مناسبة قصة داود وسليمان ، عليهما السلام ، لما قبلها ، هي أن أولئك الكفار أنكروا البعث لاستحالته عندهم ، فأخبروا بوقوع ما هو مستحيل في العادة مما لا يمكنهم إنكاره ، إذ طفحت ببعضه أخبارهم وشعراؤهم على ما يأتي ذكره ، إن شاء الله ، من تأويب الجبال والطير مع داود ، والإنة الحديد ، وهو الجرم المستعصي ، وتسخير الريح لسليمان ، وإسالة النحاس له ، كما ألان الحديد لأبيه ، وتسخير الجن فيما شاء من الأعمال الشاقة .
وقيل : لما ذكر من ينيب من عباده ، ذكر من جملتهم داود ، كما قال : { فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب } وبين ما آتاه الله على إنابته فقال : { ولقد آتينا داود منا فضلاً } ، وقيل : ذكر نعمته على داود وسليمان ، عليهما السلام ، احتجاجاً على ما منح محمداً صلى الله عليه وسلم : أي لا تستبعدوا هذا ، فقد تفضلنا على عبيدنا قديماً بكذا وكذا .
فلما فرغ التمثيل لمحمد ، عليه السلام ، رجع التمثيل لهم بسبأ ، وما كان من هلاكهم بالكفر والعتو . انتهى .
والفضل الذي أوتي داود : الزبور ، والعدل في القضاء ، والثقة بالله ، وتسخير الجبال ، والطير ، وتليين الحديد ، أقوال .
{ يا جبال } : هو إضمار القول ، إما مصدر ، أي قولنا { يا جبال } ، فيكون بدلاً من { فضلاً } ، وأما فعلاً ، أي قلنا ، فيكون بدلاً من { آتينا } ، وإما على الاستئناف ، أي قلنا { يا جبال } ، وجعل الجبال بمنزلة العقلاء الذين إذا أمرهم أطاعوا وأذعنوا ، وإذا دعاهم سمعوا وأجابوا ، إشعاراً بأنه ما من حيوان وجماد وناطق وصامت إلا وهو منقاد لمشيئته ، غير ممتنع على إرادته ، ودلالة على عزة الربوبية وكبرياء الألوهية ، حيث نادى الجبال وأمرها .
وقرأ الجمهور : { أوّبي } ، مضاعف آب يؤب ، ومعناه : سبحي معه ، قاله ابن عباس وقتادة وابن زيد .
وقال مؤرج ، وأبو ميسرة : أوبي : سبحي ، بلغة الحبشة ، أي يسبح هو وترجع هي معه التسبيح ، أي تردد بالذكر ، وضعف الفعل للمبالغة ، قاله ابن عطية .
ويظهر أن التضعيف للتعدية ، فليس للمبالغة ، إذ أصله آب ، وهو لازم بمعنى : رجع اللازم فعدى بالتضعيف ، إذ شرحوه بقولهم : رجعي معه التسبيح .
قال الزمخشري : ومعنى تسبيح الجبال : أن الله يخلق فيها تسبيحاً ، كما خلق الكلام في الشجرة ، فيسمع منها ما يسمع من المسبح ، معجزة لداود .
قيل : كان ينوح على ذنبه بترجيع وتحزين ، وكانت الجبال تساعده على نوحه بأصدائها والطير بأصواتها . انتهى .
وقوله : كما خلق الكلام في الشجرة ، يعني أن الذي يسمع موسى هو مما خلقه الله في الشجرة من الكلام ، لا أنه كلام الله حقيقة ، وهو مذهب المعتزلة .
وأما قوله : تساعده الجبال على نوحه بأصدائها فليس بشيء ، لأن الصدى ليس بصوت الجبال حقيقة ، والله تعالى نادى الجبال وأمرها بأن تؤوب معه ، والصدى لا تؤمر الجبال بأن تفعله ، إذ ليس فعلاً لها ، وإنما هو من آثار صوت المتكلم على ما يقوم عليه البرهان .
وقال الحسن : معنى { أوبي معه } : سيري معه أين سار ، والتأويب : سير النهار .
كان الإنسان يسير الليل ثم يرجع للسير بالنهار ، أي يردده ، وقال تميم بن مقبل :
لحقنا بحي أوبوا السير بعدما *** رفعنا شعاع الشمس والطرف تجنح
يومان يوم مقامات وأندية *** ويوم سير إلى الاعداء تأويب
وقيل : أوّبي : تصرفي معه على ما يتصرف فيه .
فكان إذا قرأ الزبور ، صوتت الجبال معه وأصغت إليه الطير ، فكأنها فعلت ما فعل .
وقرأ ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، وابن أبي إسحاق : أوبي ، أمر من أوب : أي رجعي معه في التسبيح ، أو في السير ، على القولين .
فأمر الجبال كأمر الواحدة المؤنثة ، لأن جمع ما لا يعقل يجوز فيه ذلك ، ومنه : يا خيل الله اركبي ، ومنه : يا رب أخرى ، وقد جاء ذلك في جميع ما يعقل من المؤنث ، قال الشاعر :
تركنا الخيل والنعم المفدى *** وقلنا للنساء بها أقيمي
وقرأ الجمهور : { والطير } ، بالنصب عطفاً على موضع { يا جبال } .
قال سيبويه : وقال أبو عمرو : بإضمار فعل تقديره : وسخرنا له الطير .
وقال الكسائي : عطفاً على { فضلاً } ، أي وتسبيح الطير .
وقال الزجاج : نصبه على أنه مفعول معه .
انتهى ، وهذا لا يجوز ، لأن قبله معه ، ولا يقتضي الفعل اثنين من المفعول معه إلا على البدل أو العطف ، فكما لا يجوز : جاء زيد مع عمرو مع زينب إلا بالعطف ، كذلك هذا .
وقرأ السلمي ، وابن هرمز ، وأبو يحيى ، وأبو نوفل ، ويعقوب ، وابن أبي عبلة ، وجماعة من أهل المدينة ، وعاصم في رواية : والطير ، بالرفع ، عطفاً على لفظ { يا جبال } ؛ وقيل : عطفاً على الضمير في { أوبي } ، وسوغ ذلك الفصل بالظرف ؛ وقيل : رفعاً بالابتداء ، والخبر محذوف ، أي والطير تؤوّب .
وإلانة الحديد ، قال ابن عباس وقتادة : صار كالشمع .
وقال الحسن : كالعجين ، وكان يعمله من غير نار .
وقال السدي : كالطين المبلول والعجين والشمع ، يصرفه كيف شاء من غير نار ولا ضرب مطرقة .
وقيل : أعطي قوة يلين بها الحديد .
وقال مقاتل : وكان يفرغ من الدرع في بعض يوم أو في بعض ليلة ثمنها ألف درهم ، وكان داود يتنكر فيسأل الناس عن حاله ، فعرض له ملك في صورة إنسان فسأله ، فقال : نعم العبد لولا خلة فيه ، فقال : وما هي ؟ فقال : يرتزق من بيت المال ، ولو أكل من عمل يده تمت فضائله ، فدعا الله أن يعلمه صنعة ويسهلها عليه ، فعلمه صنعة الدروع وألان له الحديد فأثرى ، وكان ينفق ثلث المال في مصالح المسلمين .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.