البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{۞وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا دَاوُۥدَ مِنَّا فَضۡلٗاۖ يَٰجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُۥ وَٱلطَّيۡرَۖ وَأَلَنَّا لَهُ ٱلۡحَدِيدَ} (10)

مناسبة قصة داود وسليمان ، عليهما السلام ، لما قبلها ، هي أن أولئك الكفار أنكروا البعث لاستحالته عندهم ، فأخبروا بوقوع ما هو مستحيل في العادة مما لا يمكنهم إنكاره ، إذ طفحت ببعضه أخبارهم وشعراؤهم على ما يأتي ذكره ، إن شاء الله ، من تأويب الجبال والطير مع داود ، والإنة الحديد ، وهو الجرم المستعصي ، وتسخير الريح لسليمان ، وإسالة النحاس له ، كما ألان الحديد لأبيه ، وتسخير الجن فيما شاء من الأعمال الشاقة .

وقيل : لما ذكر من ينيب من عباده ، ذكر من جملتهم داود ، كما قال : { فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب } وبين ما آتاه الله على إنابته فقال : { ولقد آتينا داود منا فضلاً } ، وقيل : ذكر نعمته على داود وسليمان ، عليهما السلام ، احتجاجاً على ما منح محمداً صلى الله عليه وسلم : أي لا تستبعدوا هذا ، فقد تفضلنا على عبيدنا قديماً بكذا وكذا .

فلما فرغ التمثيل لمحمد ، عليه السلام ، رجع التمثيل لهم بسبأ ، وما كان من هلاكهم بالكفر والعتو . انتهى .

والفضل الذي أوتي داود : الزبور ، والعدل في القضاء ، والثقة بالله ، وتسخير الجبال ، والطير ، وتليين الحديد ، أقوال .

{ يا جبال } : هو إضمار القول ، إما مصدر ، أي قولنا { يا جبال } ، فيكون بدلاً من { فضلاً } ، وأما فعلاً ، أي قلنا ، فيكون بدلاً من { آتينا } ، وإما على الاستئناف ، أي قلنا { يا جبال } ، وجعل الجبال بمنزلة العقلاء الذين إذا أمرهم أطاعوا وأذعنوا ، وإذا دعاهم سمعوا وأجابوا ، إشعاراً بأنه ما من حيوان وجماد وناطق وصامت إلا وهو منقاد لمشيئته ، غير ممتنع على إرادته ، ودلالة على عزة الربوبية وكبرياء الألوهية ، حيث نادى الجبال وأمرها .

وقرأ الجمهور : { أوّبي } ، مضاعف آب يؤب ، ومعناه : سبحي معه ، قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد .

وقال مؤرج ، وأبو ميسرة : أوبي : سبحي ، بلغة الحبشة ، أي يسبح هو وترجع هي معه التسبيح ، أي تردد بالذكر ، وضعف الفعل للمبالغة ، قاله ابن عطية .

ويظهر أن التضعيف للتعدية ، فليس للمبالغة ، إذ أصله آب ، وهو لازم بمعنى : رجع اللازم فعدى بالتضعيف ، إذ شرحوه بقولهم : رجعي معه التسبيح .

قال الزمخشري : ومعنى تسبيح الجبال : أن الله يخلق فيها تسبيحاً ، كما خلق الكلام في الشجرة ، فيسمع منها ما يسمع من المسبح ، معجزة لداود .

قيل : كان ينوح على ذنبه بترجيع وتحزين ، وكانت الجبال تساعده على نوحه بأصدائها والطير بأصواتها . انتهى .

وقوله : كما خلق الكلام في الشجرة ، يعني أن الذي يسمع موسى هو مما خلقه الله في الشجرة من الكلام ، لا أنه كلام الله حقيقة ، وهو مذهب المعتزلة .

وأما قوله : تساعده الجبال على نوحه بأصدائها فليس بشيء ، لأن الصدى ليس بصوت الجبال حقيقة ، والله تعالى نادى الجبال وأمرها بأن تؤوب معه ، والصدى لا تؤمر الجبال بأن تفعله ، إذ ليس فعلاً لها ، وإنما هو من آثار صوت المتكلم على ما يقوم عليه البرهان .

وقال الحسن : معنى { أوبي معه } : سيري معه أين سار ، والتأويب : سير النهار .

كان الإنسان يسير الليل ثم يرجع للسير بالنهار ، أي يردده ، وقال تميم بن مقبل :

لحقنا بحي أوبوا السير بعدما *** رفعنا شعاع الشمس والطرف تجنح

وقال آخر :

يومان يوم مقامات وأندية *** ويوم سير إلى الاعداء تأويب

وقيل : أوّبي : تصرفي معه على ما يتصرف فيه .

فكان إذا قرأ الزبور ، صوتت الجبال معه وأصغت إليه الطير ، فكأنها فعلت ما فعل .

وقرأ ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، وابن أبي إسحاق : أوبي ، أمر من أوب : أي رجعي معه في التسبيح ، أو في السير ، على القولين .

فأمر الجبال كأمر الواحدة المؤنثة ، لأن جمع ما لا يعقل يجوز فيه ذلك ، ومنه : يا خيل الله اركبي ، ومنه : يا رب أخرى ، وقد جاء ذلك في جميع ما يعقل من المؤنث ، قال الشاعر :

تركنا الخيل والنعم المفدى *** وقلنا للنساء بها أقيمي

لكن هذا قليل .

وقرأ الجمهور : { والطير } ، بالنصب عطفاً على موضع { يا جبال } .

قال سيبويه : وقال أبو عمرو : بإضمار فعل تقديره : وسخرنا له الطير .

وقال الكسائي : عطفاً على { فضلاً } ، أي وتسبيح الطير .

وقال الزجاج : نصبه على أنه مفعول معه .

انتهى ، وهذا لا يجوز ، لأن قبله معه ، ولا يقتضي الفعل اثنين من المفعول معه إلا على البدل أو العطف ، فكما لا يجوز : جاء زيد مع عمرو مع زينب إلا بالعطف ، كذلك هذا .

وقرأ السلمي ، وابن هرمز ، وأبو يحيى ، وأبو نوفل ، ويعقوب ، وابن أبي عبلة ، وجماعة من أهل المدينة ، وعاصم في رواية : والطير ، بالرفع ، عطفاً على لفظ { يا جبال } ؛ وقيل : عطفاً على الضمير في { أوبي } ، وسوغ ذلك الفصل بالظرف ؛ وقيل : رفعاً بالابتداء ، والخبر محذوف ، أي والطير تؤوّب .

وإلانة الحديد ، قال ابن عباس وقتادة : صار كالشمع .

وقال الحسن : كالعجين ، وكان يعمله من غير نار .

وقال السدي : كالطين المبلول والعجين والشمع ، يصرفه كيف شاء من غير نار ولا ضرب مطرقة .

وقيل : أعطي قوة يلين بها الحديد .

وقال مقاتل : وكان يفرغ من الدرع في بعض يوم أو في بعض ليلة ثمنها ألف درهم ، وكان داود يتنكر فيسأل الناس عن حاله ، فعرض له ملك في صورة إنسان فسأله ، فقال : نعم العبد لولا خلة فيه ، فقال : وما هي ؟ فقال : يرتزق من بيت المال ، ولو أكل من عمل يده تمت فضائله ، فدعا الله أن يعلمه صنعة ويسهلها عليه ، فعلمه صنعة الدروع وألان له الحديد فأثرى ، وكان ينفق ثلث المال في مصالح المسلمين .