ثم قال [ صلى الله عليه وسلم ] : " لقد أوتي هذا مزماراً من زمامير آل داود " .
والآية تصور من فضل الله على داود - عليه السلام - أنه قد بلغ من الشفافية والتجرد في تسابيحه أن انزاحت الحجب بينه وبين الكائنات ؛ فاتصلت حقيقتها بحقيقته ، في تسبيح بارئها وبارئه ؛ ورجّعت معه الجبال والطير ، إذ لم يعد بين وجوده ووجودها فاصل ولا حاجز ، حين اتصلت كلها بالله صلة واحدة مباشرة ؛ تنزاح معها الفوارق بين نوع من خلق الله ونوع ، وبين كائن من خلق الله وكائن ؛ وترتد كلها إلى حقيقتها اللدنية الواحدة ، التي كانت تغشى عليها الفواصل والفوارق ؛ فإذا هي تتجاوب في تسبيحها للخالق ، وتتلاقى في نغمة واحدة ، وهي درجة من الإشراق والصفاء والتجرد لا يبلغها أحد إلا بفضل من الله ، يزيح عنه حجاب كيانه المادي ، ويرده إلى كينونته اللدنية التي يلتقي فيها بهذا الوجود ، وكل ما فيه وكل من فيه بلا حواجز ولا سدود .
وحين انطلق صوت داود - عليه السلام - يرتل مزاميره ويمجد خالقه ، رجّعت معه الجبال والطير ، وتجاوب الكون بتلك الترانيم السارية في كيانه الواحد ، المتجهة إلى بارئه الواحد . . وإنها للحظات عجيبة لا يتذوقها إلا من عنده بها خبر ، ومن جرب نوعها ولو في لحظة من حياته !
وهو طرف آخر من فضل الله عليه . وفي ظل هذا السياق يبدو أن الأمر كان خارقة ليست من مألوف البشر . فلم يكن الأمر أمر تسخين الحديد حتى يلين ويصبح قابلاً للطرق ، إنما كان - والله أعلم - معجزة يلين بها الحديد من غير وسيلة اللين المعهودة . وإن كان مجرد الهداية لإلانة الحديد بالتسخين يعد فضلاً من الله يذكر . ولكننا إنما نتأثر جو السياق وظلاله وهو جو معجزات ، وهي ظلال خوارق خارجة على المألوف .
{ ولقد آتينا داود منا فضلا } أي على سائر الأنبياء وهو ما ذكر بعد ، أو على سائر الناس فيندرج فيه النبوة والكتاب والملك والصوت الحسن . { يا جبال أوبي معه } رجعي معه التسبيح أو النوحة على الذنب ، وذلك أما بخلق صوت مثل صوته فيها أو بحملها إياه على التسبيح إذا تأمل ما فيها ، أو سيري معه حيث سار . وقرئ " أوبي " من الأوب أي ارجعي في التسبيح كلما رجع فيه ، وهو بدل من { فضلا } ، أو من { آتينا } بإضمار قولنا أو قلنا . { والطير } عطف على محل الجبال ويؤيده القراءة بالرفع عطفا على لفظها تشبيها للحركة البنائية العارضة بالحركة الإعرابية أو على { فضلا } أو مفعول معه ل { أوبي } وعلى هذا يجوز أن يكون الرفع بالعطف على ضميره وكان الأصل : ولقد آتينا داود منا فضلا تأويب الجبال والطير ، فبدل بهذا النظم لما فيه من الفخامة والدلالة على عظم شأنه وكبرياء سلطانه ، حيث جعل الجبال والطيور كالعقلاء المنقادين لامره في نفاذ مشيئته فيها . { وألنا له الحديد } جعلناه في يده كالشمع يصرفه كيف يشاء من غير إحماء وطرق بإلانته أو بقوته .
ثم ذكر تعالى نعمته على داود وسليمان احتجاجاً على ما منح محمداً ، أي لا تستبعدوا هذا فقد تفضلنا على عبدنا قديماً بكذا وكذا ، فلما فرغ التمثيل لمحمد صلى الله عليه وسلم رجع التمثيل لهم بسبأ وما كان من هلاكهم بالفكر والعتو ، والمعنى قلنا { يا جبال } ، و { أوبي } معناه ارجعي معه لأنه مضاعف آب يؤوب ، فقال ابن عباس وقتادة وابن زيد وغيرهم معناه سبحي معه أي يسبح هو وترجع هي معه التسبيح ، أي ترده بالذكر ثم ضوعف الفعل للمبالغة ، وقيل معناه سيري معه لأن التأويب سير النهار كان الإنسان يسير بالليل ثم يرجع السير بالنهار أي يردده فكأنه يؤوبه ، فقيل له التأويب ومنه قول الشاعر : [ البسيط ]
يومان يوم مقامات وأندية . . . ويوم سير إلى الأعداء تأويب{[9603]}
ومنه قول ابن أبي مقبل : [ الطويل ]
لحقنا بحي أوبوا السير بعدما . . . دفعنا شعاع الشمس والطرف مجنح
وقال مروح { أوبي } سبحي بلغة الحبشة .
قال القاضي أبو محمد : وهذا ضعيف غير معروف ، وقال وهب بن منبه : المعنى نوحي معه والطير تسعدك على ذلك ، قال فكان داود إذا نادى بالنياحة والحنين أجابته الجبال وعكفت الطير عليه من فوقه ، قال فمن حينئذ سمع صدى الجبال ، وقرأ الحسن وقتادة وابن أبي إسحاق «أوبي » بضم الهمزة وسكون الواو أي ارجعي معه أي في السير أو في التسبيح ، وأمر الجبال كما تؤمر الواحدة المؤنثة لأن جمع ما لا يعقل كذلك يؤمر وكذلك يكنى عنه ويوصف ومنه المثل «يا خيل الله اركبي »{[9604]} ومنه { مآرب أخرى }{[9605]} [ طه : 18 ] وهذا كثير ، وقرأ الأعرج وعاصم بخلاف وجماعة من أهل المدينة «والطيرُ » بالرفع عطفاً على لفظ قوله { يا جبال } ، وقرأ نافع وابن كثير والحسن وابن أبي إسحاق وأبو جعفر «والطيرَ » بالنصب فقيل ذلك عطف على { فضلاً } وهو مذهب الكسائي ، وقال سيبويه هو على موضع قوله { يا جبال } لأن موضع المنادى المفرد نصب ، وقال أبو عمرو : نصبها بإضمار فعل تقديره وسخرنا الطير ، { وألنا له الحديد } معناه جعلناه ليناً ، وروى قتادة وغيره أن الحديد كان له كالشمع لا يحتاج في عمله إلى نار ، وقيل أعطاه قوة يثني بها الحديد ، وروي أنه لقي ملكاً وداود يظنه إنساناً وداود متنكر خرج ليسأل الناس عن نفسه في خفاء ، فقال داود لذلك الشخص الذي تمثل فيه الملك ما قولك في هذا الملك داود ؟ فقال له الملك : نعم العبد لولا خلة فيه ، قال داود وما هي ؟ قال : يرتزق من بيت المال ولو أكل من عمل يديه لتمت فضائله ، فرجع فدعا الله تعالى في أن يعلمه صنعة ويسهلها عليه فعلمه تعالى صنعة لبوس وألان له الحديد ، فكان فيما روي يصنع ما بين يومه وليلته درعاً تساوي ألف درهم حتى ادخر منها كثيراً وتوسعت معيشة منزله ، وكان ينفق ثلث المال في مصالح المسلمين .