ولما ذكر تعالى من ينيب من عباده وكان من جملتهم داود عليه السلام كما قال ربه { فاستغفر ربه وخرّ راكعاً وأناب } ( ص : 24 ) ذكره بقوله تعالى : { ولقد آتينا } أي : أعطينا إعطاء عظيماً دالاً على نهاية المكنة بما لنا من العظمة { داود منا فضلاً } أي : النبوة والكتاب ، أو الملك أو جميع ما أوتي من حسن الصوت وتليين الحديد وغير ذلك مما خص به ، وهذا الأخير أولى .
تنبيه : قوله تعالى { منا } فيه إشارة إلى بيان فضل داود عليه السلام لأن قوله تعالى { ولقد آتينا داود منا فضلاً } مستقل بالمفهوم وتام كما يقول القائل : آتى الملك زيداً خلعة فإذا قال القائل : أتاه منه خلعه يفيد أنه كان من خاص ما يكون له ، فكذلك إيتاء الله تعالى الفضل عام لكن النبوة من عنده خاص بالبعض ونظيره قوله تعالى { يبشّرهم ربهم برحمة منه ورضوان } ( التوبة : 21 ) فإن رحمة الله تعالى واسعة تصل إلى كل أحد ، لكن رحمته في الآخرة على المؤمنين رحمة من عنده لخواصه وقوله تعالى { يا جبال } محكي بقول مضمر ثم إن شئت قدرته مصدراً ، ويكون بدلاً من فضل على جهة تفسيره به كأنه قيل آتيناه فضلاً قولنا يا جبال ، وإن شئت قدرته فعلاً وحينئذ لك وجهان : إن شئت جعلته بدلاً من آتينا معناه آتينا قلنا : يا جبال ، وإن شئت جعلته مستأنفاً { أوبي } أي : رجّعي { معه } بالتسبيح إذا سبح أمر من التأويب وهو الترجيع وقيل : التسبيح بلغة الحبشة وقال العيني : أصله من التأويب في السير ، وهو أن يسير النهار كله وينزل ليلاً كأنه يقول : أوبي النهار كله بالتسبيح معه وقال وهب : نوحي معه وقيل : سيري معه وقوله تعالى { والطير } منصوب بإجماع القراء السبعة واختلف في وجه نصبه على أوجه : أحدها : أنه عطف على محل جبال لأنه منصوب تقديراً لأن كل منادى في موضع نصب . الثاني : أنه عطف على فضلاً قاله الكسائي ، ولابد من حذف مضاف تقديره آتيناه فضلاً وتسبيح الطير . الثالث : أنه منصوب بإضمار فعل أي : وسخرنا له الطير قاله أبو عمرو .
تنبيه : لم يكن الموافق له في التأويب منحصراً في الطير والجبال ولكن ذكر الجبال لأن الصخور للجمود والطير للنفور وكلاهما تستبعد منه الموافقة ، فإذا وافقته هذه الأشياء فغيرها أولى ، ثم من الناس من لم يوافقه وهم القاسية قلوبهم التي هي أشد قسوة قال المفسرون : كان داود عليه الصلاة والسلام إذا نادى بالنياحة أجابته الجبال بصداها ، وعكفت الطير عليه من فوقه فصدى الجبال الذي يسمعه الناس اليوم من ذلك وقيل : كان داود إذا تخلل الجبال فسبح الله جعلت الجبال تجاوبه بالتسبيح نحو ما يسبح ، وقيل : كان داود إذا لحقه فتور أسمعه الله تسبيح الجبال تنشيطاً له . وقال وهب بن منبه : كان يقول للجبال سبحي ، وللطير أجيبي ، ثم يأخذ في تلاوة الزبور بين تلك بصوته الحسن فلا يرى الناس منظراً أحسن من ذلك ، ولا يسمعون شيئاً أطيب منه ، وذلك كما : «كان الحصى يسبح في كف نبينا صلى الله عليه وسلم وكف أبي بكر وعمر رضي الله عنهما » وكما : «كان الطعام يسبح في حضرته الشريفة وهو يؤكل » ، وكما : «كان الحجر يسلم عليه وأسكفة الباب وحوائط البيت تؤمن على دعائه » ، و«حنين الجذع مشهور » ، وكما : «كان الضب يشهد له » و«الجمل يشكو إليه ويسجد بين يديه » ونحو ذلك ، وكما : «جاء الطائر الذي يسمى الحمرة تشكو الذي أخذ بيضها ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم برده رحمة لها » .
ولما ذكر تعالى طاعة أكثف الأرض وألطف الحيوان الذي أنشأه الله تعالى منها ، ذكر سبحانه وتعالى ما أنشأه من ذلك الأكثف ، وهو أصلب الأشياء بقوله تعالى : { وألنا له الحديد } أي : الذي ولدناه من الجبال جعلناه في يده كالشمع والعجين يعمل منه ما يشاء من غير نار ولا ضرب مطرقة ، وذلك في قدرة الله تعالى يسير ، وكان سبب ذلك ما روي في الأخبار أن داود عليه السلام لما ملك بني إسرائيل كان من عادته أن يخرج للناس متنكراً ، فإذا رأى رجلاً لا يعرفه تقدم إليه يسأله عن داود ويقول له ما تقول في داود ، وإليكم هذا أي رجل هو فيثنون عليه ويقولون خيراً ، فقيض الله تعالى له ملكاً في صورة آدمي فلما رآه داود تقدم إليه على عادته يسأله فقال الملك : نعم الرجل هو لولا خصلة فيه فراع داود ذلك وقال : ما هي يا عبد الله ؟ فقال : إنه يأكل ويطعم عياله من بيت المال قال : فتنبه لذلك وسأل الله تعالى أن يسبب له سبباً يستغني به عن بيت المال يتقوت منه ويطعم عياله ، فألان الله له الحديد وعلمه صنعة الدروع ، وإنه أول من اتخذها يقال : إنه كان يبيع كل درع بأربعة آلاف درهم فيأكل ويطعم منها عياله ، ويتصدق منها على الفقراء والمساكين ويقال : إنه كان يعمل كل يوم درعاً يبيعه بستة آلاف درهم ، فينفق منها ألفين على نفسه وعياله ، ويتصدق بأربعة آلاف درهم على فقراء بني إسرائيل ، وإنما اختار الله تعالى له ذلك لأنه وقاية للروح التي هي من أمره ويحفظ الآدمي المكرم عند الله تعالى من القتل ، فالزرّاد خير من القواس والسياف وغيرهما ، لأن القوس والسيف وغيرهما من السلاح ربما يستعمل في قتل النفس المحرمة بخلاف الدرع قال صلى الله عليه وسلم : «كان داود عليه السلام لا يأكل إلا من عمل يده » .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.