مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{۞وَلَقَدۡ ءَاتَيۡنَا دَاوُۥدَ مِنَّا فَضۡلٗاۖ يَٰجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُۥ وَٱلطَّيۡرَۖ وَأَلَنَّا لَهُ ٱلۡحَدِيدَ} (10)

{ ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد }

وفي الآية مسائل :

المسألة الأولى : قوله تعالى : { منا } إشارة إلى بيان فضيلة داود عليه السلام ، وتقريره هو أن قوله : { ولقد آتينا داوود منا فضلا } مستقل بالمفهوم وتام كما يقول القائل : آتي الملك زيدا خلعة ، فإذا قال القائل آتاه منه خلعة يفيد أنه كان من خاص ما يكون له ، فكذلك إيتاء الله الفضل عام لكن النبوة من عنده خاص بالبعض ، ومثل هذا قوله تعالى : { يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان } فإن رحمة الله واسعة تصل إلى كل أحد في الدنيا لكن رحمته في الآخرة على المؤمنين رحمة من عنده لخواصه فقال : { يبشرهم ربهم برحمة منه } .

المسألة الثانية : في قوله : { يا جبال أوبي معه } قال الزمخشري : { يا جبال } بدل من قوله : { فضلا } معناه آتيناه فضلا قولنا يا جبال ، أو من آتينا ومعناه قلنا يا جبال .

المسألة الثالثة : قرئ ( أوبي ) بتشديد الواو من التأويب وبسكونها وضم الهمزة أوبي من الأوب وهو الرجوع والتأويب الترجيع ، وقيل بأن معناه سيرى معه ، وفي قوله : { يسبحن } قالوا : هو من السباحة وهي الحركة المخصوصة .

المسألة الرابعة : قرئ { والطير } بالنصب حملا على محل المنادى والطير بالرفع حملا على لفظه .

المسألة الخامسة : لم يكن الموافق له في التأويب منحصرا في الجبال والطير ولكن ذكر الجبال ، لأن الصخور للجمود والطير للنفور تستبعد منهما الموافقة ، فإذا وافقه هذه الأشياء فغيرها أولى ، ثم إن من الناس من لم يوافقه وهم القاسية قلوبهم التي هي أشد قسوة من الحجارة .

المسألة السادسة : قوله : { وألنا له الحديد } عطف ، والمعطوف عليه يحتمل أن يكون قلنا المقدر في قوله يا جبال تقديره قلنا : يا جبال أوبي وألنا ، ويحتمل أن يكون عطفا على آتينا تقديره آتيناه فضلا وألنا له .

المسألة السابعة : ألان الله له الحديد حتى كان في يده كالشمع وهو في قدرة الله يسير ، فإنه يلين بالنار وينحل حتى يصير كالمداد الذي يكتب به ، فأي عاقل يستبعد ذلك من قدرة الله ، قيل إنه طلب من الله أن يغنيه عن أكل مال بيت المال فألان له الحديد وعلمه صنعة اللبوس وهي الدروع ، وإنما اختار الله له ذلك ، لأنه وقاية للروح التي هي من أمره وسعى في حفظ الآدمي المكرم عند الله من القتل ، فالزراد خير من القواس والسياف وغيرهما .