السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{۞وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا دَاوُۥدَ مِنَّا فَضۡلٗاۖ يَٰجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُۥ وَٱلطَّيۡرَۖ وَأَلَنَّا لَهُ ٱلۡحَدِيدَ} (10)

ولما ذكر تعالى من ينيب من عباده وكان من جملتهم داود عليه السلام كما قال ربه { فاستغفر ربه وخرّ راكعاً وأناب } ( ص : 24 ) ذكره بقوله تعالى : { ولقد آتينا } أي : أعطينا إعطاء عظيماً دالاً على نهاية المكنة بما لنا من العظمة { داود منا فضلاً } أي : النبوة والكتاب ، أو الملك أو جميع ما أوتي من حسن الصوت وتليين الحديد وغير ذلك مما خص به ، وهذا الأخير أولى .

تنبيه : قوله تعالى { منا } فيه إشارة إلى بيان فضل داود عليه السلام لأن قوله تعالى { ولقد آتينا داود منا فضلاً } مستقل بالمفهوم وتام كما يقول القائل : آتى الملك زيداً خلعة فإذا قال القائل : أتاه منه خلعه يفيد أنه كان من خاص ما يكون له ، فكذلك إيتاء الله تعالى الفضل عام لكن النبوة من عنده خاص بالبعض ونظيره قوله تعالى { يبشّرهم ربهم برحمة منه ورضوان } ( التوبة : 21 ) فإن رحمة الله تعالى واسعة تصل إلى كل أحد ، لكن رحمته في الآخرة على المؤمنين رحمة من عنده لخواصه وقوله تعالى { يا جبال } محكي بقول مضمر ثم إن شئت قدرته مصدراً ، ويكون بدلاً من فضل على جهة تفسيره به كأنه قيل آتيناه فضلاً قولنا يا جبال ، وإن شئت قدرته فعلاً وحينئذ لك وجهان : إن شئت جعلته بدلاً من آتينا معناه آتينا قلنا : يا جبال ، وإن شئت جعلته مستأنفاً { أوبي } أي : رجّعي { معه } بالتسبيح إذا سبح أمر من التأويب وهو الترجيع وقيل : التسبيح بلغة الحبشة وقال العيني : أصله من التأويب في السير ، وهو أن يسير النهار كله وينزل ليلاً كأنه يقول : أوبي النهار كله بالتسبيح معه وقال وهب : نوحي معه وقيل : سيري معه وقوله تعالى { والطير } منصوب بإجماع القراء السبعة واختلف في وجه نصبه على أوجه : أحدها : أنه عطف على محل جبال لأنه منصوب تقديراً لأن كل منادى في موضع نصب . الثاني : أنه عطف على فضلاً قاله الكسائي ، ولابد من حذف مضاف تقديره آتيناه فضلاً وتسبيح الطير . الثالث : أنه منصوب بإضمار فعل أي : وسخرنا له الطير قاله أبو عمرو .

تنبيه : لم يكن الموافق له في التأويب منحصراً في الطير والجبال ولكن ذكر الجبال لأن الصخور للجمود والطير للنفور وكلاهما تستبعد منه الموافقة ، فإذا وافقته هذه الأشياء فغيرها أولى ، ثم من الناس من لم يوافقه وهم القاسية قلوبهم التي هي أشد قسوة قال المفسرون : كان داود عليه الصلاة والسلام إذا نادى بالنياحة أجابته الجبال بصداها ، وعكفت الطير عليه من فوقه فصدى الجبال الذي يسمعه الناس اليوم من ذلك وقيل : كان داود إذا تخلل الجبال فسبح الله جعلت الجبال تجاوبه بالتسبيح نحو ما يسبح ، وقيل : كان داود إذا لحقه فتور أسمعه الله تسبيح الجبال تنشيطاً له . وقال وهب بن منبه : كان يقول للجبال سبحي ، وللطير أجيبي ، ثم يأخذ في تلاوة الزبور بين تلك بصوته الحسن فلا يرى الناس منظراً أحسن من ذلك ، ولا يسمعون شيئاً أطيب منه ، وذلك كما : «كان الحصى يسبح في كف نبينا صلى الله عليه وسلم وكف أبي بكر وعمر رضي الله عنهما » وكما : «كان الطعام يسبح في حضرته الشريفة وهو يؤكل » ، وكما : «كان الحجر يسلم عليه وأسكفة الباب وحوائط البيت تؤمن على دعائه » ، و«حنين الجذع مشهور » ، وكما : «كان الضب يشهد له » و«الجمل يشكو إليه ويسجد بين يديه » ونحو ذلك ، وكما : «جاء الطائر الذي يسمى الحمرة تشكو الذي أخذ بيضها ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم برده رحمة لها » .

ولما ذكر تعالى طاعة أكثف الأرض وألطف الحيوان الذي أنشأه الله تعالى منها ، ذكر سبحانه وتعالى ما أنشأه من ذلك الأكثف ، وهو أصلب الأشياء بقوله تعالى : { وألنا له الحديد } أي : الذي ولدناه من الجبال جعلناه في يده كالشمع والعجين يعمل منه ما يشاء من غير نار ولا ضرب مطرقة ، وذلك في قدرة الله تعالى يسير ، وكان سبب ذلك ما روي في الأخبار أن داود عليه السلام لما ملك بني إسرائيل كان من عادته أن يخرج للناس متنكراً ، فإذا رأى رجلاً لا يعرفه تقدم إليه يسأله عن داود ويقول له ما تقول في داود ، وإليكم هذا أي رجل هو فيثنون عليه ويقولون خيراً ، فقيض الله تعالى له ملكاً في صورة آدمي فلما رآه داود تقدم إليه على عادته يسأله فقال الملك : نعم الرجل هو لولا خصلة فيه فراع داود ذلك وقال : ما هي يا عبد الله ؟ فقال : إنه يأكل ويطعم عياله من بيت المال قال : فتنبه لذلك وسأل الله تعالى أن يسبب له سبباً يستغني به عن بيت المال يتقوت منه ويطعم عياله ، فألان الله له الحديد وعلمه صنعة الدروع ، وإنه أول من اتخذها يقال : إنه كان يبيع كل درع بأربعة آلاف درهم فيأكل ويطعم منها عياله ، ويتصدق منها على الفقراء والمساكين ويقال : إنه كان يعمل كل يوم درعاً يبيعه بستة آلاف درهم ، فينفق منها ألفين على نفسه وعياله ، ويتصدق بأربعة آلاف درهم على فقراء بني إسرائيل ، وإنما اختار الله تعالى له ذلك لأنه وقاية للروح التي هي من أمره ويحفظ الآدمي المكرم عند الله تعالى من القتل ، فالزرّاد خير من القواس والسياف وغيرهما ، لأن القوس والسيف وغيرهما من السلاح ربما يستعمل في قتل النفس المحرمة بخلاف الدرع قال صلى الله عليه وسلم : «كان داود عليه السلام لا يأكل إلا من عمل يده » .